رؤيا الشيخ يعقوب … الجزء الثاني
خرجت إمارة إيلِيغْ من رحم زاوية الشريف سيدي أحمد بن موسى (المتوفى 7 ذي الحجة سنة 981 هـ) ، وذلك عندما طلبت جماعة الحلِّ والعقد من أحفاده – بعد ضعف الدولة السعدية- أن يتولوا تسيير دنيا الرعية، بعدما ساسوا لها دينها، وتعتبر فترة حكم السلطان سيدي اعْلي بودمعة (ت 1070 هـ) بمثابة العصر الذهبي للإمارة السملالية، حيث وطَّد أركانها، ووسع نفوذها، وشيَّد عاصمتها “دار إيليغ” ، ثم أطاح بها العلويون بعد وفاته بقليل؛ أي سنة 1081 هـ.
هاجر حفيد السلطان؛ الطالب ابراهيم بن سيدي بوبكر، إلى الصحراء الشنقيطية، في حدود 1100 هـ تقريبا، حيث تؤكد الرواية الشفهية أنه نزل بحي “إيديبسات” قرب بوتلميت، وتزوج من السيدة فاطمة بنت الطالب مختار، وثوى فيهم فترة طويلة معززًا مكرمًا، ورزق بولدين شبَّا مع أخوالهما، وتزوجا وأنجبا فيهم. وحسب المصادر التاريخية؛ فإن أسر السَّماليل الموجودة اليوم في الحوض والمذرذرة، وأطار، والصحراء الغربية، ترجع كلها إلى الجد الجامع سيدي أحمد موسى.
توطنت بعض أسَرِ “السَّماليل” مقاطعة المذرذرة منذ زمن بعيد، وطاب مقامهم فيها، وكانوا – ولازالوا- محل احترامٍ وتقديرِ من طرف جميع المجموعات؛ الشمشوية منها والمغفرية، ومن أشهر تلك الأسر : أهل المختار بن البخارى وأهل احميادَ وأهل ودَّادْ وأهل حمزة.
تزوج السيد أحمدُّ بن حمزة – وهو أخو المختار بن وَدَّادْ لأم – من السيدة عيشة بنت أحمد بن حيبللَّ ، ورزق منها ببناته الثلاث؛ فاطمة وآمنة واحويْ،.وإخوتهما.
نظرا لقلة العشب في مراعي المذرذرة- في تلك السنة-؛ قرر السيد الدَّاه بن المختار بن ودَّادْ؛ أن ينتجع شمالا بحثا عن الكلإ ، فساق قطيعه حتى وصل بئر “الكِلِّ “، فارتأى “التَّعْزيبَ” فيه مؤقتًا، وكانت معه أسرة عمه؛ أحمدُّ بن حمزة ، وبعض أصدقائه ومعارفه… بعد مرور أسابيع، تحسنت وضعية القطيع ودرت الضروع، وذات سحر تناهى إلى سمعه بكاء أطفال واسترجاع ثكلى…فهبَّ من مخدعه فزعًا، ووقف خارج الخيمة، محاولاً التعرف على مصدر الصوت؛ إذ أن مضارب “العزيب” متباعدة والأخبية متناثرة، لفت انتباهه حركة مصابيح يدوية يتجمع حاملوها أمام خيمة عمه، فتأكد أنها هي مصدر تلك الجلبة، جالت في نفسه – وهو يخطو باتجاهها- بعض الهواجس لكنه صرفها في الحال ، لقد مرَّ عليهن قبل نومه، وتركهن بأفضل حال.. ترى ماذا حدث؟ مع وصوله، نعتْ له السيدة عيشة – بصوت يعتصره الألم- ابنة عمه آمنة ، توفيت أثناء النوم، ولم تكن تشكي من شيء، لقد تنبه لذلك بنوها عندما لاحظوا أنها لم تستيقظ لصلاة الفجر كعادتها.
فكر سريعا وقيَّم الوضعية؛ لاحظ أن الأم والأخت لا زالتا تحت تأثير الصدمة، والأطفال في قمة الحزن والذهول، ذهب بهم إلى خيمة بعيدة، وعزاهم وواساهم، وقال لهم سنذهب بالجنازة إلى “انيفرار” وسيتولى أهل أعمر إديقب تجهيزها والصلاة عليها .. لم يُبْدِ أفراد الأسرة أي اعتراض، لأنهم على اطلاع تام لما يُكنه الأبهميون من التقدير للأشراف عمومًا، و للسماليل على وجه الخصوص.
في حدود السابعة صباحا، حملت الجنازة على بعير ورافقها ستة أشخاص هم: أخوها الأصغر أحمد بن حمزة والدَّاه السملاليان، ومحمد بن أحمد لسحاق بن إفكو، ومحمد عبدالله بن العالم من الطلابين، وأحمد بن عثمان واعل بن اعبيلْ لِعْلِ الرحاليان، أغذَّوا السير شرقا صوب “انْيِفْرَارْ”، – لأن المسافة بين الحيين تزيد على خمسة عشر كيلومترا-، مرَّوا في طريقهم على بئر “انْيَارْكَنْ”، فغور “بُوزِبْلَ”، ثم دخلوا الحي من الجهة الغربية.. قرروا التوجه مباشرة إلى المسجد، لكنهم فوجئوا بجماعة تستقبلهم، يتقدمها شيخ جميل المحيا، أنور المتجرد، لم يسبق لهم أن التقوا به من قبل..
أمر الشيخ في الحال بجمع الرجال للصلاة، كما أرسل في طلب أربع نسوة من أمثل أهل الحي، تولين تجهيز الفقيدة، بعد استشارة الرجال؛ قرَّرَ أحمدْ والدَّاه أن آمنة ستدفن مع العلامة الصالح المحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعِترته؛ محمذ باب بن داداه، وعندما وصلوا إلى المقبرة وجدوا آلات الحفر جاهزة، بأيدى شباب متحمسين للمساعدة، فجعلوها إلى يمين العالمة العاملة أَيَّمْ بنت أحمدُّ سالم رحمها الله.
ضريح الشيخ العالم محمذباب بن داداه رحمه الله
في طريق العودة ، عرض بعض الرجال على الدَّاه ومرافقيه، أن يقضوا اليوم معهم، لكن الشيخ تدخل بلطفه المعهود قائلا “هَاذُو الخِلْطَ خَلُّوهُمْلِي فِتْ أُحَسَّسْتْ بِيهُمْ البَارٍحْ “.
يقول الداه بن وَدَّادْ: (…لقد استغربت عندما دخلت منزل الشيخ يعقوب، كان كل شيء جاهزًا ومرتبًا بإحكام، كما أن الضيافة قد أعدت بإتقان، فكأن الرجل كان على علم بمقدمنا.. قضى معنا الشيخ وقتا طويلا، أثنى فيه على السماليل وأكد على صحة شرفهم، كما رشحت منه بعض الدقائق العجيبة، والرقائق الغريبة، واللطائف الطريفة، ثم استأذن منا، طالبًا من الحضور أن ينوبوا عنه في مجالستنا والاحتفاء بنا.. وعند تمام الساعة الرابعة، قررنا العودة إلى “العزيب”، لأننا تركناهم ضحى وهم مهمومون..)
يتبع إن شاء الله
—————————–
– القصة متواترة جدا، وقد حدثني بها السيد الدَّاه بن وَدَّادْ ، في سمر معه بانوكشوط خريف 2016، وقد لفت انتباهي أنه يتذكر تفاصيلها الدقيقة، حتى أسماء النسوة الأربع، ويعد ذلك من أهم معايير الضبط.