ذكر آلات اللقط: وهذه الآلات هي العمود والوخظة والملقاطة أما العمود فهو عبارة عن عصا طويلة يلقط بها العلك من رؤوس الشجر قالوا وينبغي أن يكون العمود مستقيما لا غليظا ولا رقيقا ويكون الجانب الذي يلي الحربة أغلظ من الآخر وطول العمود العادي سبعة أذرع إلى ثمانية ويستجاد عادة من عروق الطلح أو القتاد وقد تقدم آنفا أن أهل البضلان كانوا يلعبون بالأعمدة وربما قاتل الفازعون بأعمدتهم الحيات والثعابين ولذلك كان العقلاء ينهون عن أكل علك الفازعين حتى تتيقن سلامته من تلك السموم. ذكر آلات اللقط: وهذه الآلات هي العمود والوخظة والملقاطة أما العمود فهو عبارة عن عصا طويلة يلقط بها العلك من رؤوس الشجر قالوا وينبغي أن يكون العمود مستقيما لا غليظا ولا رقيقا ويكون الجانب الذي يلي الحربة أغلظ من الآخر وطول العمود العادي سبعة أذرع إلى ثمانية ويستجاد عادة من عروق الطلح أو القتاد وقد تقدم آنفا أن أهل البضلان كانوا يلعبون بالأعمدة وربما قاتل الفازعون بأعمدتهم الحيات والثعابين ولذلك كان العقلاء ينهون عن أكل علك الفازعين حتى تتيقن سلامته من تلك السموم.
وأما الوخظة بالخاء والظاء المعجمتين كأنها مرة من وخظ إذا خرج بالحسانية فهي حربة من الحديد على شكل نصل السهم تركب في رأس العمود ليسهل بها استئصال العلكة من مستقرها قال أهل العلم بهذا الشأن الوخظة نوعان نوع له أذنان وهو الأكثر وهو المراد بالوخظة إذا أطلقت ونوع أسك لا أذن له ويسمى السغدة بالسين المهملة والغين المعجمة وأهل العلك يفضلون النوع الأول لأنه يأخذ مع العلكة حينما يجتثها جزءا من قشر الشجرة عن غير قصد مما يزيد من ثقلها يوم الوزن وحدثني شاب من أهل البادية لقيته على وجه الدهر أنه سمع رجلا من أهل البوادي يسب آخر فقال له اسكت عني يا سغيدة بن اسغيدة فسألته عن وجه السبب في هذه العبارة فقال إنه شبهه وشبه أباه بالوخظة التي لا أذن لها بمعنى أنهما مصلما الأذنين وهو كناية عن أنهما لا خير فيهما على عادة العرب بالتشاؤم بذلك.
وأما الملقاطة فهي اسم آلة من اللقط وهي وعاء دون القربة وفوق الإداوة يتخذ من الجلود المدبوغة الممتهنة يكون صغيرا أو كبيرا حسب الحاجة وهو دائما واسع المدخل ويعلق في مثل حمائل السيف في الجانب الأيمن من الصدر وقد يحمل الفازع اثنتين يتقلد إحداهما ويتنكب الأخرى فيكون بذلك كالفارس ذي الرمحين أو الراجل ذي السيف والقوس وقد كان ملء الملقاطة وحدة جزافية لأثمان بعض الخدمات في المجتمع التقليدي كصنع الوخظة وكالصدقة لشراب الموتى ليلة الجمعة وورد ذكر الملقاطة في شعر العلامة النابغة الغلاوي في معرض صوفي قال:
لما نظرت إلى ملقاطة العمــل**** فما رأيت سوى الآثام والزلل
غفرت ذنب عسيف جاء معتذرا**** من لقطه فلعل الله يغفر لي
آداب الفزعة:
اعلم أن العلماء قد عدوا لقط العلك من أصول الحلال الصرف لأن العلك لا يختص به أحد عن أحد إذ لا ملك لأحد على هذا القتاد الذي أنبته الله تعالى في البرية وعلى هذا جرى العمل والعرف في هذه البلاد بل ولو بذره الناس كما يروى عن إحدى نساء ديمان من ذوات الهمم العوالي أنها بذرت القتاد في منطقة من مناطق إكيد فانتشر بها وتكاثر بعد أن انقرض وكما فعلت مصالح الزراعة في الفترة الاستعمارية وكما وقع حديثا من البذر الجوي ومن هذا المنطلق استحبوا للفازع أن لا يرى لنفسه أي امتياز على غيره بل عليه أن يعلم أن جميع الفازعين في العلك شرع لا فضل لأحدهم فيه على أخيه قالوا وينبغي للفازع أن لا يخرج قبل إسفار الصبح إلا إذا كان مجال العمليات بعيدا عن المحلة فلا بأس عند ذلك أن ينفصل في وقت مبكر ليصل إليه عند الإسفار والسر في ربطهم الذهاب بالإسفار أن ضوء الشمس معين على رؤية العلك لأن العلك جسم شفاف عاكس لأشعة الشمس ومن الفازعين من يعلل ذلك بأنه لا بد من التحقق من أن الشمس قد طلعت من المشرق لا من المغرب لأنها إذا ظهرت من المغرب بطلت الفزعة إذ لا مجال لطلب الدنيا بعد ظهور أشراط الساعة الكبرى. قالوا ومن آداب الفازع أن يرضى بما آتاه الله ويسير واثقا بما عند الله ويستقبل الشجرة من الجهة المقابلة للشمس فإنه أجدر أن لا تفوته علكة إن شاء الله وذلك لمكان أشعة الشمس وإذا أدخل أول علكة قال مخاطبا للملقاطة باسم الله بليناك ونحو ذلك من الكلام ولا ينبغي له أن يزاحم أحدا على علكة ولا يضيق بالفازعين الآخرين ذرعا فإن رزق الله أوسع من الجميع ولن تنال نفس إلا مل كتب لها ولا ينبغي له إذا رأى علكة أن ينادي عليها ليحوزها بذلك لأن ذلك خفة وطيش ولا يعتبر حوزا شرعيا لأن الملقوط كالصيد وقد قال الشيخ خليل وملك صيدا المبادر فمقتضاه أن الصيد يحاز باليد لا بالعين ومن آداب الفازع أن لا ينظر إلى غصن لا يبلغه عموده فينطبق عليه قول الشاعر:
فإنك إن أرسلت طرفك رائدا **** لقلبك يوما أتعبتك المناظـــــر
رأيت الذي لا كله أنت قـــادر **** عليه ولا عن بعضه أنت صابر
قالوا وينبغي للفازع أن لا يجهد نفسه فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى بل عليه أن يجمل في الطلب ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وعليه أن يوغل في الفزعة برفق مستعينا بشيء من الروحة والغدوة فإن خير العمل ما كان ديمة وليجعل الفأر أسوة له فإنه
يرضى بميسور له في الغيبة **** ثم يرى معجلا للأوبـــــــــة
ثم إن الفازع إذا جنى ما كتبه الله تعالى له فعليه أن يرجع قبل جنح الليل إلى المحلة أو البضل الذي خرج منه وجرت عادة أهل العلك إذا عادوا من البرية أن يسندوا العمود خارج حظيرة البيت في مكان آمن أن يتخطاه أحد كائنا من كان لأنهم يتشاءمون من ذلك حتى أن من تخطى عمود فازع كاد أن يكون ضامنا لسوء الملقط سائر الأسبوع أهل العلك على هذا مطبقون. ومن عادتهم أيضا تنظيف الوخظة مما يعلق بها من سائل العلك بإمرارها في الملة لأن العلك الذي ران عليها يتفتت تحت تأثير الحرارة وإذا رجع الفازع إلى أهله وطرح عموده في مطرحه أخرج علكة القاعد ثم بادر إلى الغار المعد لحفظ العلك فصب فيه حصيلة يومه تاركا في الملقاطة علكتها ويستحسن أن يكون صب الملقاطة بمنأى عن أعين الناظرين فإن العين حق وكل ذي نعمة محسود. هذا هو الغالب وذكر صاحب الوسيط رحمه الله أن أهل العلك كانوا ربما أوقدوا نارا ليلا وقايسوا ما جنى كل جان فيخجل أقل القوم جنى ما كسبت يداه يومه ذلك وإنما جعلوا العلك في الغار لحفظه من الآفات ومخافة أن ييبس لأنه ينقص وزنه إذا جف ومن الدواهي العظام أن الفأر قد يسطوا على العلك من داخل الغار فيحول منه الكثير إلى نافقائه وقد جرى عمل بعضهم لرد عادية الفأر بطي الغار بأغصان طيك البئر حذو القذة بالقذة.
