دأب الشعراء في غزلهم على إظهار ما تكنه جوانحهم من التعلق بالمتغزل بهن، من خلال استعراض مخاطر محاولات اللقيا، ووصف معاناتهم مع الهجر والصرم وعدم مبالاة الإلف باهتمام الشاعر الكلف وانعكاسات ذلك على حالته النفسية والجسمية.
ولكن لمرابط امحمد بن أحمد يورَ تميز عمَّن سبقه من الأدباء بأنه حاول قياس مدى تعلقه بعرصات ديار من ذكرهن في شعره، من خلال استخدام وحدات قياس مختلفة، وقد لفت انتباهي ذلك الملمح الإبداعي في نصوصه الثلاثة التالية.
أولا: المقياس المتري
گيّمْلِ شَوفْ إدْوَيرَ بيْـــــــــنْ * امْبَمْبَاتْ إِعلَ رَيْ العَيْنْ
غَيْوَانْ أَدْرَسْ لِ كِنْتْ إِسْنِينْ * امَّاسِ عَــــــــنُّ گاعْ إِبْرَ
وِلِّ هِيَّ دَارْ إِنْيِذْنَيْـــــــــــــنْ * ذِيكْ الـــدّرْسْ ءُ دَارُ لِخْرَ
گامُولِ مِنْهُمْ غَيْوَانَيْــــــــــــنْ* إِكْـــــــــبَارْ أُنُوَاشِتْ بَگْرَ
إذا كانت رسوم دار امببات أهاجت عقابيل غيوان واحد، فإن أطلال دار انيذنين أثارت غيوانين وثلثين من الغيوان الثالث، إذ من المعروف عند “آنْمَارَ” أن ذيل البقرة يمثل دائما ثلثي طولها، وهنا نجد أن لمرابط امحمد فضل الوحدة المترية لقياس المشاعر والأحاسيس التي أثارتها في نفسه رؤية تلك الربوع.
ثانيا: مقياس الوزن
ابْنِصَّكْ وَلَّ كَـــــــاعْ إِزِيدْ * إِمْشَ تِشْوَاشْ ازْمَــانْ إِبْعِيدْ
وِانْتَ كَايِلْ عَنَّكْ مُـــفِيدْ * أُيَمْ التِّشْوَاشْ إِعْلِيكْ إِلْيَاشْ
وِاتْبَانْ إِعْذَرْتْ إِبْلِمْهِيرِيدْ * وِابْكِتْبِيتْ الَّ فِالتِّــــــشْوَاشْ
أُهَاذَ هُوَ مَوْكَفْ تَوْحِـــيدْ * اللَّكَّاطْ أعِـــــــــــذْرْ النَّوَّاشْ
وَثْرَكْ لُجَيْتْ التُمْبُزَيْـــــدْ * مِنْ جِيهِــــتْ لُوَيْدْ إِلِّ خَاشْ
فَجَارْ إِمْنْ إِمْكَابِلْ لِغْـرَيْدْ * مَا يَــــــــبْكَالِ مِنَّكْ مُنْكَاشْ
واصل الأديب المبدع استعارة المكان عن السكان، من خلال المفاضلة بين لمهيريد و تمبزيد، وجرد من نفسه مخاطبا أظهر من خلاله معاناته الوجدانية، والتأثير الكبير لعرصات لمهيريد وأثافيه ونؤيه عليه، حيث أثارت لديه ذكريات وأحاسيس قديمة أضر تذكرها بحالته النفسية، فنحل جسمه وفقد أكثر من نصف وزنه، والمفارقة أن الشاعر في حديثه النفسي المسموع، يتفاجأ من قوة وحجم ذلك التأثير فبدأ يعدد ويلقي معاذيره، وعلى أساس تأثير لمهيريد بنى الشاعر استنتاجاً مؤداه أن رؤية معالم الطريق المؤدية لتمبزيد، ستدفعه إلى ادِّكار أيامها الخوالي،وهو ما سيقضي على ذمائه، وقد اختار التعبير عن ذلك التحول الجسدي باسم الآلة “المنكاش” الذي يوضع عادة بين الأصابع لصغره، وهو ما يعني أن امحمد فضل هذه المرة قياس المشاعر من خلال تأثيرها السريع على وزن الشاعر.
