وأمر هؤلاء الباعة المتجولين عجيب فلقد عرض علي أحدهم مهرازا أقسم بالله إنه لمن أجود المهاريز وإنه ليس فيه واد ولا ثقب ولا فلح فقلت في نفسي إن اشتره فقد اشتراه من هو خير مني وإن أرفضه فقد رفضه من هو خير مني أعني بمن اشتراه كل من اشترى مهرازا من أهل هذه الملة منذ أن خلقت الدنيا إلى يومنا هذا.وأمر هؤلاء الباعة المتجولين عجيب فلقد عرض علي أحدهم مهرازا أقسم بالله إنه لمن أجود المهاريز وإنه ليس فيه واد ولا ثقب ولا فلح فقلت في نفسي إن اشتره فقد اشتراه من هو خير مني وإن أرفضه فقد رفضه من هو خير مني أعني بمن اشتراه كل من اشترى مهرازا من أهل هذه الملة منذ أن خلقت الدنيا إلى يومنا هذا وأعني بمن رفضه أبا مدين الغوث بن الشيخ أحمد بن اسليمان فقد روي أنه كان في مدينة اندر وعرضت عليه كورية من أهل تلك المدينة أن يشتري منها مهرازا فاستعاذ بالله وأرسلها مثلا.
وعلى ذكر المهراز أحيطكم علما أني في إحدى جولاتي في المقاطعة مررت على معلم صبيان في إحدى مدارسنا النظامية قد ناهز الأربعين وهو قاعد على مهراز أمام الصبيان اتخذه كرسيا وهذا من الأشياء النادرة وأندر منه ما تتحدث به العامة في مدينتنا هذه الأيام من أن رجلا قام إلى امرأته يضربها لأنها لم تعد الطعام في الوقت المعتاد وأنها لو لم يلهمها الله أن تمسك بأعظم أصابعه قدرا لأتى عليها ضربا فلقد جاءته بشفيع لا يستطيع رده كما يقولون ويحكون أن رجلا عض امرأته في منكبها وآخر ضربها بلوح مكتوب فيه سورة القارعة فشجها في أم رأسها سبحان الله ما جعل اللوح لتشج به الرؤوس فإن كان ولا بد فإنما للرؤوس الهراوي والفؤوس ولكنه قضاء من الله وقدر.
هذه الأخبار أقصها عليكم ترفيها وإحماضا فيها ذكري وذكر من معي وأنا لا أعلم عنكم خبرا ولا أثرا لأنكم لم تكتبوا لي رسالة واحدة فيا ليت شعري أنسيتموني أم أردتم أن يحل عليكم غضبي أم الأقلام نفدت أو الأوراق انقرضت.
ومن أجل ذلك أصبحت مولعا بسماع البلاغات الإذاعية لا أفتر عن سماعها لعلي ألتقط خبرا عنكم فلله البلاغات إنها من حسنات القرن العشرين ولو وجدها الأولون لوقوا كثيرا من مصارع السوء وحققوا أكثر من الفتوح فلو كانت الإذاعة موجودة في زمن أبي سفيان بن حرب مثلا لأرسل بلاغا إلى قريش يقول فيه: يرفع أبو سفيان بن حرب إلى علم جيش قريش في ضواحي بدر أن العير التي يعلمون قد نجت وأنه لا داعي إلى الذهاب إلى بدر فرجعوا وسلموا ولكنه أمر قدره الله فهيأ له أسبابا وليست البلاغات وحدها هي حسنات القرن العشرين فالإسبرين والسيارات وتقدم المرأة والطائرة كلها من حسنات القرن العشرين وسيجيء الكثير من التقدم في القرون القادمة ففي سنة 2000 سيبلغ تقدم الدول الأوربية أوجه ويبدأ في التقلص شيئا فشيئا في أوربا إذا كان سنة2300 ولم تقم الساعة ففي هذه السنين سيقع من التقدم ما لو تحدث عنه متحدث لعد من المجانين كما لو تحدث رجل من أهل القرن الخامس عما حدث في قرننا هذا من الأمور العظام. ومن حسنات قرننا هذا البريد فإنه وإن كان موجودا في القديم إلا أنه أصبح أكثر فاعلية كما يقولون ولكني أحسبكم لا تعرفون عن البريد شيئا قل أو كثر فلو كنتم على علم بالبريد لأرسلتم لي رسائل كثيرة.