ذكر سيرة وما جاء فيها:
بلم يعثر الباحثون بعد على أصل اشتقاق كلمة سيرة واسمها بالعربية كما في منجد الطلاب الاستصماغ ووجهه بين لأن السين والتاء للطلب واعلم أن سيرة علم على نوع من لقط العلك يعتمد على نزع القشرة عن جذع الشجرة فيسهل بذلك سيلان العلك فيلقط بعد أن يجف على جذوع الشجر ومنهم من يكتفي بفصد الجذع فيخزه بحربة أو فأس عدة وخزات ولأهل سيرة غرض آخر فيها وهو أن فيها نوع من حوز الشجر إذ لا يجوز في عرف القوم أن يتعدى أحد على سيرة أحد والمعروف عند أهل العلم أن عمل سيرة مضر بالشجر لأن العلك هو ماء حياة الشجر فما خرج منه بالطبيعة كان فيه صلاح الشجر لأنه بمثابة الفضلات التي يلقيها الجسم عفوا وأما ما أخرج بالعلاج فهو مضر كالإفراط في الحجامة ونحوها ولذلك لم تزل الحكومات تمنع من سيرة وتعاقب فاعلها وقد كان العرب يقولون فلان محروب قشره إذا ذهب ماله قال الشاعر : فقلت الزنى خير من الحرب القشر . وتسمى السنة المجدبة قاشورة لأنها تقشر كل شيء وفي المثل الشعبي فلان نزع قشر فلان إذا عابه عيبا شديدا وتسمي العرب الهيئة الحسنة والمال قشرا . وهذا كله يدل على أن نزع القشر لا خير فيه وأن سيرة مضرة بالشجر قال بعض الحكماء إنما مثل الذي يأتي سيرة كمثل رجل كانت عنده دجاجة تبيض كل يوم بيضة من الذهب فقال لأهله دعوني أذبحها آخذ الذهب دفعة واحدة فذبحها فما وجد في بطنها شيئا وقد قال الحكماء قليل يدوم خير من كثير لا يدوم قالوا وإنما يركن إلى سيرة الكسالى من الناس الذين لا ينظرون إلى العواقب ولم نسمع أن أحدا من أهل العلك الأولين عمل بها ولا حض عليها وما علمناهم إلا وهم ينكرونها على من يتعاطاها ومن ظريف ما يحكى في سيرة ما سمعته من غير واحد أن أحد الزوايا كان يوما واقفا في حقل له من القتاد قد سيراه (عمل فيه سيرة) فمر به فازع من بني حسان فهم بأخذ بعض سيرة صاحب الزوايا فقال للحساني على رسلك فلم أر قبلك عريبا يفزع إلا في إثر العدو فقال له الحساني وأنا لم أر قبلك في الزوايا من يحسن سيرة غير سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من الأجوبة المسكتة وفي المثل إنه لكسيرة المامي يضرب لما لم يحصل منه على طائل وأصل هذا المثل كما حدثني الثقات أن المامي رجل كان في الزمن الأول وكان من كبار أهل سيرة فاتفق في أحد الأعوام أن نجحت سيرته نجاحا كبيرا حتى اشترى من بواكيرها ثورا ذكر الراوي من حسنه وقوته فحمل عليه بقية سيرته إلى مدينة ابودور المسماة عند البيظان ادويرة وهي إذ ذاك مركز هام لبيع العلك فباع علكه فيها بربح وفير فقفل منها بفضة كثيرة من الكاغد المسمى الكيت قد لفها في خرقة صرها في لبنة سراويله فلما كان في عرض الطريق توقف ليصلي فخلع سراويله فجاء الثور من ورائه وهو لا يعلم والثيران مولعة بأكل القماش فأكل السراويل والصرة فلما قضى المام صلاته نظر إلى الثور فإذا به يسيل لغامه فرابه ذلك وتفقد السراويل فلم يجدها ففهم أن الثور أكلها والصرة فيها فخاف إن طال بالثور أمد أن يجترها أو أن يهضمها فما كان منه إلا أن بادر إلى الثور فذبحه وشق عن بطنه دون أن يكشط الجلد فبقر عن الصرة فما وجد منها إلا جذاذات متفرقة ووجد الفضة تمزقت بحيث لا يمكن الانتفاع بها بعد هنالك وقف حائرا يقلب كفيه وهتف بأعلى صوته من حدثكم أن المامي قد سيرى هذا العام فلا تصدقوه فأرسلها مثلا يعني أن سيرته هذا العام قد ذهبت هدرا فلا ثور ولا دراهم.
الركن الثالث في الصرف والصرافين والرصف والصرافات وأم اصريكيك وما قيل في ذلك:
اعلم أننا لا نعني بالصرف ما يطلقه عليه الفقهاء من بيع أحد النقدين بالآخر ولا ما يعنيه أرباب البنوك من إبدال العملات بعضها ببعض وإنما نعني به شراء العلك بالطعام ونحوه محليا وقد انتشرت هذه العبارة في أوائل القرن الماضي وصيغ منها اسم الصراف لمن يتعاطى الصرف والصرف هو المرحلة الأولى من بيع العلك لأن الصرافين يبيعون العلك الذي اشتروه لصغار التجار وصغار التجار يبيعونه لمن هو أكبر منهم وهكذا دواليك إلى أن يبلغ العلك محله في دور كبار التجار فيصدرونه إلى خارج البلاد واعلم أنه في الزمن الأول كان في تعاطي الصرف غضاضة على ممارسه ولذلك عزف عنه أهل المروءة أول الأمر وحذر منه المحافظون وقالوا إنه يورث الحرص والمناقشة عن الحقير وكلها أمور محظورة في قانون المروءة ولهم في ذلك أشعار شعبية مأثورة مثل ما كان الشأن في تعاطي تنمية الماشية عند بعض طوائف بني حسان ومما يحكى من استهجان الأولين للصرف أن أحد الصرافين من الزوايا كان يوما في أحد المساجد وكان عليه ثوب جديد جيد وحانت الصلاة واتفق أن كان الإمام غائبا فتدافع الإمامة فقيهان من أهل المسجد كل يأمر صاحبه أن يصلي بالناس فيمتنع تواضعا فلما طال الأمر وخشي الصراف خروج الوقت أقام الصلاة وتقدم ليؤم الناس فجذبه أحد الحاضرين وقال له تأخر فإن ثمتك التي تدلي بها هي آخر الثمات إشارة إلى قول الفقهاء يؤم القوم أفقههم ثم أقرؤهم ثم أكبرهم سنا . . . ثم أحسنهم لباسا ولكن هذه الرؤية تغيرت فيما بعد نظرا لحاجة الناس إلى الصرف في معايشهم فرخص لهم فيه المجتمع بناء على أن الحاجي الكلي معتبر في باب المروءة اعتباره في باب الدين لأن المروءة أخت الدين كما يقال.
الفرق بين الصرف والبديلة وأم اصريكيك :
الصرف والبديلة وأم اصريكيك ألفاظ مترادفة في الدلالة متباينة بحسب الاعتبار فالصرف مأخوذ من التصرف الذي هو الحركة لأن الصراف يحرك البضاعة بيعا وشراء أو من التصريف بمعنى التغيير ومنه تصريف الدهر سمي بذلك لأن صاحب العلك يغير علكه إلى أرز أو تمر مثلا وفي بعض البلدان العربية يسمى صرف العملة إلى أخرى تغييرا فهذا من هذا. وأما البديلة فهي فعيلة من بدل اسم مصدر على وجه الندور أو هي تحريف مولد لكلمة المبادلة الفصيحة وهي اسم للصرف باعتبار النظر إلى تماثل العوضين والنسبة بينهما. وأما أم اصريكيك فهي لفظ مولد سمي به الصرف باعتبار الأصوات التي يحدثها وزن العلك واصطكاك الصنجات الحديدية بكفتي الميزان وأم اصريكيك موضوع هام من مواضيع الأدب الشعبي والفصيح ولا يتسع المقام هنا لذكر كثير من ذلك.