ثالثا: ميزان الذهب
مَارِتْ عَنْ عَنْدِ كِــــــرَاطْ * مِنْ بَغْيِكْ مَا مَرْ افْلِخْلاَطْ
عِتْ إِنْحَاسِنْ مِنْ تِحِيَّاطْ* رِعْـــــــيَانْ إِبِلْ مَانِكْ فِيهَ
أُلاَ نَجْبَرْ نَاكَ فِيهَ حَـــــاطْ* مَا ظَلَّيْـــــــتْ انْكَوْرَرْ بِيهَ
في النص الثالث استخدم الشاعر لفظ “كراط” والذي يتبادر للمتلقي في الوهلة الأولى أن مراد الشاعر هو القراط، خاصة أن اللهجة الحسانية تحتوي على بعض الألفاظ التي أبدلت قافها جيما مصرية “اتكمكيم” كالقلب والقول والقيام، ويعزز ذلك قوله إن الكراط لم يضع أثناء الاختلاط وهو ما يشير إلى صغر حجمه، وقد ورد لفظ “كراط” في مديحية للأديب الأريب المختار بن هدار بمعنى المال من باب إطلاق لفظ الجزء على الكل في قوله مشيرا إلى زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا:
كِرْمُ حَكْ أكِلِّتْ تِمْنَاطْ * زَادْ امْعَاه أنْوَاعْ الكِرَاطْ
بالإضافة إلى أن لفظ “اتْكَيْرِيطْ” قد يكون مشتقا من تجارة مقايضة عروض التجارة بالذهب. فلعل أصحابها كانوا متشددين عند الاقتضاء.
وتأسيساً على ذلك فإن الشاعر حول المشاعر في هذا النص إلى عملة نادرة وحجارة كريمة بقرينة قياسها بوحدة قياس وزن النضار واللجين.
يعقوب بن اليدالي
لعلك أول من تفطن واتجه إلى هذا المنحى من قياس المعاني بالملموسات
إنه اكتشاف جديد حري بأن ينوه به و ان تتداوله اقلام الأدباء و النقاد لسبر أغواره و جعله من أدوات استبيان جماليات النصوص الأدبية
تحليل ودراسة أدبية في منتهى الروعة .. لقد انتجعتم بعيدا بعيدا في توظيف كل هذه الادواة القياسية حتى لكأنكم أعدتم صياغة هذه النصوص في قوالب وادوات جديدة ربما لم تخطر على بال الشاعر حينها .
تحياتي من الأعماق اليكم لا جف حبركم
شكرا أستاذي يعقوب على هذه المقاربة النقدية القيمة.
قليل من الشعراء من تجد لديه هذا النوع من التناول غير التقليدي للمشاعر ، فيصوغ من اللحظة الشعرية نفسا شعريا جديدا خارجا عن النمطية.
وبالمقابل قليل من النقاد من يكتشف تلك الملامح الإبداعية ليقدم بها قراءة جديدة للنص لا يدركها إلا العالمون بخبايا الإبداع ، وأنت منهم أستاذي يعقوب ، وقليل ماهم.
وفي القياس الكمي للمشاعر لم اطلع على نص خارج ما ذكرتم عند امحمد إلا ماورد في نص امحمد ولد هدار من قياس للنسبة المئوية:
صيدكْ لوّلْ مايتحول :: عن بَغيِكْ واعليك امعوّلْ
ءعبد الباقي مـايُسوّل :: بغيك يَلْقَ بيه الّاقـــي
وانَ لي شهرين امطول :: نرجَ يالْبِيـــك اشتياقي
الباقي عن صيدك لول :: والباقي عن عبد الباقي
فهم شركاء متشاكسون غير منصفين في استغلالهم لحب (بَغِيِ) المحبوبة وإن (وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض) ، فقد تجاوز الأول الحدود ولزم الحب غير متحول ، وتماهى عبد الباقي مع الحب وتلبّسه حيث ما يمم يتبعة ، وبقي ولد هدار منتظرا ما سيبقى من كتلة المشاعر بعد شريكيْه الأوليْن المطففين.
وهذا قياس مع وجود الفارق فهم في طلعة امحمد ولد هدار شركاء متشاكسون، وعند امحمد ولد أحمد يوره حب المحبوبة سلما لرجل يقيسه بكل أريحية.
دام قلمك السيال أخي يعقوب.
كامل الود