إنني كما تعلمون أعيش في جاهلية جهلاء لا علم لي بأخبار الخيام فآخر رسالة وصلتني عنهم مضى عليها ثلاثة أشهر حسبتها لطولها أطول من الفترة التي بين رسالة عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم فبالله عليكم إلا ما راسلتموني بأخبار الخيام أقول الخيام وما هن بالخيام ولكنها الدور وعادة اللسان تسمية الأشياء بما كانت عليه فهو من المجاز المرسل فحينا والحمد لله أصبح حاضرة كالبصرة والكوفة والموصل قرية تتكون من زهاء خمسين بيتا ولو كانت قصيدة لعدت من المعلقات أو من المفضليات أو من المنتقيات أو من المجمهرات ما في بيت منها إقواء ولا إيطاء ولا سناد ما هو إلا الإسمنت والآجر وخالص الحديد وقليل من الطين ولا عيب في الطين فقد خلق الله تبارك وتعالى الإنسان في أحسن تقويم وجعله من سلالة من طين ولاسيما إذا كان الطين مموها ومغشى وتعلمون ما في هذين من الخلاف في المذهب واختلاف العلماء رحمة لهذه الأمة وبالجملة فالدور خير من الخيام فنحن الآن يجوز لنا أن نتمثل بقول يزيد بن معاوية أو غيره:
[| [( صاح حيى الإله حيــــا ودورا ۞ عند أصل القناة من جيــــرون
عن يساري إذا دخلت إلى الدا ۞ ر وإن كنت خارجا عن يميني )] |]
وقد كنا تتمثل بقول جرير:
[| [( متى كان الخيام بذي طلوح ۞ سقيت الغيث أيتها الخيـــام )] |]
فشتان ما بين ذين.
إلا أن الدور لا يتم شأنها ولا يصلح بنيانها إلا بالأشجار فالشجر يمسك الأرض أن تزول فإذا كانت الأرض عراء كانت الرمال إلى الذهاب أسرع والرمال كما في كريم علمكم هي أهم أسباب الخراب في المدن وقد جعل الله هلاك عاد الأولى بالريح والرمال فعلى أهلنا حفظهم الله ورعاهم أن يغرسوا الأشجار أمام دورهم وغرس الأشجار يسير وما هو بيسير وإنه ليسير يكفي أن يلتزم كل أحد بغرس شجرة واحدة ومن لم يستطع فلينب عنه أحدا فإذا فعل الناس هذا فلن تمضي عليهم خمسة عشر يوما حتى تأخذ الأرض زخرفها وتزين فقد فعل هذا قبلنا أهل تونس وفعله أهل التاكلالت وإن لكم فيهم لأسوة حسنة وهذا من أفضل التعاون وقد فعله أهل الصين لقتل الطيور المضرة بالمحاصيل بأمر من شيخهم ماوتستنغ فأمر أن يلتزم كل صيني بقتل طير واحد لا يزيد عليه ولا ينقص فلم يمض أسبوع واحد حتى أهلك الله الطيور على أيدي الصينيين حتى أنه لم يوجد طير واحد منها بعد ذلك فابتلى الله حراثتهم بالحشرات وقد كانت الطيور تأكلها سبحان من جلت حكمته.