عملية البديلة:
العملية التي تسير عليها البديلة كانت معروفة عند الخاص والعام وصيغتها التي تواضع الناس عليها هي قدر بقدر ــ قدر بقدر ونصف ــ قدران ـــ ثلاثة أقدار ــ أربعة أقدار إلى آخر الأعداد فإذا بلغت البدلية إلى ثلاثة أقدار اعتبر ذلك كسادا في العلك أو غلاء في السلعة المبدلة به حدثني بعض أهل الخبرة والعناية بالتاريخ قال الأصل في هذا الاصطلاح أنه مأخوذ من بيع الملح بالزرع في الزمن الأول يقول بائع الملح لصاحب الزرع مثلا أعطيك ملء تاديت ملحا وتعطيني قدر ملئها من الزرع وهذه الصيغة تسمى قدر بقدر وإذا كان الزرع يعطى مقابله قدراه من الملح قيل هذه بديلة قدرين وهلم جرا وسمعت أن أحد رجال التصوف يقول إنما مثل من يعتمد على عمله يوم القيامة كرجل له علك فإنه سيعطى ثمن علكه على قدر سعر العلك قدرا بقدر أو قدراه ويقال له هذا ثمن علكك ومثال من يعتمد على فضل الله ورحمته كمثل من يستمد من خزائن لا تنفد ولا يطالب بشيء .
ذكر الصرافات:
وكانت أم اصريكيك كثيرا ما يعهد بتسييرها إلى نساء مسنات غير متزوجات ولا ولد لهن غالبا فيضع أحد التجار تحت يد إحداهن كمية من البضائع ذات الاستهلاك الشائع كالأرز والدخن والشاي والسكر والفول السوداني لتبدلها له بالعلك وتكون البديلة محددة حسب سعر العلك يعطيها التاجر أجرة على عملها وكثيرا ما يوصف صواحب البديلة بعدم الورع والحرص الشديد والتطفيف في الوزن ومن أظرف ما يحكى من عدم ورعهن أن إحداهن كانت يوما تزن شيئا من العلك لأحد زبنائها فوزنت ثلاثة كيلوجرامات وقالت الله واحد وهي كلمة يقولها الناس عند ابتداء الوزن للتبرك واستشعار الوحدانية فقال لها الزبون كذبت الله ثلاثة يعني الكيلوجرامات ثلاثة وإنها أرادت أن تغلطه وهذا المذهب يسمى عند أهل البديع بالمشاكلة ومما كان يتحدث به الناس من مكرهن أنهن كن يرمين التمر مثلا بقوة على الكفة حتى يرجح تحت تأثير الضربة فيخطفها الزبون بسرعة يظنها راجحة بوزن التمر وهي في الحقيقة مرجوحة فيظن نفسه غابنا وهو مغبون ومما يؤثر من مكايدهن أيضا أنهن كن يخلطن الجيد بالرديء ويحلفن بالمحرجات أنه جيد كله وأنهن كن يغيبن بعض العلك المودع لهن ويحلفن بالله أن الفأر سرقه وأشياء من هذا القبيل .
معايير البديلة:
كانت المعايير المتبعة لبيع العلك في القديم هي معايير الكيل كالشأن في الحبوب ونحوها وكانت الوحدة هي المد بأجزائه ويختلف محتوى المد من منطقة إلى أخرى وغالب هذه الأمداد أمداد تواضع الناس عليها وليست بالضرورة مطابقة للمد الشرعي المعير عن طريق الرواية المتسلسلة أو عن طريق التحري المذكور في كتب الفقه في باب الزكاة ومسائل الكفارات ومن وحدات الكيل عندهم أيضا الكار والقربة وتنجفاغة والماتة وأما البريكة فما عرفوها إلا بعد دخول الاستعمار.
أما الكار فأن أن أصله فرنجي وهو يساوي بضعة أمداد.
وأما القربة فهي في الأصل عبارة عن ملء مسك الشاة ويقدر عادة بنحو خمسين كيلوجراما.
وأما تنجفاغة فلم نزل نسمع أنها مشتقة من لفظ أجفغ ومعناها الشيخ والفقيه في اللغة الصنهاجية وأنها قدر ما يحمله الشيخ على ظهره قالوا وهي عشرون مدا وهذا مستبعد عندي لأنها والحالة هذه تساوي على أصغر تقدير للمد أربعين كيلوجراما وما أظن الشيخ يستطيع حمل هذه الكمية والله أعلم.
وأما الماته فلا يبعد أن تكون مشتقة من المائة إلا أنها مع ذلك لا تساوي إلا أربعين مدا حسب ما سمعنا والحق أن بيع العلك على الكيل لا يخلو من الحيف الواضح لأن العلك من المواد التي تتكتل ففي كيله تطفيف ظاهر والصواب ما جنح الناس إليه بأخرة من وزنه .
ذكر الموازين التي يوزن عليها:
ولا بد من كلمة عن الموازين التي يوزن عليها العلك وغيره والمعروف من ذلك:
ميزان شلك: وهو أصل الموازين كلها اسمه منقول من فعل شلك بالحسانية إذا رفع رجله إلى أعلى سمي بذلك لأنه إذا رجحت إحدى كفتيه شالت الأخرى مرتفعة بصفة فادحة وميزان شلك عبارة عن كفتين ولسان وذراعين وليس له قاعدة يستقر عليها لذلك لا بد أن يحمله الشخص الذي يقوم بالوزن ولا يتأتى له ذلك إلا إذا كان قائما قال أحد الكبراء بئس الميزان شلك لا يعطيك الوزن الحقيقي إلا ما دمت عليه قائما وهذا الذي قاله صحيح وقد يكتفون بتعليقه في عمود مغروز في الأرض إلا أن ذلك قد يكون مصدر حيف شديد إذ لا يعلم مدى اعتدال ذلك العمود وعلى عكس ما ذكرنا سمعت بعضهم مرة يقول في مدح شلك نعم الميزان العادل هو لا يصبر على مثقال ذرة من الجور فإذا زاد وزن إحدى الكفتين حبة شالت كفته بصفة صريحة لا يمكن التكتم عليها وهذا الميزان غالبا ما يخصص لوزن الكميات القليلة.
ومنها الميزان المسمى بالفرنسية روبي ر قال وهو من أجود الموازين وأعدلها وأكثرها انتشارا إلى يومنا هذا وله قاعدة يقوم عليها وتختلف أحجامه وهو معد لوزن الكميات من عشر كيلوجرامات فما دونها.
ومنها الميزان المعروف با لميزان الزحاف وهو أكبرها ولا يوجد إلا في المدن وهو معد لوزن الأمتعة الثقيلة والكميات الكبيرة.
وأما الصنجات المستعملة وتسمى عندهم بالحجارة وبالجرامات فإنها تابعة للنظام الدولي الذي أصله النظام الفرنسي وهي مصنوعة من كتل الحديد والنحاس وأكبرها حسب علمنا صنجة عشرة كيلوجرامات ثم صنجة خمس كيلوجامات ثم كيلان فكيل فليبر فمائتا جرام فمائة فخمسون ثم خمس وعشرون ولا شيء تحت ذلك لهم معلوم ونادرا ما يوجد الغش في هذه الصنجات ولقد كان للسلطة الاستعمارية عليها نظر دائم وتفتيش قائم مثل ما كان للمحتسب في الدولة الإسلامية أما نظام الوزن القديم عند العرب والمسلمين القائم على الأوقية والدرهم والرطل والحبة فما علمناهم استعملوه في وزن العلك ولا غيره نعم سمعناهم يتحدثون عن رطل الصوف والوبر خاصة ولا أدري ما أصل ذلك.
