تعد معلقة النابغة الذبياني إحدى عيون الشعر العربي ، لقوة سبكها وجودة معانيها من جهة و من جهة لما حواه اعتذارها من الإشارات و الدلائل التي تشي بقوة العلاقة التي كانت تربط النابغة بالملك النعمان حيث ذكره الشاعر بعدة أحداث جمعتهما معا قبل أن تنطق بطلا عليه الأقارع.
و ما لفت نظري هو أن الأعلم الشنتمري لم يبذل جهدا في استنطاق النص و لا في محاولة فهم السياق الذي قيل فيه ،ربما لأن أعمال الوزارة كانت تشغل وقته ، و على نهجه جرى الزوزني في شرحه حيث اكتفى بتقريب بعض الغريب ، لكن المتتبع لحياة النابغة و حياة شعره قد يقرأها قراءة أخرى و يخرج منها معطيات هامة ليس هذا محل بسطها.
يا دار مية بالعلياء فالسند *** أقوت و طال عليها سالف الأبد
يلاحظ المطالع لكتاب المقري نفح الطيب أن أدباء الأندلس زادوا علم البديع بفن تضمين أعجاز القصائد الحديثة أشطارا من النصوص الشهيرة كلامية امرئ القيس و ألفية ابن مالك وغيرهما …
وقد وفق النابغة الغلاوي في تناوله لهذا الغرض في مرثيته لشيخه العلامة أحمد بن محمد العاقل عندما ضمن أعجاز مرثيته مقتطفات من اكحلال الألفية.
يا أســـــــف الدين وكل عاقل *** على وفاة شيخنا ابن العاقل
لكن مثل الشيخ عند من غبر *** ملـــــــــــتزم فيه تقدم الخبر
بلغ هذا الغرض أوجه في الأحياء الإيكيدية أواخر الثمانينيات عندما مدح الشيخ المختار بن حامد رحمه الله الفاضليين و الأبهميين واليداليين بألفياته و لامياته البديعة، وما تبع ذلك من الرد العكسي الإيجابي كقصائد الشيخين أحمدو بن اتاه بن حمين و حمدا بن اتاه و الفتى محمد فال بن عبد اللطيف.
وقد لفت انتباهي أن المختار و محمدفال لم يقتصرا على تضمين أشطار من اللامية فحسب ، بل ضمنا قصيدتيهما شطرا من معلقة النابغة الذبياني وظفه كل منهما حسب السياق المناسب له، يقول ابن عبد اللطيف مثنيا على المختار و مشيرا إلى العلامة الحسن بن زين :
هذا الثناء فإن تسمع به حسنا *** زينا و من قبله قد كنت فقت حلا
وقد وصلت بريد الموقع مؤخرا قصيدتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في ميزان الشعر، بشرتا بأنه لازال من بيننا من يملك ناصية اللغة العربية و يحفظ المعلقات و ينسج على منوالها فقد نبغت لنا منهم شؤون.
خاطب الشاعر محمد بن إمام الأبهميين عموما في كل من بئر السبيل و انيفرار و أكد على أن الهدف من نظمه لقصيدته هو الزيارة والتماس البركة ، كما ذكر جملة مفيدة من مناقب الحيين وقد وفق – و لا غرو – في تضمينه لأشطار الدالية فجاء شعره منسجما معها شكلا ومضمونا .و قد أجاد في قوله :
هنالك الــــعز لا فـــــــــي دار غانية *** أقوت وطال عليها سالف الأبد
فاشدد رحال القوافي كي تصل رحما *** وانم القــــتود على عيرانة أجد
وزرهــــم كلـــــــــــهم للخير تحظ به *** وما أحاشي من الأقوام من أحد
أما الأستاذ محمد فال بن زياد فقد نوه باليداليين عموما وذكر بعض البيوتات الشهيرة تصريحا أو تلميحا كما أشار إلى بعض مؤلفات الشيخ محمد اليدالي. وقد جاء نصه في غاية السلاسة و البعد عن الصنعة. وقد أطربنى قوله:
و هــــذه زورة جـــــاد اليراع بها *** قرت بــــها العين بعد الأين و النَّجد
مريت فيـــــها من أخلاف القريحة *** ما أخــــــنى عليه الذي أخنى على لبد
على سبــــيل الهمام ابن الأيمة من *** صــــــــاد المعاني كالغزلان بالجرد
نهج النـــــــــــوابغ لا يمشي بساحته *** من الألـــــــبا سوى المستأنس الوحد
ودون أن نطيل على القراء الكرام فسنبسط لهم البسيطيتين ليحكموا بأنفسهم على مقدرة شاعرينا على الحبك والسبك و اقتناص المعاني كما حكمت فتاة الحي على الحمام المتجه نحو الثمد.