فعلى أهلنا حفظهم الله أن يعتنوا بغرس الأشجار لأن بها قوام عمرانهم لأن الجدار إذا لم تشتد الأرض حوله بالنبات فإن الريح ذاهبة بالرمال من تحته فيبقى متكسرا يريد أن ينقض وإصلاحه يتطلب نفقات كثيرة وبعضهم يكتفي بتحصينها بدكة من الإسمنت يسمونها دنديرة ثم لا تلبث أن تلعب الرمال من تحتها ففي الحقيقة لا بد للدنديرة من دنديرة إلى ما لا نهاية له ورحم الله عثمان بن عفان رضي الله عنه فلولا هو لكان الأمراء من بعده يخطبون في بئر وذلك لأنه رجع إلى درجة المنبر التي كان يخطب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك الشأن في هذه الدنديرات فإذا لم يجعل لها حد فستبلغ الماء عما قريب ولقد أشرت على أهلنا بهذا الرأي والحال صالح والشمل جامع والأمر متدارك وذلك لما رأيت كل دار من هذه الدور وحولها
[| [( سيل من الدعص أغشته جوانبها ۞ نكباء تسحب أعلاه فينسحــــب )] |]
وإياي أن أكون كالذي يقول:
[| [( أمرتهم أمري بمنعرج اللـــــــوى ۞ فلم يستبينوا النصح إلا ضحى غد )] |]
ولا أعرفن بيوتا مهجورة وسقفا منثورة وجدرانا مكسورة فترجعن بعد ذلك خياما بدوا وقد نسي النساء فن الخياطة والحياكة والغزل ولا شيء أقبح من التعرب بعد الهجرة ولاسيما بعد نسيان النساء صنع البيوت وقد شبه العرب ريش الطائر المنتفخ بالخباء الذي تقوم عليه المرأة الخرقاء قال علقمة بن عبدة في وصف الظليم:
[| [( صعل كأن جناحيه وجؤجأه ۞ بيت أطافت به خرقاء مهدوم )] |]
والخرق عيب في النساء وليست خرقاء التي يتغزل بها ذو الرمة بخرقاء كما هو مذكور في محله وحسن بالمرأة أن تكون صناع اليد قال الشاعر:
[| [( وكوني بالمكارم ذكريني ۞ ودلي دل ماجدة صنـــاع )] |]
وعلى أهلنا أيضا أن يعتنوا بنظافة الدور لأن الدار باقية والباقي ينبغي أن يكون نظيفا وقد كان الأمر في الأخبية يسيرا لأنها زائلة بخلاف الدور وهناك قواعد للنظافة معروفة لا أستطيع في هذه الرسالة بثها وأهلنا حفظهم الله يعلمون أن الملائكة يحبون النظافة وكذلك الإنس ثم هي مدعاة للصحة وقد ندب الشرع إليها.
وأراكم لم تكتبوا لي بشأن غلاء اللحم فإن من قواعد الحضر التي يبنى عليها توفر اللحم وغلاؤه من غلاء مصادره ولا شك أن ثمن الحيوان أصبح غاليا وإن شئت قلت عاليا بالمهملة حتى أن أحدا ممن لم يبلغه الأمر لو سمع بثمن واحد من هذه الحيوانات لحسبه حيوانا ناطقا وهذا الغلاء طبيعي لأن الحيوان قل بعد الجفاف وذلك لأن الأرض تحدث لها أشياء عند الجفاف منها أنها تطهر بالجفاف عند كثير من العلماء ويقل مرعاها بالجفاف فتقل مواشيها فتجوع أهلها إلا من رحم ربك وأغلى هذه الحيوانات الغنم ضأنا ومعيزا وهو غلاء ما كان معروفا في الزمن الأول وأنتم تحفظون قول الشاعر في عنزه ولا شك أنها كانت من خيرة معيزه قال:
[| [( فعوضني عنها غناي ولم تكن ۞ تساوي عنزي غير خمـس دراهم )] |]