ذكر وزن العلك:
ووزن العلك يتطلب كثيرا من اليقظة والضبط والعلم بمواضع الغش ومداخل الغبن والقيام على ذلك بالنفس وعدم إيكاله إلى من لا يعلمه قال العلامة محمد مولود بن أحمد فال في نظمه المسمى بالكشكارية في الحض على الحضور في الصلاة:
فاحضر بها حضور عاقل الجمل **** أو البديل حين كيل وبـــــــدل
فانظر ما أبلغ هذا التشبيه فهو يدلك على خطورة الأمر ودقته قال بعض التجار ينبغي لصاحب البديلة أن لا تطلع عليه الشمس إلا وهو على الميزان مستعد للوزن وليكن حاضر القلب ليلا يغبن فإن المغبون لا محمود ولا مأجور وقال بعض الأدباء يصف أحد تجار العلك في روصو:
يزن العلك وزن من يعرف الوز**** ن من السادة التجار الكرام
ووصف بعضهم تاجرا آخر من المطففين فقال:
يكيل ويوفي الكيل إن كان آخــــذا**** وينقص دفعا كيله ويكالــــــــب
وينقص أيضا باعة العلك علكهــــم **** وينقصهم زرعا بما لا يناســـــب
ويخفض من ذا السعر في كل ساعة**** ويرفع إما أحوجته المـــــــــآرب
ويخلط أثمان الطعام وربمــــــــــــا**** يخيس به إن منه تعطى الأجانب
وفي المثل إنه أشد تيقظا ممن يزن علكه سألت بعض أهل الخبرة عن أصل هذا المثل فقال أصله أن أحد التجار كان له دكان يشتري فيه العلك وكان له زبناء سوء فأراد الانتقام منهم فاحتال حتى جعل الميزان الذي يزن به العلك موضوعا على قاعدة من الخشب فحفر فيها التاجر المذكور ثقبين مقابلين لكلتا الكفتين وأدخل فيهما حبلا وربطه في حديدتي الميزان الداخايتين فكان يمسك الحبل بأصابع رجليه ساعة وزن العلك يرجح أي جانب شاء قال محدثي وهذا كما لا يخفى لا يتأتى إلا ممن هو يقظان.
ذكر ما جاء في الدين والرصف بتقديم الراء على الصاد:
الرصف في اللهجة العامية عندنا هو إلحاح الغريم على المدين ليقضي له دينه قال بعض الظرفاء الظاهر أن مادة الصرف والرصف واحدة فهو من الاشتقاق الأكبر عند من يقول به من علماء العربية. والقاعدة التي كانت متبعة عند أهل الصرف هي منع البيع بالدين ويحتجون لذلك بحجج بعضها مقبول وفي أكثرها ضعف وقد يوجد من الصرافين من يبيع بالدين على وجه الندور والذين يبيعون بالدين منهم غالبا هم المحتكرون الذين يتربصون بالسلع زمن غلائها وبالمستهلكين زمن شدة حاجتهم إليها حين لا علك ولا حصاد فيبيعون لهم ما هم بحاجة إليه بالثمن المضاعف إلى زمن موسم العلك والحصاد وكثيرا ما يحدد أجل ذالك السلم بشهر مارس ولذلك قال بعض الظرفاء إن شهر مارس لا بد أن يذهب يوما مغاضبا لكثرة ما حمل عليه من الدين ويعبر العامة عن بيع المضاعف هذا بجز الآذان ولا أدري ما أصل هذه العبارة اللهم إلا أن تكون استعارة مكنية للتعبير عن المبالغة في الاستئصال والإمعان في الإهانة قال خالد بن علقمة الفحل:
تراه كأن الله يجدع أنفــه **** وعينيه أن مولاه ثاب له وفر
وقد يتعذر التسديد بعد حلول الأجل وهو يوم عض الشفاه ويقابله يوم هز اللمم افتخارا وهو يوم حمل الدين وإذا تعذر التسديد فما يكون من الصراف إلا يلازم المدين ملازمة الظل حتى يقضيه حقه وتسمى هذه الملازمة بالرصف والرصف يأخذ أشكالا واحدة في جوهرها ومضمونها متباينة في شكلها تباين الليل والنهار فعند بعض الناس يتجلى الرصف في مجرد السلام بدون موجب وأنشدوا:
إذا كان الكريم عليه دين**** فلا تزد الكريم على السلام
وعند البعض في ترك السلام مع قيام الموجب وأنشدوا :
يا دار عاتكة التي أتغزل **** خوف العدا وبك الفؤاد موكل
وعند البعض في الأخذ بتلابيب المدين لا أدعك أو تقضيني حقي وعند الآخر في السكنى معه على نفس الحصير لن أبرح الأرض على أحصل على حقي والراصفون يحتجون لما هم بصدده بالحديث الشريف دعه فإن لصاحب الحق مقالا وهم مع ذلك يعلمون ما ورد في فضل إنظار المعسر وكظم الغيظ والعفو عن الناس ومن أملح ما قيل في الرصف قول أحد الأدباء في تاجر اسمه أي رصفه فأخبر أنه ليس بدعا في ذلك وأنها شنشنة معروفة في الصرافين فقال موظفا لبيت ابن مالك في الموصول:
رصفني في دينه أي وفي **** ذا الرصف أيا غير أي يقتفي
ومن أندر ما قيل في الصرف الذي يمنع الدين والصرف الذي لا يمنعه قول بعضهم يمدح صرافا اسمه سيد لا يمنع الدين ويسكن سيد هذا مراوحا بين بئري انتجبرن وبري بمقاطعة المذرذرة وفي البيتين اقتباس من ابن مالك :
انتجبرن حرف وشبهه بري**** إن صرف سيد لم يكن بانتجبر
وإن يكن بانتجبرن أو ببري**** فإنه صرف من المنع حــــري
ومن أملح ما قيل في الدين إطلاقا قول القاضي محمذن بن محمد فال :
دين أبي ليلى به إن أمهلا**** فهو دين لا يموت المثلا
وإن بدا من حله النسيــان**** وعاق عنه البعد والليــــان
فإنه لا بد من لقائــــــــه**** يوما ولا محيد عن قضائه
ومما يندرج في هذا الباب ما حدثني به أحد الثقات أن أحد ظرفاء التجار في الزمن الأول أسلم بضاعة نفيسة لأحد المعسرين من أتباع حسان في ماتة من العلك فلما حان الأجل جاء يطالعه فيها فوعده ثم عاوده مرارا فما وجد شيئا فلما ألح عليه في الرصف قال له المدين هل لك في خطة الإنصاف قال ما أحوجني إليها قال هؤلاء بناتي إن غلبتهن في لعبة السيك قضيتك حالا وإلا أسقطت الدين ورجعت مصحوبا بالسلامة فلم يجد التاجر بدا من القبول فجيء بالسيك وعبئ دسته بعرا وعيدانا ونادى المدين بناته وكن خبيرات بالسيك لعبنه منذ نعومة أظفارهن فقال لهن إن هذا جاء يرصف أباكن على دين فإن غلبتنه أسقط الدين أليس كذلك يا طالبنا الغالي قال بلى فبدؤوا اللعب فكان من قضاء الله أن كانت الجولة على التاجر فمات من قطعه الكثير فكان كلما ماتت له قطعة ناداه المدين يابن فلان أسخط (بالخاء المعجمة يعني أسقط الدين) وكان التاجر كلما ساعفه الحظ بضربة نافعة أصفقن على أنها باطل فلما علم أنه لا طاقة له بهن أسقط الدين وصار يحدث الناس بهذه القصة على وجه التظرف.
