كانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف فجرا عندما خرج ذلك الدكتور الثلاثيني من الحالات المستعجلة وتوجه نحوي مباشرة وهو يقدم رجلا ويؤخر أخرى ثم قال بصوت خافت: “رحمو اعل الوالدة كيف شي امشات”.
لم يدر ذلك الآسي حجم الأسى الذي خلفته كلماته التي فاهت بها شفتاه، لم يعلم ذلك الطبيب أنه نعى امرأة ليست كالنساء، وولية ليست كالأولياء، وسخية ليست كالأسخياء، قد يعلم ذلك الحكيم أن فراق العزيز عزيز لكنه لايقدر حجم الألم الذي يسببه فقد شخص بحجم الشيخة والوالدة اوَّا بنت احمادَ بن محمدُّ بن أبا على أهل انيفرار.
لم يشعر ذلك الدكتور – غفر الله له- أنه غرس سكينا في قلبي فخلفت جرحا غائرا كلما خف ألمه نكأته الذكريات والتفاصيل اليومية الصغيرة، ولكنني راض بقضاء الله وقدره، فهو القوي المتين الباقي بلا زوال ولا مطمع للمخلوق فيما تفرد به الخالق، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
كأن فعلة لم تملأ مواكبها
ديار “عمر” ولم تخلع ولم تهب
ولم ترد حياة بعد تولية
ولم تغث داعيا بالويل والحرب
ولدت السيدة اوَّا بنت احمادَ في العاشر من أكتوبر عام 1944، في بيت علم وصلاح وجاه وسؤدد فوالدها الولي الكامل والشيخ المربي احمادّ بن أبا، وأمها هي الحصان الرزان خديجة الملقبة اخدَ بنت أحمد بن محمد فال بن الحمدْ، وشاء الله أن ترحل عنها والدتها وهي في المهد، فكفلتها جدتها العابدة الصالحة عاشت الملقبة انّانَّ بنت أحمدُّ باب بن الحص، وتفرغت لتربيتها وأفرغت فيها غربا من طباع وأخلاق وسلوك مضغ القتاد، وذَنوبا من المعارف والمهارات التي لا يسع منت ازواي إلا تعلمها ولا تعذر بجهلها.
كما تفطن خالها الشيخ الحافظ عبد المومن بن الحمد إلى أن أذن اوا واعية فكان يكتب لها يوميا “ثمنا” من القرآن الكريم، وعشرين بيتا من منظومات السيرة وأنساب العرب كقرة الأبصار والغزوات والبدوي.
وفي ذات السياق، فقد أحاطها خالها الشيخ امٌد بن أحمد بن الحمد برعايته وخصها بدعائه، وحرص على تنشئتها تنشئة خاصة،بيهللي اوا ماهي كيف الطافلات.. وعلى يديه درست متون العقيدة، وعلوم اللغة العربية، وقواعد النحو والصرف، وحفظت مختارات من أشعار العرب في مختلف العصور،كما تذوقت على يديه أشعار أهل إكيد ومقطعاتهم وإخوانياتهم ، فحفظت درر شعراء الوسط وغرر أدباء الغالبين، وروائع امحمد بن أحمديور والمختار بن حامد وول اعبيد الغالي، وزعدر ويقوى وسيدأحمد بن مامين، بله أشعار ابن الشيخ سيديا وابن محمدي وول أبنو ول احميدا وغيرهم.
موازاة مع الجهود التعليمية التي يقوم بها أخوال “اوَّا”، فقد لعب والدها الشيخ احمادَ بن أبا دورا رئيسيا في رعايتها وتوجيهها وإرشادها، فسرى إليها ذلك السر المبارك، وانكشفت عنها الحجب، ورباها والدها حتى تجاوزت مختلف مقامات الإحسان بدءاً من التخلي مروراً بالتحلي وصولاً إلى التجلي، فباتت من النساء الصالحات اللائي تنفعل الأشياء بهممهن، وقد اتفق أهل انيفرار على تميز وسمو وبركة اوا بنت احمادَ.
قضت الشيخة اوَّا عمرها في قرية انيفرار ولم تغادرها إلا في إطار رحلات علاجية قصيرة، وقد نسجت علاقات واسعة مع الساكنة، فبات كل واحد وكل واحدة منهم يحسب أن اوا شيخته وحده وأنها لا هم لديها إلا الاستماع لمشاكله النفسية والاجتماعية والمالية، والسعي في حلها، فباتت الشيخة اوا ملكا مشاعا بين صميم أهل انيفرار وحليفهم، فكان بيت أهل محمدن ول اللاَّ قبلة لبني غبراء، وملجأ للمريض والسليم، والعالم والمتعلم، والقانع والمعتر، والمنجب والعقيم، وكهفا منيعا للخائف والموسوس ومن به مس من الجان.