ولو أن ظالمة عفا الله عنها باعت عنزها وتيسها أيامنا هذه لعادا عليها بمال يمكنها أن تحج منه وتعتمر مرارا مما يكفر عنها بعض ما كسبت ولو أن عمرو بن هند كانت عنده فكرة عن ثمن رغوث الضأن في زمننا هذا لما قتل طرفة بن العبد بل ولأجازه وذلك حين قال طرفة:
[| [( فليت لنا مكان الملك عمرو ۞ رغوث حول قبتنا تخـــــور )] |]
ولتغاضى عن قوله بعد ذلك :
[| [( لعمرك إن قابوس بن هند ۞ ليخلط ملكه نوك كثيـــــر )] |]
ومما زاد في هذا الغلاء اعتقاد الناس أن اللحم أمر لازب واجب عليهم وهو اعتقاد فاسد لأن الشارع اشترط في الأضحية وهي من شعائر الدين أن لا تكون مجحفة وبالأحرى غيرها فالرأي عندي لأهلنا أن لا يوجبوا على أنفسهم اللحم وأن في القطاني و الشراكيش و أبي لقمان ما فيه سداد من عوز ولو أنهم كانوا حاضرة البحر لوجدوا السمك ولكنهم حاضرة الرمل وليس في الرمل إلا الثعابين وبنات نينة وهذه الأشياء مباحة شرعا لكنها معيفة طبعا وأيضا ذكاة الحية فإنها من أصعب الأشياء وقد ذكرها الفقهاء في فصل المباح فلتنظر هنالك ولولا أن يقال إني كالثعلب رأى لحما معلقا على شجرة فلم يستطع أن يتسلق عليه الشجرة فقال إنه لحم مر لولا ذلك لقلت إنه لا خير في السمك لأنه لا يشرب عليه اللبن والذي في أرض مقامة منه إنما هو اليابس المنتن وقد فهم بعض الظرفاء عدم جواز أكل هذا النوع من قوله تعالى لحما طريا أخذا بمفهوم الصفة قال لأن هذا ليس بطري والعلم بيد الله يؤتيه من يشاء.
ومن قواعد الحضر التي يبنى عليها أن يوجد فيه فرن الخبز والخبز كما في كريم علمكم هو المسمى بالعامية ب امبور والسبب في احتياج أهل الحضر إليه حسب ما نرى والله أعلم هو أنهم لا لبن لهم يصطبحون به وقد قلت في المعنى:
[| [(
إن الصبوح إذا ما لم يكن فيه۞شيء من الخبز يدفيه ويضفيه
لا خير فيه وبعض الزبد يأدمه ۞لا خير فيه إذا ما لم يكن فيه
هذا إذا لم يكن رسل فمن ظفرت۞بالرسل كفاه إن الرسل يكفيه
ذرني وكوب النشا تغلي جوانبه۞لا يقدر المرء يدنيه إلى فيه
)] |]
وبناء هذه الأفران سهل جدا فالفرن يتكون من طبقتين طبقة للنار وطبقة للعجين باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب.
ومن قواعد الحضر التي لا يصح بدونها بناء الكنوف والمستراحات بأفنية الدور وعهدي بهذا النوع قليلا في حينا فما في الحي حسب ما علمت إلا ثلاثة كنف كنيف عند آل فلان وآخر تحت بني فلان وثالث لبني فلان فهذه الثلاثة لو فرضنا أنها كاملة الشروط فما تغني من قريش فليعلم أهلنا حفظهم الله أنهم أصبحوا أهل حضر ولم يعد أمرهم أمر العرب الأول لاسيما والشجر الذي يستر الناس أصبح نادرا جدا والرمال أصبحت أحقافا لا يستطيع الإنسان أن يمر عليها وإن كان شابا خفيف الحاذ فكيف إذا كانت امرأة ثبطة قد أخذت اللحم وكان الزمن حارا فالصواب أن يتخذ كل أهل بيت بيوتا أخرى يجعلون منها مستراحات فالحزم أن تكون مرافق الإنسان تحت قبضة يده كل حين ولذلك قالوا متاعي معي وإلا صرت مدعي . ثم أنه قد ثبت عند أهل العمران أن هذه البيوت لا ينبغي أن تترك هملا لا تزار فتسقط ولا أن تكثر زوارها فتمتلئ قبل الأوان وخير الأمور أواسطها.