أولا : قصيدة الأديب محمد بن إمام
بيرُ السبيلِ سَلامي نَحْوَهُ بِيَدي |
لا دارِ مَيةَ بالعلْياءِ فالسنَدِ |
ثانيا : قصيدة الأستاذ محمد فال بن زياد
لآل يــــداجَ في الأدنى و في البعد*** مــــجدٌ تأثــــــل بالعـــــــلياء و الـــسند
مجـــد فروع سـناه قد علتْ و نمتْ *** فروع عــــــز على عـَـــــيـــرانة أجُد
يمــــن ترسخ في أصل على أسس *** و رفَّـــــعوه إلى السّْـــــجفين فالنــــضَد
هم الأيــــمة و الســادات فضلــهمُ *** عم الــــبرية فـــــي الأدنى و في البـــعد
أهل النوازل يُجـــــلون المسائل إنْ *** عيـَّــــت جوابا و ما بالـــــــربع من أحد
إذا الــــنوائب في آفـــــاقها التبست *** في حالك الـــــلون صَـدقٍ غير ذي أود
شكوا فرائصــــها بالفهم فانفرجتْ *** طعـــنَ المـــــعارك عند المَحجر النَّجد
و أصدروها على رأي لهمُ حصفٍ*** له صــــــريف صـــــريف القعو بالمسد
يمـــــضون حكم قضاء عادل يقظ *** يهـــدي إلى الــــحق في عقل و في قود
صَلوا و جَلوا بميدان العلى و حووا*** ســــبق الجــــواد إذا استولى على الأمد
فضل سـما و فشا في الناس سار به *** ركــــبان مـــــكة بيــــن الغيل و السعد
فازوا بنهـــجهم المحبوب و افتتحوا*** بـــابا يدل و يـــــــهدي النــــاس للرشد
قوم ســـــعيدون أواهـــــــون قاطبة *** و لا أحـــــاشـــي مــن الأقوام من أحد
مخــــتارهمْ و ألــــــــمَّا فضلهمْ عَلمٌ *** فيــــه ركــــام من الينبوت و الخضد
و آل حمــــين من أحيوا علوم هدى*** أقـــــوت و طــــــال عليها سالف الأبد
كم فيـــــهم من أبي عـــــارف ورع*** يمضـــي الأمور كسيف الصيقل الفرد
و هارب عن حلى الدنيا و زخرفها *** كالطـــير تنجوا من الشؤبوب ذي البرد
من حاول النيل منهم عاش في تعس*** طوع الشوامت من خوف و من صرد
إن يزأر اللـــــيث منهم في مقارعة *** فلا قــــــرار عـــــلى زأر مــن الأسد
بحور علم طمت بالفضل و التطمت*** ترمـــــــــي غواربُها العِــبرين بالزبد
أيديـــــهمُ ديّم تســـــــــخوا بكل ندى*** و لا يحـــــــول عـطاء اليوم دون غد
كم قارئ منـــــــهم يقري الضيوف إذا *** تـــزجي الشمال عليهم جامد البرد
هم الذوائب من تاشــــمش قد رفعوا*** قواعــــــد الخمس بالصفاح و العمد
هم حــــلة الذهــــــب الإبريز زينها*** ســـــــعدان توضح في أوبارها اللبد
قد قيـــــدوا باجــــــتهاد كـــــل آبدة *** مشـــــدودة برحــــــال الحيرة الجدد
جرد من الفهم تجري في النصوص على*** صُمع الكُعوب بريات من الحرد
مزارهم يصـلح الأخرى و ضرتها*** و ما يــــثمر مـــــــــن مال و من ولد
و هــــذه زورة جـــــاد اليراع بها *** قرت بــــها العين بعد الأين و النَّجد
مريت فيـــــها من أخلاف القريحة ما*** أخــــــنى عليه الذي أخنى على لبد
على سبــــيل الهمام ابن الأيمة من *** صــــــــاد المعاني كالغزلان بالجرد
نهج النـــــــــــوابغ لا يمشي بساحته *** من الألـــــــبا سوى المستأنس الوحد
صلى على الـــبدر من أسماؤه كملت*** تـــــسعا و تسعين لم تنقص و لم تزد
يعقوب بن عبد الله
مقال رائع جمع بين روعة الشعر وروعة التقديم فتبارك الده أحسن الخالقين
لقد جف قلمي عندما قرأت القصيدتين وبنشرك الجميل اخي يعقوب افدت وأجدت (أنتم ماشاء الله نوابغ حق ان يقال لكم ذلك)فقد أجاد الاول بقوله:ما قصروا عن ندى …..