الركن الرابع في تصدير العلك إلى الخارج وما جر إلى ذلك من ذكر حياة شراة العلك ونوادرهم:
وذلك أن تجارة العلك في بلادنا هذه قديمة جدا وقد ذكر البكري في كتابه أنه كان في زمنه وهو القرن الخامس الهجري يصدر منها إلى الأندلس يستعمل في صباغة الديباج ولا أدري هل كان يصل إليهم إذ ذاك عن طريق البحر أو عن طريق قوافل الصحراء أو هما معا. وقد ازدهرت تجارة العلك في القرون الخمسة الماضية وأبرمت بشأنها اتفاقيات أبرمها أمراؤنا مع مختلف الدول الأوربية وكانت مراكز بيع العلك في الزمن الأول في المراسي التي فتحها الأوربيون على شاطئ المحيط الأطلسي مثل ميناء هد المسمى بورتانديك وكمركز أكادير دوم وهو الذي ذكر الشيخ محمد اليدالي في كتابه المربي وذكر محمد والد في كتابه كرامات الزوايا أنهم كانوا يبيعون العلك والسمن للنصارى عند المرسى. ووقعت حروب ونزاعات كثيرة بين الدول الأوربية إذ ذاك سببها النزاع على حق احتكار تجارة العلك وبعد تغلغل الأوربيين في البلاد كانت هناك مراكز لبيع العلك على ضفة النهر مثل دكانة وادويرة وبوكي وكيهيدي ومطم وكانت إذ ذاك تسمى بجدور وقد يفقد بعض هذه المراكز أهميته لبعض الوقت وقد يكون ذلك لصالح مركز آخر كما وقع لمركز روصو فإنه ازدهر في أواسط القرن الماضي على حساب مركز ادويرة مثلا وقد كان باعة العلك منا أهل هذا البلد على وعي تام بما يمكن اجتناؤه من تنافس الأوربيين على تجارة العلك وكان من أمرائنا من استغل هذه المنافسة أحسن استغلال لصالح إمارته ومنهم من غفل عن ذلك إلا أن الأتاوات التي كان الأوربيون يدفعون للأمراء مقابل حق المرور والخفارة كانت في بعض الأحيان أحد الأسباب المباشرة للنزاعات الداخلية التي أثخنت إماراتنا وفتحت الباب على مصراعيه لتدخل الأوربيين في الشؤون الداخلية وتلك الوقائع محفوظة في الوثائق وكتب التاريخ ولا يليق برسالتنا هذه بسط مثلها وهكذا قد كان العلك أحد الأسلحة بيد أولي الأمر يستغلونه لصالح قضاياهم فقد حدثتنا الوثائق أن الإمام ناصر الدين حاول استغلاله للضغط على الأوربيين لضمان حيادهم كما استعمله بعد ذلك الأمير محمد الحبيب بن أعمر بن المختار في حربه مع الفرنسيين فحرم على رعاياه تصدير العلك إليهم فمن القبائل إذ ذاك من استجاب لهذا التحريم ومنهم من امتنع وكانت مساجلات شعرية بين الفريقين أثرت الأدب الموريتاني فمن ذلك قول محنض باب بن اعبيد يشكر لعشيرته الأدنين أن ساعدوا الأنصار ويعني بهم إيدولحاج فصدروا العلك على سفنهم معرضا ببني عمومته الفاضليين الذين انصاعوا لأوامر الأمير محمد الحبيب بمنع تصدير العلك قال:
جزى الله يعقوب بن ديمان إنهــم**** لقاح فلا ظلم عليهم ولا حجــر
هم نصروا الأنصار إذ هاب سفنهم**** ذوو العلك خيرا يستدام به الأجر
فقال زعدر الفاضلي يرد عليه:
إذا لم يكن شيء يعاب به النفر**** سوى طاعة الرحمن أو من له الأمر
فلسنا نبالي أن يزكي نفســــــه **** مزك يسامينا ومفخره التجــــــــــــر
والمساجلة أطول من هذا وبلغني أن طرفيها اشترطا أن لا تزيد على بيتين بيتين وكان العلك يباع عادة بالقماش والأرز والسكر والتبغ والمرشوش وهو نوع من الحلوى والسلع الأخرى التي يحتاج إليها أهل البدو وكان رواج العلك من الأمور التي يؤرخون بها يقولون عام المد بكذا وقد ازدهرت مراكز بيع العلك وخصوصا على النهر ازدهارا لم يسبق له نظير وقد بلغ من ازدهار مركز ادويرة وصلاح تجارتها أن العامة كانوا يضربون بها المثل ويقول أحدهم للشيء إذا أراد المبالغة في تفضيله إني أفضله على أبي قادما من ادويرة .
ذكر تجار العلك الذين يشترونه:
ويسمى تجار العلك في بعض المناطق بأغرمان وفي بعضها بإمراشن جمع أمراش وهو قوم نصبوا أننفسهم لاستجلاب العلك إما لصالح أنفسهم وإما لصالح دور التجارة الكبرى التي يمثلونها وقد يباع العلك لأهل الدور مباشرة وقد يباع لأهل الزوارق الذين انتدبوهم لذلك يدل لذلك قول الشيخ أحمد بن سليمان متوسلا:
وارجع إلى أيروار إكيد علكه**** وربحه إن باعوه في الدور والفلك
وكان كل أمراش له أعوان يتلقون قوافل العلك من بعيد وله دعاة على أبواب المدينة يدعون أهل العلك لذلك يتحملون لهم أجرة حراسة جمالهم إلى أن يتم بيع العلك يعدونهم بكل خير وقد استفاد أهل العلك من هذا التنافس وحدث مرة أن اتفق تجار العلك على إنشاء شركة موحدة لشراء العلك فأثر ذلك على ربح العلك وهذا ما يستشف من أبيات الشيخ أحمد بن سليمان حيث يقول متوسلا:
وشركة أهل الشرك عجل فسادها**** فإن الرباح لا يكون مع الشرك
وحدثت أنه كان قرب مدينة ادويرة إلى عهد قريب شجرة يقال لها شجرة التراجمة سميت بذلك لأن التراجمة كانوا يتلقون عندها أهل العلك القادمين من البدو كل ترجمان يدعو إلى أمراشه ويوعد أهل العلك بأنواع الخير والإحسان من إعطاء كرتة مجانا والمرشوش والشراب المحلى إذا هم باعوا لأمراشه.
ذكر جاه العلك :
وهذا الإحسان الموعود به يسمى في عرف القوم جاه العلك أو وجه العلك من ذلك أنه جرى عملهم أن قيمة كل تاجر عندهم على قدر ما باع من العلك فلكل كمية من العلك جزاء معلوم من ذلك على سبيل المثال أن من جاء بمائة كيل فأعلى يكون له الحق في جفنة من الطعام كل يوم تدور معه حيثما دار ومنه سبنية يلف له فيها بعض الطرف الرخيصة الثمن عند أهل الحضر ولكنها تقع من أهل البدو موقعا عظيما قال صاحب الوسيط ومن عادتهم أن صاحب العلك يفرش له ويقرى وقد شبه العلامة البشير بن امباركي في رحلته النثرية إلى الحج بعض المطوفين الذين لاقاهم في أول القرن الماضي في المناسك شبههم بأعوان أهل العلك الذين يتلقون باعة العلك ويعدونهم بمعسول الوعود وحسن المردود حتى إذا اختبروا ذلك وجدوها أكاذيب لا طائل تحتها ومما يحكى في جاه العلك قصة حمار الدركية المشهورة عند الناس وهي كما حدثني الثقات أن امرأة اسمها الدركية جلبت كثيرا من العلك إلى مدينة ادويرة فباعت علكها من أحد إمارشن فأعجبه كثرة علكها وجودته فصار يحلي لها الشراب جزاء ما فعلت فاتفق يوما أن حلى لها قدحا عظيما من المذق الجيد فشربت منه حتى رويت وبقيت منه فضلة صالحة فلم تجد أحدا أجدر بأن يعطى ذلك الشراب من حمارها الذي حملت عليه هذا العلك المبارك فأعطته للحمار فعافه أول الأمر ثم إنه استحلاه فشربه كله ولما رجعت إلى أهلها وكانت في متوسط الطريق عطش الحمار فمرت به على منهل قريب واغترفت له من الماء الزلال فعافه وأبى أن يشرب إلا اللبن المحلى واللبن المحلى عزيز الوجود فمات الحمار عطشا فصار يضرب به المثل فيقال فلان صار كحمار الدركية إذا غير عادة من عاداته لغير سبب معقول وهو قريب من قولهم صار احمورة وهو لقب أتان كانت لا تشرب اللبن فشربت منه مرة فصارت تكرع في الرماد الأبيض تحسبه لبنا من شدة لهجها باللبن ومما يحكى في المحاضرات وله تعلق بجاه العلك قصة المثل الشهير جر إن كنت جارا وهي كما حدثني غير واحد أن قوما من مجموعة معروفة باعوا لأحد إمارشن كمية هائلة من العلك فأحسن نزلهم وأكرم مثواهم لذلك فخصص لهم دارا مفروشة وأمر فتيته أن يقوموا في خدمتهم وأن لا يدخل معهم من ليس منهم واتفق أن أحد الظرفاء دخل معهم على حين غفلة من الرقيب فجاء قيم الدار يتفقد الناس هل دخل معهم غريب وبما أنه لا يعرفهم لم يجد بدا من اللجوء إلى عريف القوم يسأله فطفق يشير إلى أحد الجالسين فيقول للعريف هل هذا منكم فيقول العريف نعم حتى بلغ إلى الظريف فقال العريف لا إنه ليس منا فأمر قيم الدار أحد أعوانه أن يأخذ برجله ويجره خارج الدار فلما أخذ برجله ندم العريف وأدركته خزاية وتذمم وقال في نقسه بئس والله ما صنعنا يدخل بيننا غريب ويتحرم بنا ولا نؤويه وقال للقيم دعه عنك فإنه منا فقال الظريف للذي يجره إياك أن تسمع ما يقول هذا فما أنا والله منهم فجر إن كنت جارا فأرسلها مثلا .