فهذه نبذة من آداب التحضر جمح بها قلمي ولا شك أن كل أحد يعرفها ولكنها تعتبر تذكرة من هذه التذاكر الكثيرة ولست بحاجة إلى التذكير بأن أصل التحضر الذي يبنى عليه كله هو حسن الجوار وخير الدور تلك التي لا يصدر منها شر للجيران ثم التي تليها ثم التي تبنى من ثمن ماء زمزم وذلك لشرف ماء زمزم ولكونه لما شرب فإذا كانت الدار مبنية بثمن ماء زمزم فليس ببعيد أن يكون الإنسان إذا دخلها لحاجة قضيت له بإذن الله وذلك لأن المثمون يؤثر في الثمن ألا ترى إلى تحريم ثمن الخمر ومهر البغي وحلوان الكاهن وفي كل دور المسلمين خير إن شاء الله.
وهناك أبواب من الفقه ما كانت تقرأ في بلادنا هذه ينبغي أن يعتني بها الناس من الآن فصاعدا لأنهم أصبحوا بحاجة إليها منها الجمعة والإرفاق وموات الأرض ونحو ذلك مما يقتضيه التحضر ولم يبق من أبواب الفقه المهجورة عندنا إلا الجهاد واللعان وقد سئل أحد علماء أهل البلد عن حقيقة اللعان فقال إنه شيء يذكر في الكتب ولا يفعل في بلادنا هذه قلت ومثله الإيلاء والظهار حسب ما علمت ومثلهما إلى حد بعيد كتاب الجراح والقسامة والحدود والحرابة .
ونسيت أن أذكركم أيضا أن الشأن في البنيان أن يكون بعضه يشد بعضا وإلا فإنه عرضة للدمار وليس الشأن في الدور كالشأن في الخيام قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ولهذا المعنى شرع الصف في الصلاة أيضا.
وصبغة الديار ينبغي أن تكون بالأبيض والأزرق لا غير ذلك أن الدار كالثوب وهل سمعتم بمن لبس دراعة حمراء أو صفراء أو خضراء كلون الشجر والدار ينبغي أن تكون لها نوافذ لا عالية فتحجب الريح ولا منخفضة لا تأذن إلا للسوافي وكان بين ذلك قواما ولا بأس بغلق الأبواب نهارا وإن كانت امرأة ولها زوج وكان لهما بيت فلا ينبغي له أن يغلق الدار ويذهب إلا إذا كان لكل واحد منهما مفتاح خاص به أو تعاهدا على جعل المفتاح في مكان معلوم.
وإذا كان في الدار صدع أو في السقف ثقوب فينبغي التعجيل بإصلاحها ليلا تسجد جدرانها على الناس قال تعالى وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وكون من مات تحت الهدم ملحقا بالشهداء مقيد بما إذا لم يتعمد الهدم فلا يذهبن أحد يطلب الشهادة فيكون قاتل نفسه فلا يشم رائحة الجنة ومعلوم أن الطين أشد خطرا من الإسمنت وذلك أن الطين إذا أنزل الله تبارك وتعالى عليه المطر تسربه ثم بعد ثلاثة أيام من نزول المطر يسقط الجدار بغتة على أهل البيت بياتا وهم نائمون أو ضحوة وهم يلعبون بخلاف الإسمنت.
ونحن هنا في أرض فوتة بناؤنا إنما هو الطين لكننا نغلفه كل عام بالزبل زبل البقر فإذا جاء المطر ذهب بالزبل وبقي الطين أما الزبل فيذهب جفاء وأما الطين فيمكث وكسوة الزبل هذه من اختصاص العجائز يعجن الزبل بأيديهن ويخلطن معه التبن حتى يصبح صالحا ثم يفرغنه على الجدران حتى ييبس يفعلن ذلك ثلاثا فتصبح الدار سوداء يحسبها المار مكسوة بالديباج الأسود وفي الحقيقة إنما هو الزبل زبل البقر.
