النص مضغة من الكاتب تولد قبل الكتابة بعصور من الصمت، ويأخذ ميلادها وخروجها لعالم القراءة برهة من التردد بين أفق المتلقي واصطدام الكاتب بأطراف البنية الواقعية.
وترافق عملية ميلاد النص في البنية التصورية للإنسان جملة من الانزلاقات ترسو بعدها سفينة الكائن الجديد بين الحالة النفسية للكاتب وجملة الألوان المعرفية التي تسكن في خلده، وفق أبعاد مألوفة ويستحضر خلال ذلك أصوات جمهوريه؛ الذي يتلقى اللغة أوان بروز النص للوجود والجمهور الذي يسكن الكاتب في صمته، ولكليهما غذاءه الذي يطلب عند ميلاد النص، حينها يصاب الكاتب بالانقسام إلى شخصين أثناء ذلك، أحدهما يلبي مطالب جمهوره المتلقي للمادة التي تصدرعنه، وجمهور يشاركه أنصاف كلماته و على رغبته يتم انتقاء العبارات اللائقة ، حيث يصبح كمن يضع رجلا في ذاته وأخرى يودعها لغيره فهو حين الكتابة كمن يتصبب عرقا، لا كمن ينام، أو كمن يصنع غذاءا لقوم مختلفين منهم من لا يذوق الملح ومنهم من لا يذوق طعاما بلا ملح، ويبقى الكاتب صريع ثنائية تأخذ بتلابيب فكره وتنذر كلماته حتى يقسم أن يمسك عن الكتابة حتى يصطلح الفريقان، فرغم أن اللغة ملكا للمنصت والتعبير للمعبر الذي لا يريد شيئا؛ بقدر ما يريد أن يزيح عن نفسه بعضا من الفضول الذي سيكنه.
من هنا تبدو الكتابة مختلفة عن التأليف والبحث، فالباحث يجمع مادة كانت موجودة ويجعلها في خدمة موضوعه، فهو يطيع جمهوره ويبحث عن ذوقه ولا يجد في ذلك عائقا أمام وجوده في النص، فهو مثل رجل ثري لديه صغير مدلل يتفانى في جلب كل ما يهوى صغيره، كما المؤلف لديه طريق يسلكه في تأليفه وله سوابق يجترها وقد يتجاوزها قليلا، وبعيدا من كل ذلك يوجد الكاتب، الذي لا يعبأ بشيء من ذلك فهو يبدأ من نفسه، ولا ينتهي حتى يرضيها، ويكتب كما يتنفس ويؤكل وينام أو كأي ضرورة من تفاصيل حياته التي تجعل منه إنسانا بالفعل، ولا دخل له في اختيار ما يريد فكثيرا ما تحدث بينه الحروب الصامتة مع حروفه قبل أن يثور على نفسه ويمنحها حق الحياة، فالكاتب يحارب من أجل وجوده ولا قدرة له على تغييب ذاته عن بقيتها، إنه يتألم حين يمنح حروفا من صمته لخدمة شيئ آخر.
ففي حين يجب على الباحث والمؤلف أن يتابعا بجدية ووعي كل التعاليق التي ترافق أعمالهما، يجب على الكاتب أو المصاب بالكتابة أن يتجنب النظر في ردة فعل الآخرين، فهم في واد وهو في واد، وأضحكني مرة أن طلب مني أحد الكبار أن أكتب له عن شيء سماه، وتحيرت في شيء أمنحه له مقابل أن أتمسك بكلماتي وأتركها لي، فحين يمنح الكاتب أسلوبه لإرادة أخرى في خلق الكلمات فإنه قد ألقى بنفسه إلى التهلكة، فذلك أعسر عليه من حمل الراسيات على كتفه، حين نكتب تحت الطلب فإننا نكون أقرب لمن يكذب أو يهدم نفسه، وتبقى الحسرة تطاردنا في الداخل.
إن علاقة النص بكاتبه وجود أبدي لا يعرف له سبيلا عن طريق اللغة؛ إنه جزء من وجوده متصل بحسه وتربطه به أكثر من علاقة، وقل أن يوفّق النقاد أو القراء المتحمسون لتفكيك الوجود النصي والغوص في ماهية الكاتب في جمع شمل الاثنين، حيث يصلان في الغالب عن طريق الذوبان في نقاط تلاقي الدوال بمدلولاتها، إلى إثبات أحكام مسبقة أو فرضيات راسخة في أذهان مجتمع الكاتب، وقل أن يمنحا وقتا لحقيقة التكامل الوجودي بين الرجل وكلماته.
أما بالنسبة لي فعلى الأقل أحترم كل التعاليق ولا أرى لها تاثيرا على ما أكتب حيث أني لا أملك في نفسي قدرة ولا أي تأثير على ما أكتب،وحين استحضر كل تلك التعاليق التي ترافق كتاباتي السابقة ما بين قارء يقف عند حدود اللغة ويفقه مدلولاتها وبين مجامل طيب وناقد يشيرضمنيا إلى شيء لا يريد قوله، فإنني أنصفهم كما أنصف نفسي؛ فأحيانا أغضب من شيئ كتبته وأحيانا أعود إليه وكأني أطالع جديدا لم أبصره سابقا، هكذا يولد النص بين دفتي الإنسان ..وجود متصل نترصده كلنا لوجود ثغرة قابلة للكشف وغالبا ما نفشل في ذلك.