ذكر بلاط أمراش:
وبلاط أمراش عادة ما يكون غاصا بالتجار والعلماء والشعراء والأدباء والعباد والراغبين في الخير كل يعرض سلعته على هذا الباب ويتنافسون في إرضائه واستجلاب نعمائه ويحسدون أهل العلك على الحظوة والعناية التي يحاطون بها ولاسيما العلماء والأدباء فإنهم لا ينقضي عجبهم ممن يفضل أهل العلك على أهل العلم وقد يغضب بعضهم فيتذمر كالعم بن أحمد فال العلوي حيث يقول في أهل دكانة لما فضلوا عليه الفدادين من أهل العلك :
أما واليعملات من المطايــــا***** ومكنون المحاسن من حــــــذام
لمن ريب الزمان ومعتـــــداه ***** مقامي في دكان بلا مقــــــــــام
كأني في المحافل واو عمرو**** وهمز الوصل في درج الكــــــلام
وقد يذهب بهم السخط إلى مرير الهجو كقول بعضهم في قطعة:
ضيف المراش إذا ما لم يكن ملكا**** أو تاجرا فاجرا فهبه قد هلكا
وكقول أبي بكر بن محمذن بن أبي بكر راجعا عن شهادة بخير شهدها لبعضهم:
فأشهدكم والله يعلم إنني**** إلى الله من تلك الشهادة تائب
وقد كان شاطئ النهر في موسم العلك أشبه ما يكون بالمربد أول الدولة الأموية يثوب إليه الأدباء والشعراء من كل صوب وحدب وتثار النزاعات والنزعات والعصبيات وتنشد فيه الأشعار وتقع المساجلات الفصيحة والشعبية ولو وجد هذا الأدب من يبحث عنه في مظانه ويجمعه لكان رافدا كبيرا من روافد الأدب الموريتاني وكان بلاط أمراش مناسبة يتعرف فيها أهل البدو من جالبي العلك وغيرهم على أنماط من الحياة لم يألفوها وعلى أطعمة لم يعرفوها كالحوت والمكرونة والدجاج والدراج فكانوا أشبه شيء بالأعراب القادمين على الريف في صدر الإسلام ويقع لهم نفس النوادر والوقائع. فمن ذلك ما يحكى أن رجلا من أهل الصقع الإكيدي نزل ضيفا في بلاط أحد إمارشن فجيء بقصعة فاخرة من الأرز والسمك وهي وجبة من خير ما يقدمه أهل النهر فرفع يده فلم يأكل فسئل عن سبب ذلك فقال إنا أهل هذا الحي لا نأكل لحم الكوت أي الورل ونظم هذه النادرة الشيخ سيد محمد بن الشيخ سيدي :
وقال إذ جيء بلحم الحوت**** ديمان لا تأكل لحم الكوت
ويروى أن رجلين من أهل البادية ضيفهما أحد إمارشن وعند دخولهما عليه صاح ديك قربهما مرة أو مرتين فلما كان وقت الغداء قرب إليهما مائدة كان مما عليها أرز ورأس ديك فالتفت أحدهما إلى صاحبه وقد أنكر رأس الديك فقال له هذا الأرز قد عرفناه فما هذه الهنة التي عليه فقال له صاحبه لعله رأس المؤذن الذي كان يؤذن هنا آنفا وقد يشتكي أهل بلاط أمراش كثرة البعوض وضيق المكان في الليل فمن ذلك قول بعض الشيوخ وقد بات في صالة مع مجموعة من الشباب قادمين من جهات شتى فضيقوا عليه فقال:
لقد بت في هرج وللمرد مركبا**** وكنت إخال المرد لا تركب الهرمى
وما كانت الهرمى تعد مراكــبا **** ولا تركب الهرمى وبالسوء لا ترمى
وقد يجتوي بعضهم الأرض كلها ماءها ومرعاها ومزاج أهلها قال محمذن بن سيد بن نختار:
أتاي شامام لا يخلو من الكـــــــــدر**** في الماء ذلك أحيانا وفي البشر
إذا صفا الماء لم تصف الجماعة من **** مكدر أو قريب العهد بالــــــدر
ذكر التملق لأمراش:
وأما التملق لأمراش فقد يكون بمدحه شعرا أو نثرا وقد يكون بملاطفته وقد يكون بعبادة الله تعالى عما يشركون أما مدحه بالشعر فقد كان دائما مشفوعا بالاستجداء إما تصريحا وإما تلويحا ومن أظرف التلويح قول الفقيه أحمد سالم بن سيد محمد يخاطب أحد وجهاء تجار العلك في اندر بعد أن مدحه فقال في آخر القطعة:
لم يبق لي إلا أواق أربــــع **** فيها لباسي مع ركوب القارب
فإذا ركبت بها فلست بلابس **** وإذا لبست بها فلست براكب
ومن أجود ما مدح به القوم قول ابي بكر بن محمد بن أبي بكر يمدح تاجرا اسمه يحيى:
لقد فضل الرحمن من انزل الوحيا **** على أهل هذا الصقع قاطبة يحيى
فمن كان في داكان ميت حاجـــــة **** فيحى به الحاجات ميتها يحيــــى
وقول اميه بن الحص بن سيد الأمين بن أعمر يمدح المسمى فاربرم :
فتى ألم الندى والجود حيث ألم **** وساد ناديه امبي بن فاربــــــرم
ما شاب دين الإله قط شائبـــة **** من النصارى ولا ترى عليه رقم
وفي قوله ولا ترى عليه رقم تعريض بالموظفين الذي يحملون ميداليات الشرف الفرنسية. وهذا باب واسع جدير بالبحث فلقد سمع هؤلاء أنواع الشعر من غث وسمين وبارد وسخين. وأما ملاطفة أمراش فتكون باستنطاق مزاجه ومعاملته بما يناسب ذلك إن قبضا فقبض وإن بسطا فبسط ولكن المعروف عن إمارشن عموما هو بلادة الذوق وضيق الأفق إلا ما ندر فمن ذلك ما يحكى أن جماعة من ظرفاء باعة العلك دعاهم كبير من إمارشن إلى طعام في يوم من أيام الأنس فلما طعموا واستأنس بهم الحديث أخذوا في طرائف الأخبار ونوادر الفكاهات يرومون بها إضحاك أمراش والترفيه عنه فلم يرتح لشيء من ذلك بل ظل واجما عابسا فلما لم يغن عنهم ما حكوا شيئا قال أحدهم قد والله فهمت من أين أتينا أنا أضحكه لكم فسترون فروى له قصة أنشأها من خياله وهي أن أحد الحمالين كان يوما يحمل على ظهره زكيبة مملوءة من العلك فمر بها في أحد أزقة المدينة فعثرت رجله ببعض الأحجار وكان يوما شديد الحر فسقط على الأرض وسقطت الزكيبة عليه وتلوث وجهه بالغبار وعندها ضحك أمراش ضحكة لم يضحكها قط وركض برجله على الأرض واستعاد القصة مرارا ومثل هذه القصة أخرى شاهدة لها وهي ما رويناه عن العدول أن أحد فنانينا التقليدين من العازفين العارفين والمغنين المتقنين غنى أحد إمارشن يوما صوتا أجاد اختياره وعزفه وأداءه فلم يطرب لغنائه وما حركت الأوتار منه ساكنا فحسب الفنان أن ذلك تقصير من جانبه فأصلح من عوده وتنحنح واجتهد مرة أخرى فلما رأى أمراش منه الجد قال له لا تتعب نفسك فإنه لا يطربني شيء مثل ما يطربني الدبش يعني صوت جعل الزكائب بعضها على بعض وهذا كما رأيت يدل على سوء ذوقهم ويدل عليه أيضا قولتهم المأثورة عليكم بالأكل فإنه لا بد للإنسان من الأكل لأنه إذا لم يأكل لم يقدر على القيام ولا الحركة وإن لكم من زكيبة العلك لأكبر دليل على ذلك فهي ما لم تملأ علكا فلن تستطيع قياما ولا حركة وأما التقرب إلى أمراش بعبادة الله تعالى فكثير وقد خلق الإنسان ضعيفا وكثيرا ما يقع ذلك إذا علم أن أمراش يعتني بالعلماء وله ميل إلى حكايات الأولياء والصالحين يحكى أن أحد العباد من أهل هذا النوع بات يتلو القرآن من أول الليل إلى ساعة متأخرة منه بصوت جهير وكان معه في قاعة أمراش قوم ضيوف مثله فمنعتهم تلاوته من النوم فلما طال الأمر عليهم قال أحدهم دع عنك التلاوة فقد نام الرجل ومثل هذه ما قيل إن أحد الظرفاء سمع رجلا يذكر الله جهرا بأعلى صوته فاتهم أن له غرضا فاسدا في ذلك الذكر فقال له يا فلان اذكر الله ومما يندرج في هذا الباب ما يحكى أن أحد الطلبة ممن له جاه عند أمراش قرأ بحضرته قوله تعلى يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا فكسر اللام من يطلبه والتلاوة ضمها فقال له شيخ من الحاضرين ممن لا يؤبه به أما الله تبارك وتعالى فإنما قال يطلبه بضم اللام فضحك الحاضرون لما في قولته هذه من بليغ التنكيت مع ما فيها من الإشارة إلى أن هذا القارئ يطلب الخير من أمراش بتلاوته وبذكر نادرة هذا الشيخ الذي ربما لو أقسم على الله لأبره نكون أيها الأخ الكريم والصديق الحميم قد أتيناك بتمام أركان هذه الرسالة المباركة ذكرا من العلك من يوم نبوغه إلى يوم خروجه من أرض الوطن وما تعرض له خلال مشواره الطويل من أخذ ورد وما أحاط به من الملابسات الطريفة والظريفة وسنردف إن شاء الله بنافذة نفتحها حول الرفقة فإن موضوعها وثيق الصلة بموضوع العلك وإننا لعلى يقين من أن أدبياتها أكبر وأجل من أن تحيط بها عجالة كهذه فما سنذكره هنا إنما هو على سبيل المثال والأنموذج لا على سبيل الاستقصاء والاستيعاب.