وبقول محمدفال:فضل سما وفشا في الناس سار به …..احسنتم
لامكانَ في الحياةِ، بالنِّسبةِ للإنسان أجملُ وأبهى من المكان الذي ولد فيه وترعرع، وتفيأَ ظلالَه وارتوى من فراتِ مائِهِ ونهل من ثقافته كما هو واضح “في النوابغ الجدد” وهاتان القصيدنان أثبتت حفاظ “إكيد” على ثقافة الأدبية الفصيحة الأصيلة، وأرسل كامل الشكر هنا إلى الأديب محمد بن إمام الذي بدأ بنصه الرائع حتى أيقظ قريحة الأستاذ الأديب محمد فال بن زياد الذي أفاد وأجاد وأجاب في نصه السهل الممتنع حفظ الله الجميع.
تعليقا على “النوابغ الجدد”
أجمع النقاد ودارسو تاريخ الأدب العربي على أن القصائد الجاهلية التي أطلق عليها علم المعلقات هي قمة ما وصل إليه الشعر العربي من حيث جماله الفني وقوة تأثيره النفسي ودقة وصفه ورسوخ إبداعه، فهو ولد في بيئة بدوية خالصة بعيدا عن الحضارة والرقي، رغم أنه استطاع وفي مقتبل عمره أن يقارع الآداب العالمية ويفوقها في مختلف المستويات الفنية واللغوية.
وقد ظلت المعلقات المثال الذي يحتذى في الشعر والملهم الأول لمن أراد أن يختبر قدراته الابداعية في نظم الشعر، حتى ظهر مفهوم المعارضة بعد ذلك وصار الشعراء يتفنون في مجاراة عيون الشعر ومعارضة القصائد التي اتفق الجمهور على تميزها، حيث يقوم الشاعر بمحاكاة سابقه بقصيدة في نفس البحر والروي والغرض
حتى أصبح الأمر عرفا أدبيا واعتاده النقاد، و أعتبروه معيارا نقديا يقاس عليه.
وظل مفهوم المعارضة يستمد قوته من مختلف الظواهر الأدبية، وقد زاد فن المناظرة من رسوخ المحاكاة في أغراض الشعر العربي الحديث، حيث يناظر الشاعر قرينه بقصيدة محاكيا بها إحدى عيون الشعر ويرد الآخر على نفس المنوال، ويكون الصدر من قول المتناظرين والعجز من القصيدة المحاكاة.
وقد ظهرت مؤخرا قصيدتان جميلتان لشاعرين كبيرين نحوا فيهما معلقة النابغة الذبياني التي مطلعها:
يادار مية بالعلياء فالسند@ أقوت وطال عليها سالف الأبد
وقد وفق الشاعران في محاكاتهما وأجادا في استخدام الأعجازالنابغية بقدرات شعرية كبيرة، إلا أنه لا يخفى أن الأقدام تختلف في وضعها وحجمها أثناء السير كما تختلف سرعة المتاسبقين في الحلبة، وفق الطرق التي يسلكانها في سبيل الوصول إلى نهاية السباق ووفق اللياقة والتناسق في الخطى وتتبع الاثر.
وقد أجاد الأول في قوله:
يُغْنونَ بالعلْمِ والأموالِ سائلَهمْ من المواهِبِ لا تُعْطى على نَكَدِ
ولا يُكَدِّرُها مَنٌ بها وأذىً ولا يَحولُ عطاءُ اليومِ دونَ غَدِ
ما قَصَّروا عنْ نَدىً يَبْني المفاخِرَ بلْ حازوا النّدى كُلَّه لا نصْفَهُ فَقَدِ
كما أجاد الآخر في قوله:
هم حــــلة الذهــــــب الإبريز زينها*** ســـــــعدان توضح في أوبارها اللبد
وفي قوله:
إن يزأر اللـــــيث منهم في مقارعة *** فلا قــــــرار عـــــلى زأر مــن الأسد
وفي قوله:
فضل سـما و فشا في الناس سار به *** ركــــبان مـــــكة بيــــن الغيل و السعد
ويبقى أن نثني على الأديبين ونشكر الله أنه مازال من بيننا من يملك القدرة على محاكاة نابغة ذبيان، فقد كشف الشاعران عن قدرات شعرية نادرة.
لله درك و درهما…” شعرٌ جميل بليغ و ليس كماـــــــ تزجي الشمال عليه جامد البرد….
قصيدتان رائعتان بارك الله فى الشاعرين وقضى الله حوائجنا وحوائجهم وحوائح المسلمين احمعين
أفدت و أجدت بنشرك الطيب يا يعقوب بن اليدالي … و كما عودنا قلمك المعطاء وضعت بين أيدينا هاتين الجمانتين من الدر النفيس بارك الله فينا و فيك …أنت من النوابغ الجدد أيضا.