وهذا من فوائد الزبل عندنا لقليل ألم تر أنا نطبخ بالزبل وبالزبل نشوي وعلى الزبل نتبخر ورخصوا في الزبل للضرورة ولو علم ابن هدار رحمه الله بمكانة الزبل عندنا ما دعى عليه في كافه المشهور ومنه سكننا وعليه مطبخنا ودخانه عندنا أطيب من الند والعنبر الهندي ثم هو طاهر في المذهب المالكي وهذا الذي عندنا منه لم يخالطه روث الخيل ولا روث الحمر إنما هو خالص الزبل زبل البقر وكثير من الزوار كانوا يرون أن هذا منا بخلا وليس الأمر على ما زعموا فالبخل شيء والاقتصاد شيء آخر فهل في وسع كل أحد شراء الحطب وهل الإسمنت يجده كل أحد سيروا سير ضعفائكم ولا تكونوا كالذين قالوا سيروا عن ضعفائكم.
ودخان الزبل هذا أكثر ما يكون بعد المغرب فلا يقدر أحد أن يصلي صلاة الأوابين من أجله ولو أنه صعد على سطح داره وكنا إذا غشينا هذا الدخان نتلو قوله تعالى رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ نلتمس بذلك مناسبة سورة الدخان. ومن خصائص نار الزبل أن التراب لا تطفئها وإنما يطفئها الماء فقط فإذا لم يوجد فالنار باقية حتى يأكل بعضها بعضا فيكون بذلك انطفاؤها.
والغريب أن أهل تلك الناحية ناحيتكم أنتم لا يستعملون نار الزبل إلا في جعل الميسم على الإبل والبقر والحمير والسبب في ذلك أن وضع هذه المياسم إنما يكون في معطن البئر وهو موضع يندر فيه وجود الحطب فلذلك جعلوا مكانه الزبل ومن خصائص دخان الزبل أنه لا يقربه بعوض ولا ذباب وهذا من أعظم حسناته ويرى الذين أوتوا العلم أن البعوض إنما يضر منه أنثاه وهو شيء نؤمن به ونصدقه وإن لم نتمكن من تجربته.
وهذه فذلكة أخرى جمح بها القلم وجر إليها الاستطراد ذكرنا فيها طرفا من أخبار زبل البقر فاقبلوها فإنها لا تخلو من فائدة فرب جوهرة في مزبلة كما يقال وهنا نأتي على ختام هذه الرسالة الشريفة فإن أجبتموها فنعما هي وإن لم تفعلوا ولا أراكم فاعلين فقد توليت عنكم الجواب إذ جعلت ختامها زبلا والزبل في فم المرسل والرسول كما يقال فلتسموها حينئذ بالرسالة الزبلية وما علي إلا أن أبلغكم رسالة قلبي وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
كتب يوم الأربعاء السابع والعشرين من ابريل المسيحي بقرية مقامة من أرض فوتة سنة ألف وتسعمائة وسبع وسبعين من الميلاد.
أخوكم ومحبكم حقا محمد فال بن عبد اللطيف حاكم مقامه أعلى الله في الدنيا والآخرة مقامه.
السلام عليكم ورحمة الله
أستاذنا وأديبنا هذه تحية من أخ معجب بكم وبكتاباتكم يرد عليكم حتى لا يكون في فمه إلخ…
رسالة جميلة بارك الله فيكم
جزاكم الله خيرا ووقاكم ضيرا ، يا شيخنا وأستاذنا،أبقاكم الله لنا ،لقد أجدتم وأفدتم ، ومن المعلوم أن التشويق مطلوب تربويا، ليشدّ الملقي اهتمام المتلقي الي ما يقدمه له ، خصوصاإذاكان الملقي متخصصا في كل ما من شأنه أن يفيدنا دنيا أو أخري أو هما معا ،فدمتم بخير ،والشكر مني موصول ،لكم ولجنابكم العالي بالله ،وآخر دعويناأن الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين ومن تبعه بإحسان الي يوم الدين.