خاتمة: نافذة حول الرفقة والقافلة : اعلم أن الرفقة والسيارة والعير واللطيمة ألفاظ متقاربة وتسمى عندنا بالعامية الحسانية الرفكة إذا كانت ذاهبة للميرة خاصة أما إذا كانت ذاهبة لأعم من ذلك فيقال لها بالعامية حظرة والأصل في الفصحى أن لا تسمى العير قافلة إلا إذا كانت راجعة لأنها فاعلة من قفل إذا آب ولكنهم أطلقوها على كل عير من باب الفال الحسن ولقد كان تنظيم القافلة في بلادنا هذه يخضع لقواعد وتنظيمات دقيقة كانت ثمرة قرون من التجارب المتراكمة على مدى الأجيال وكان موسم بيع العلك وجلبه إلى مراكز بيعه موسما عظيما يجتمع له أهل القافلة ويتجهزون الأيام والأسابيع ويأخذون له عدته فما كان تنظيم قافلة العلك وما تؤوب به بدون تنظيم اللطيمة في الجالية وكانت القافلة تتألف من الإبل والحمير والثيران أو تجمع هذا وذاك أما الخيل فإنها أجل وأشرف من أن يحمل عليها شيء قل أو كثر والبغال ما كانت معروفة في هذه البلاد ولكل نوع من هذه المراكب حسنات لا يشاركه فيها غيره فالإبل أكثرها حملا وأصبرها على العطش والسير الطويل أما الحمير فأصبرها على الضرب وأرضاها باليسير من الزاد وأما الثيران فأسراها بالليل وأصبرها على عض الذباب والبعوض وهذا الحكم الذي ذكرنا إنما هو بالجملة وإلا فإن من الحمير لما يفوق نجائب الإبل. يروى أن الفكاهي الشهير باب فال بن المختار اعتبر أن من ركب على حمارة عليها مزود زرع وسارت به بعيد العصر وقد تركت بنتا في الحي الذي يسير إليه فإنه كمن دخل الجنة لحسن هملجتها وسرعة وصولها. وأما الثيران فينقم عليها كثير من الناس أن الله تعالى لم يعدها في المركوبات حتى أن بعض الأوساط كان يستهجن ركوبها جدا حتى أن أحدهم رأى يوما رجلا راكبا على ثور فنادى بأعلى صوته تعالوا فانظروا إلى رجل يحمل ثورا بين رجليه وأهل الصحراء الذين هم أهلها لا يحبون البقر ولا ما يمت إليه والمعجبون بالإبل معترفون بأن لها عيوبا ليست في الحمير ولا في الثيران وهي أنها لا تصبر على عض الذباب وينالها منه ضرر كبير وهي أيضا لا تحتمل طول الحبس في المدن والقرى وهذه ظاهرة قديمة تفطن لها العرب في الجاهلية يوم إذ كانوا يفدون على الملوك الحميريين والمناذرة والغساسنة قال أحدهم :
تشكت ممض القيد بالريف ناقتـي**** وحنت إلى الأجزاع من بطن عاقل
هنالك لا أملي لها القيد بالضحى **** ولا هي إن راحت علي بعاقـــــل
وقال النابغة الذبياني بصف ناقته مدة إقامتها بالحاضرة :
وقارفت وهي لم تجرب وباع لها **** من الفصافص بالنمي سفسيـر
تلقى الأوزين في أكناف دارتهـــا **** بيضا وبين يديها التبن منشور
وكانت قافلة العلك أقل تعرضا للخطر من القوافل العابرة للصحراء لأن قافلة العلك لا تخاف أن تضل فالطريق سالك معروف ولا أن تعطش فالأبار قائمة مأهولة ولكنها في الدهر الأول كانت تخشى اللصوص والسباع لذلك كان لزاما على قافلة العلك ذاهبة أو آئبة أن يكون فيها قوم أشداء على علم بمكامن الخطر وتدبير أمور السفر قد عركوا الدهر وعرفوا العباد والبلاد ولا يكرهون أن يصحبهم رجل من حملة المدافع مهيب الطلعة قوي الشكيمة يرد عنهم غائلة كل ذي ناب من السباع وتفت رؤيته في عضد اللصوص المحتملين وأهل الرفكة لا يكتفون بذلك فلا بد من أن يكون معهم طالب أو شيخ يخفرهم بدعائه وتعاويذه سمعت مرة عجوزا من أهل البادية تقول لا شيء أحمى لرفكة من فحل الطلبة لا تذوق عيناه النوم يبيت يغني بقوله تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن وعكسا لذلك روي لي عن بعض من لا يرى الاعتقاد في كثير مما يدعيه الطلبة أنه كان يقول لا أحد أشد تضييعا لحزم من رفكة الطلبة يبيتون على قارعة الطريق ويكلون حراستهم إلى الشيخ الضعيف. وكان جل خوف أهل الرفقة إنما هو من أسامة أبي الحارث ويكنونه بأبي جناح ومن الملاحظ أن العامة يحكون عن الأسد من كرم الشمائل وشرف الخيم ما يرقى به إلى مصاف عظماء أهل المروءة من ذلك أنه لا يظلم الناس ولا يتعرض للمنفرد الأعزل ولا للمرأة إطلاقا إلا أن هذه القناعات سرعان ما تتبخر من أفئدتهم عند أول زأرة له يسمعونها أو وطأة قدم له يبصرونها فترتعد فرائصهم وتيبس حلوقهم ويفقدون وعيهم من شدة الرعب ولأهل الرفقة في رد عادية الأسد تدابير مختلفة غير التعوذ والاستعاذة بعباد الله الصالحين منها التطبيل بالدفوف والصراخ وإشعال النيران والحق أن كثيرا من هذه التدابير لا ترد إلا أسدا لا يريد هو الإقدام أما شرتات ويسمى عندنا بالدب ولا أدري حقيقة ذلك فإن البشر بمأمن منه أن يفترسهم وكذلك الإبل غالبا وإنما يخاف منه أهل الرفكة على الحمر فهو آفتهن وقد جعل الله فيهن غريزة عجيبة وهي أنهن إذا رأينه رفعن بآذانهن وأهرعن إليه حتى يرتمين في أحضانه ويلقي أهل القافلة في ردهن عنه مشقة عظيمة وكذلك الشأن بالنسبة للثيران والأسد فإنهن يشعرن بقربه قبل أن يشعر به الناس فيأخذهن تبول غير مألوف يستدل به أهل الخبرة على تواجد الأسد بالقرب فيأخذون لذلك الاحتياطات الضرورية وأما الذئب فلا ضرر منه على الناس والدواب في الغالب وقد قيل إنه يسطو على الشخص المنفرد فيقع فيه ولاسيما إذا رآه أعزل لا يحمل عمودا ولا عصا وأما لصوص بني آدم فمن كان منهم يمتهن السرقة فإن الشأن فيه الحراسة فإن كفت فبها ونعمت وإلا بأن اقتضى الأمر مناوشة فمن شأن الحذاق من أهل الرفاق في ذلك الاكتفاء بما يردع الصائل دون الإمعان في الإثخان وأما من كان منهم يمتهن الغصب جهارا نهارا فالشأن في مثل هذا المصاولة حتى يحكم الله وقد يستعملون الأسرار الخفية ولكنهم هنا أيضا يكرهون من ذلك ما يمس بحياة اللصوص وعلتهم في ذلك أن موت اللصوص تقتضي إهدار يوم من السفر في الصلاة