كانت الولية اوا مستجابة الدعوة تنفعل الأشياء بهمتها وخرق العاد كيف اشراب الم عنده، وكانت كثيرة الصدقات وتأمر أحيانا مريديها والمقربين منها بإخراجها،فكم دفعت تلك الصدقات من بلاء وكم فرجت من كربة، وكم شفت رقيتها الشرعية من داء معضل، وكم حولت دعوتها المستجابة من عقيم إلى منجب ومن بليد فدم إلى فاهم للعويص، أما كشوفاتها وفيوضاتها ومواهبها اللدنية ومرائيها التي كفلق الصبح فلاتتحدث عنها إلا مع خاصة الخاصة بيهللي اوا ماهي امعدل الحملة للولاية والصلاح..
نشهد للشيخة اوا بالاستقامة التامة، فكانت كثيرة النوافل صوامة قوامة، لسانها رطب بذكر الله، صدوقة كتومة وصولة للرحم، ويشهد لها كل من عرفها بالتواضع ودماثة الخلق فما أساءت قط إلى إنسان ببنت شفة، تحب الجميع وتحترمهم وتوسع لهم في مجلسها فيجتمع في بيتها الضب والنون ويستفيدون من فوائدها ويصيبون من موائدها. كما كانت الأنوار تلوح على طلعتها البهية
.
عرفت الشيخة اوا ظاهرا بفعل القرابة فأنا حفيد خالها الغالي امد بن أحمد بن الحمد، الذي كان يقول لخاصته إذا كنتم تريدون أن تروا أحدا من أهل الخيمة فعليكم باوّا، ويقصد بذلك أن الفقيدة تغذت بأخلاق أخوالها أهل الحمد وتمثلتها وارتكزت في نفسها فكانت عادمة المثال في حيها، ولا أدل على ذلك مما سمعته متواترا من الثقات من أن الطبيب “عمر صو” أجرى لها عملية جراحية في مستوصف المذرذرة من دون تخدير، فما أنت ولا شكت ولا بكت بل صبرت ألم اختراق المواسي لجسدها كما تصبر الزاويات العريقات في التزاويت وما يلقاها إلا الذين صبروا.
عرفت الولية اوا باطنا من خلال المرائي، فقد حباني الله بعلاقة خاصة معها، فكانت تسر لي ما لاتسره لغيري، وكنت أزورها في بيتها العامر بانيفرار، فتبش في وجهي وتستقبلني استقبالا خاصا، فأستفيد من حديثها الشيق الماتع الذي يجمع بين استدمين واطيب والمعرفة الموسوعية، وحسن الاستماع والتواضع ونكران الذات، وعدم ادعاء علم ولا ولاية ولا كشف ولا تازب، وحين ينفض السامرون والسامرات تخصني ببعض النكت واللطائف والمرائي، فيزول ما في نفسي من الكدر وما في جسمي من الوضر.
وفي هذا السياق، أتذكر أنني قلت لها ذات سمر إنني بحثت كثيرا عن قصيدة عصماء لأحد شعراء أهل انيفرار وقد أعياني طلابها، ولم يبق لدي من أمل في العثور عليها إلا الذهاب نحو قرية بعيدة يقيم فيها أحد أقاربي المهتمين بالشعر والأدب، فسكتت برهة، ولم انفض المجلس قالت لي بلغتها الجميلة “ذيك اظويل اتكد تنجبر أكرب من ذاك” وروتها لي من حفظها رحمها الله وجزاها عني خير الجزاء.
انتفشت امع اوا، مع الأسف، فقد حال الكسل وقصور الهمة دون الاستفادة من هذا الكنز المعرفي النادر، الذي استقى معلوماته من الثقات والذي يضن بالعلم على غير أهله ولا يسرسر، لقد كانت الشيخة اوا من النساء الضابطات العالمات بالأنساب والسياقات والأحداث، كما كانت حافظة للشعر والأدب الشعبي مفتوحة في أزوان، ومطلعة على الكثير من أخبار أهل إكيد، متقنة للهجة البربرية المعروفة باكلام ازناكة. أما كرامات الصالحين وأحوال المتصوفين، وأخبار أسرة أهل أحمد بن الحمد فحدث عن البحر ولا حرج.
صعدت روح الولية الطاهرة ليلة الجمعة الموافق ليوم التروية في الليالي العشر، وأيام التشريق، وأم جموع المصلين على جنازتها العالم الصالح المهندس عبدالرحيم بن أحمد سالم بن ديد، وووري جثمانها الثرى في مقبرة “أغودس” إلى الشرق من جدتها الولية الصالحة فاطم فال بنت سيد بن أب، وبجنبها أصبيتها الذين جعلهم الله فرطا لها أم اسحاب والمبارك واشريف تغمدهم الله برحمته الواسعة.
أنتهز هذه السانحة لأقدم تعازي القلبية الصادقة إلى عموم أهل انيفرار وأهل ابير التورس وأخص بالتعزية أسر أهل محمدن بن اللا بن أبن و أهل احماد بن ابا وأهل اليدالي بن أب وأهل عبدالمومن وأهل امد ابني أحمد بن الحمد، كما أخص الشيخة الصالحة امَّ بنت بيباه بتعزية خاصة، سائلا المولى عز وجل أن يرزقنا أجر الصبر وحلاوة التسليم وإنا لله وإنا إليه راجعون.