يولد النص بريئا كطفل وديع، فيٌنبت له القراء أسنانا لمضغ الحياة وإزاحة الهوة التي تفصل فكرهم عن فكر الكاتب، فيأتي عالم التأويل في بيئة الكاتب؛ فمجتمعه يهوده أو ينصره أو يرفعه أو يضعه، أو يصبغه بالواقع فينطبع بغير ما يطابق حقيقته في الأصل في الغالب.
إن الكتابة في عصر الالتفات كقصة غريبة يحكيها إنسان غريب عن عالم غريب وبلسان غريب للناس العاديين عن حياتهم العادية في أفق يستبعدون وجوده فيما يجربونه من حياة.
فهل أدرك كتاب العصر أنهم أمام تحد كبير يتمثل في صناعة غذاء طازج من لغة مألوفة لإنسان ينظر دون أن يقرأ، بلغة يبتلعها متصفح العالم بنظرة خاطفة يمرر عبرها أصبعه بكل بقاع العالم في لحظة؟
وكيف بوسع كاتب اليوم أن يجعل نصه في قالب لغوي يدرك بالالتفات؟ حتى يوازي بين صراع التصورات الذي يتحكم في تشكل البنية اللغوية الجديدة، تصور تقوده العالمية محاولة تفكيك الماضي وإعادة بنائه من جديد، وتصور يسكن الإنسان من عهد بيئته الأولى؟
لا يبدو جليا في ذهن إنسان اليوم أن تصوره الذي يميز بيه الأشياء وحتى ذوقه، هو وليد صراع نصفه في الحاضر ونصفه في الماضي، وحتى عالمه الذي يعيش بشكل عفوي يتشكل في حقيقة الواقع من جملة من الأبعاد تكاد تنقله عن حقيقته التي هو عليها، بفعل عوامل تسير مع أفق الزمن وتجدد الحضارة، في اتجاه معاكس، يتغير مع متغيرات الزمن، رغم انفصال تلك الأبعاد عن بعضها في الحقيقة…
إن السرعة وتخصيص الأمور والتهرب من كل شيء، والملل؛ هي انطباعات أصبحت لصيقة بفكر إنسان اليوم وأضحت تمثل السلم الذي يعرج إلى أفق التلقي؛ الأمر الذي أصبح حاجزا أمام بذله جهدا لتفسير المكنونات والمركبات المرافقة للنص، ولكل ما يحيطه من كل جديد، بل أضحى الإنسان يبتلع كل جديد متجاوزا رتب التفحص للمراحل التي سبقته وسيؤول إليها؛ مستجيبا لكل ما يفد عليه، مستسلما لسنة التراكم الكمي؛ و مبررا كل ذلك بملله من التشابه الذي يسكنه عن البنية النمطية للأشياء وبين الواقع الذي يتجلى في حسه، حتى يحسب كل ذلك مجرد تكرار لسابق.
أما في عصر الالتفات فقد أصبح من اللازم أن يأخذ النص الأدبي شكلا منسجما مع خطية الحضارة التي تمسك الثورة التكنولوجية زمامها والتي تفرض على كل شيء أن يكون سريعا وبسيطا و متجاوزا، يتجسد في صورة تحمل معنى كليا، يشير في عمقه إلى أبعاد متعددة تتحدد وفق الزاوية التي ينظر منها القارئ إلى الظاهرة؛ وفق ثقافته، وبيئته، وهنا يبدأ الصراع، حين تصطدم البنية التصورية للإنسان بمظاهر حضارية وافدة على واقعه، وحيث تحاول العالمية استغراق المكان وجعل العالم بيئة واحدة من خلال عولمة الثقافة، وإبعاد الموروث الثقافي والتقاليد عن الخيال أثناء بناء الصورة الحسية في الصمت، وجعلها مرحلة من التاريخ تجاوزها الإنسان، ولم تعد ذات عبرة، ولا يمكن أن تنتج صورة إبداعية في نظر ثقافة اليوم.
فإلى من يقرؤني في عصر الالتفات وإلى من أكتب لغة تسكن الماضي، وهي في طور التشكل من أبعاد وجودية ماثلة.. وإلى من يقرؤني في عصر السرعة والتجاوز؛ فعليك لكي تصلني أن تنجو من حجب ثلاثة تسكن الحرف يوم ميلاده في سطر الهجاء، تحركه وترتب ممكناته الدلالية خلال علاقته بباقي الحروف..أن تقفز فوق منحنيات المألوف، وتثق باللغة التي تمسك طرفها لعبور حدود المكان..
فقد أصبحنا اليوم في عالم أحوج لتلك اللغة التي تمسك بتلابيب الوعي وتكسره قطعا صغيرة قابلة للمضغ والابتلاع، أكثر من حاجتنا لتراكم الأشكال اللغوية الهندسية المألوفة في وجبات النص اليومي المألوف، والتي نعرفها باللمس قبل بزوغ شمس اصطياد المعاني في قوالب ذهنية جاهزة…
يقول أحد الشعراء المعاصرين:” إن إيقاع العصر السريع ساهم في نشوء أنواع كثيرة من الأدب الوجيز والتي تمثل خيارا إضافيا للقارئ وليست بديلة لما هو موجود، فالرواية مثلاً رائجة رغم إغراقها في السردية.”
ونختم بأن النص في عصر الالتفات أصبح عبارة عن مساحة لغوية صغيرة تتشكل من سطر واحد يحمل نكتة، أو حكمة، أو إخبار بجديد، عن طريق إبراز السياق الخاص بالجمهور ونقله بتشبيه ضمني، بكلمات قليلة، من معجم حديث تغلب عليه ظاهرة الوضع والتوافق في الدلالة، لتأتي الصورة النهائية مفتوحة على جميع القراءات، وقابلة لتجريب جل فلسفات التأويل، ولا تصدق على شيء بعينه، من خلال تغيير السياق وتغير الجمهور.