عليهم وتجهيزهم فكل هذا لا داعي له وأما المطر فلا خوف على قافلة العلك منه غالبا لأن موسم العلك إنما هو في فصل تيفسك وهو عندنا في قلب فصل الجفاف على أن المطر إذا أظلهم فلن يعدموا من أهل الرفقة من له علم بحبس المطر بتعاويذ وتراتيل يهينم بها فينقشع المطر بعد أن ألقى بهيدبه على الأرض وقد لا تنفع هذه فينزل المطر كأفواه القرب فيبل لحية الشيخ الذي كان يعتزم حبسه ويملأ عينيه ترابا ويبل نفيس متاع أهل الرفكة فترى الودق يخرج من خلاله على أن كل هذا هين بالنسبة لمضار الجفاف وكان من عادة أهل الرفكة أنهم إذا عرسوا تناوبوا الحراسة ينام بعضهم نوبة ويحرس غيره على غرار صلاة الخوف ومن أظرف ما يحكى في هذا الموطن أن قافلة تفاوضوا مرة في كيفية تناوبهم في الحراسة وكان معهم علك كثير يملك أكثره رجلان منهم وكان معهم ظريف له من العلك ملء ظرف صغير فقالوا نتناوب على الحراسة بأن يحرس كل منا مدة ساعة وينام أخرى فقال الظريف اللهم لا بل يحرس كل منا قدر علكه وقد يحدث نادرا أن تقتصر القافلة على رجل واحد معه قطار من الإبل يحمل عليه المتاع ويحط وحده وهذا النوع من الرجال ممن يوزن بالأربعين في غاية الندور وكيفية حمله للمتاع وحده أن يستعين بعمود ذي شعبتين في أعلاه فيغرزه بالأرض فإذا أراد أن يحمل على بعير أدناه من العمود بحيث يحاذي العمود دف البعير فيحمل عليه عدلا ثم يأتي بالعدل الثاني فيقرن بينه وبين الأول بعود الشظاظ ثم يجعل العلاوات فوق ذلك وهذه التقنية معروفة عندهم وكان السفر في القوافل محكا يخبر به أحوال الرجال وتسبر به سرائرهم ورجوليتهم ويعرف به مدى تحملهم للكل وصبرهم على التعب وحزمهم وعزمهم بل وحتى تقييم عدالتهم وكانوا يكرهون للرجل أن يركب أو يشرب على ظهر السفر وأن يأكل قبل نزول القافلة وأن يكون متميزا على إخوانه بشيء بل يحسن به أن يأخذ معهم فيما يأخذون فيه من جد ومرح وأن يشاركهم في المهنة والخدمة ويقبح بالرجل أن يكون أول من يجلس على الفراش في السفر وآخر من يقوم عن الطعام ولم تزل المجموعات عندنا حريصة على أن لا تبعث في القافلة إلا رجالا من أهل الجلد والجد والعقل والصبر وحسن الخلق لأنهم بمثابة السفراء ولما قال العلامة البشير بن امباركي في وصيته المشهورة في باب آداب السفر:
وإن بليت برفيق ذي ثقــــــــــل**** في ملبس أو مضجع أو إن أكـل
وهو أكول وشروب ذو كســــل**** لا يحمل الدبش ولا يرعى الجمل
وحيثما طار الذباب يغضـــــــب**** لسانه مر بــــــــــــــــــــذي ذرب
وما به موزح من كـــــــــــــلام**** يغيظه لكثرة الأعظــــــــــــــــام
وهو لفرط جهله المركــــــــب**** يعد نفسه من أهـــــــــــل الأدب
فاخفض له منك الجناح واسترن**** أخلاقه بخلق منك حســــــــــــن
حتى ترى موافقا ظنونـــــــــــه **** إنك لا تصلح شيئا دونــــــــــــــه
لما قال هذه الأبيات أنكر عليه الناس إمكان أن يكون مثل هذا الرجل الذي هذه صفته موجودا في رفكة ومن عادة أهل القافلة أن يصطحبوا ما يحتاجون إليه من زاد وماعون وأن يتفقدوا ذلك حتى لا ينسوا شيئا فيفقدونه وهم أحوج ما يكونون إليه وأبعد الناس منه لأنهم في خلاء من الأرض بعيدا عن العمران يروى أن ازويدين بن امحيميد بن جانبور كان مرة في رفكة قافلة من ادويرة فلما كانوا ببعض الطريق هموا بذبح شاة عندهم فلم يجدوا موسى ولا سكينا فبحثوا عنها عند أهل القافلة فردا فردا فلم يجدوها وكان ازويدين المذكور متخلفا في آخر القافلة لبعض شأنه فلما سألوه قال لهم نعم عندي موسى جديدة اشتريتها بالأمس من ادويرة ولكني سأرجع الآن لطلب إقالتها فقد أعلم أن غالب أفراد هذه القافلة أعقل مني وإذ لم يشتر أحد منهم موسى ولم يخطر بباله ذلك فلا شك أن شراء المواسي لا خير فيه فهم بالرجوع إلى ادويرة لطلب الإقالة لولا أن أهل الرفقة أقنعوه بالعزوف عن ذلك واعترفوا له بفضله ومن محاسن أخلاق أهل الرفقة التي يجب أن تكتب بماء الذهب وهي من قواعدهم المتبعة أنهم كانوا لا ينفصلون عن المحلة إلا بعد أن يتحققوا أن كل مسافر قد أخذ عدته وأن كل جالب قد حصل جلبه وكان أهل الحل والعقد في الأحياء حريصن على احترام هذا النظام يروى أن شابا من أهل إكيد سافر بغتة إلى أرض شمام في قافلة من غير أن يعلم أحد بذلك فسمع بذلك شيخ من أهل حيه فأرسل في إثره راكبا يغذ السير يأمره بالرجوع فورا فرجع مذعورا يخشى أن يكون قد وقع حدث فلما جاء قال له الشيخ الأمر أمر خير إلا أنه ما هكذا الذهاب بالقوافل الذهاب بالقوافل أن يعلن الشخص عن نيته في الذهاب أسبوعا أو أسبوعين قبل موعد ذهابه حتى إذا كان هنالك من لا راحلة له فيحمله أو ضعيف يعينه أو أرملة عندها بضاعة ترسلها معه أو يكون لبعض الناس حاجة بوصية يوصيه عليه فإذا حصل كل هذا أخذ فال يوم الاثنين الموالي أما الذهاب هكذا بدون إيذان وبلا برذعة فلم نعرفه ولم نسمع به ولم نره قبلك.
قال كاتب هذه الرسالة وبهذه الحكاية العطرة نكون قد أنهينا ما كنا بصدده من إنجاز ما وعدنا من ذكر أخبار العلك في بلادنا هذه فالمرجو أيها الأخ العزيز أن تتقبلوا هذا العمل بالقبول الحسن وأن تذكروه ذكركم الله بالذكر الحسن والصلاة الكاملة والسلام الأتم على من به يبدأ الذكر الجميل ويختم .
انواكشوط 5 ــ 2 ــ 2001م
محمد فال بن عبد اللطيف
الجزء الأول
لقدكان في خلق القتادلاهله منافع لاتحصى من المنعم الاجل متاع الى حين متاع الى حين لمال وانفس
كلمة إمارشن مفردها أمراش تحريف للكلمة الفرنسية Marchand التي تعني التاجر
وقد كانت تطلق على تجار التهر الذين يشترون العلك لدور التجارة في اندر
العلك كاع أبار اخبار
شكرا لكم
لكن طولتم عليناالكتبة هذه المرة