لا يسعني في البداية إلا أن أشكر “مركز الرشاد” و”جامعة شنقيط العصرية”، وقد شرفاني أن أكون ضمن المشاركين في هذه الفعالية العلمية المباركة والتي عنوانها كما وصلني:
“محمد والد بن خالُنا: آثاره وتأثيره “. وأخص بالشكر بشكل خاص الأخ الكريم السيد محمدن ولد سيدي بدنَّ الذي حرص على مشاركتي معكم اليوم، وشجعني على أن أدلي في هذا الحفل العلمي البهيج بدلْوٍ، لن تكون بطبيعة الحال أغزرَ الدلاء ماءً ولا أقواها كرَبًا..
ذلك أن تزاحم الأولويات وتنازع المشاغل وتأخر إعلامي بالمشاركة في هذه الندوة عوامل حالت دون تحرير جيد لهذا النص، ومع ذلك سأحاول السير على سنن هؤلاء الباحثين الكرام والاقتداء بنهجهم والتشبه بفعلهم:
فَتَشَبّهوا إِن لَم تَكُونوا مِثلَهُم۞ إِنَّ التَّشَبّه بِالكِرامِ فَلاحُ
تحاول هذه الورقة تناول جانب من تراث الشيخ والد بن خالنا المتنوع، وهو الجانب التاريخي مركزة على نظمه التاريخي من خلال ثلاثة نقاط وهي:
ü أولا: التعريف بنظم والد بن خالنا التاريخي.
ü ثانيا: مكانة النظم بين نصوص الحوليات الشنقيطية.
ü ثالثا: قراءة في بعض معاني النص.
أولا: التعريف بنظم والد بن خالنا التاريخي
هذا النظم ألفه محمد والد بن المصطفى بن خالنا الديمانيالمتوفى عام حملة نابليون على مصر أي 1798م وهو نص من بحر الرجز يتناول بعض الحوادث التاريخية، مثل تاريخ وفيات بعض الأعيان، وكذلك تاريخ بعض الحروب التي عرفتها مناطق الترارزةوالبراكنةوآدرار.
وتسمية هذا النظم الشائعة بين الباحثين هي “نظم والد في التاريخ“، وقد سماه ريني باسي في كتابه “مهمة في السنغال”: “ذكر بعض الملوك المتقدمين والأقيال المتغلبين والعلماء الصالحين ووقائع الغابرين“([1]). كما سماه المختار بن حامدن في نسخته التي خطها بيده “نظم والد في أمراء الترارزةوالبراكنة“، وفي بعض الكنانيش يسمى “نظم في التاريخ” وفي أحدها: “منظومة في حوادث السنين” وفي آخر: “منظومة في وفيات المشاهير“، وفي غيرها “منظومة في تاريخ وفيات بعض أمراء المغافرة“.
وليس لدينا من قرينة تدل على أن إحدى هذه التسميات المتعددة كانت من وضع المؤلف، وإن كنت أظن أن التسمية التي وضعها المستشرق باسي وهي: “ذكر بعض الملوك المتقدمين والأقيال المتغلبين والعلماء الصالحين ووقائع الغابرين” قريبة من أسلوب المؤلف في الكتابة النثرية خصوصا في كتابه الشهير “كرامات أوليات تشمشه”. فربما يكون هذا العنوان الشبيه بأسلوب والد النثري قد وضعه المؤلف لنظمه هذا.
رغم تعدد نسخ نظم والد بن خالنا التاريخي وتداوله الواسع بين المهتمين بالتاريخ، فإننا لا نجد نسختين منه متطابقتين تمام التطابق. بين أيدينا سبع نسخ من هذا النظم، سنقتصر على أربع منها لقدمها وتميز من نسخوها.
وهذه النسخ الأربع هي: نسخة المؤلف الموسوعي أحمدو ولد احبيباليدمسي (توفي 1972)([2])، ونسخة المؤرخ الجليل المختار بن حامدن (توفي 1993)([3])، ونسخة المستشرق الفرنسي ريني باسي (توفي 1924)، ونسخة المكتبة الوطنية بباريس.
ومع أن النسخ الثلاث الأولى من النظم تتطابق في عدد الأبيات وهو اثنان وستون بيتا رجزيا، إلا أنها تختلف في ترتيب الأبيات داخل كل نص، كما توجد بكل نسخة أبيات ليس في الأخرى، وهو ما يعني أننا لو أخرجنا من النسخ الثلاث نسخة واحدة فإن النص سيناهز السبعين بيتا. أما نسخة باريس فتقع في اثنين وخمسين بيتا.
وهذه الاختلافات الموجودة بين النصوص تطرح سؤالا وهو: هل ظل المؤلف يضيف إلى نصه الوقائع المتجددة، ويتعهد نظمه بالتحديث كلما استجدت حادثة وبالتالي فإن النص ظل مفتوحا يزيده مؤلفه باطراد؟ أم أن بعض النظامين أضاف إلى النص أبياتا بعد وفاة والد ناسجا على منواله؟ وظاهرة النصوص التاريخية المفتوحة أي التي يظل أشخاص غير المؤلف يتعهدونها بالإضافات معروفة، فمنذ أن أنشأ محمد بن علي الفشتالي (توفي 1612م) لاميته في الوفيات التي صاغها من كتاب التاريخ لابن الخطيب القسنطيني (توفي 1407م)، ومن تكملة ابن القاضي المكناسي (توفي 1616م)، وتلك اللامية تعرف الإضافات تلو الإضافات. ومطلع لامية الفشتالي التاريخية:
أحِبُّ رسولَ الله ثم عتيقَه ۞ له حُجُبٌ من الكمالِالمسربَلِ
وقد أضاف العديد من المؤلفين الشناقطة قطعا شعريا على وزن وروي الفشتالية مثل سيدي عبد الله بن رازكه (توفي 1144هـ/ 1731-2م)، وتابعه تلميذه سيدي أحمد بن سيدي محمد بن موسى بن أيجل الزيدي (توفي سنة 1171هـ/8-1757م)، وتابع ابن أيجل تلميذه القاضي محمد بن يدَّغور بن أحمد بن الشيخ الأمين بن محمد گبالماسنيالگابيالتيشيتي (توفي 1188 هـ/ 1774م)، ولمحمذن فال بن متالي (توفي 1287هـ/ 1870-1) فشتالية أيضا وغيرهم كثير([4]).
ويسمي أستاذنا الباحث الجليل محمذن بن باباه ما يطرأ من إضافات وتحديث على هذه الأنظام التاريخية بـ”الفشتلة” نسبة إلى الفشتالية، مبينا أن بعض النصوص تفتشلت أي أصابها ما أصاب القصيدة الفشتالية من إضافة وتحديث.
فيذكر ابن باباه مثلا أن نظم أم الطريد للنابغة الغلاوي (توفي 1245هـ/ 1829-30م) نظم قد تفشتل، ويبدو لي بحكم أسلوب النظم واتفاق أغلب النسخ على الأشخاص والحوادث وكون اختلافها يمس غالبا أبياتا من قبيل مدح الشخص المذكور والثناء عليه أن نص والد قد سلم من هذه الظاهرة.
ولا يفوتني هنا أن أذكر أن الأستاذ محمذن بن باباه قد حقق نظم والد في التاريخ، كما تناهى إلى مسامعي، وإن كنت مع الأسف لم أطلع على ذلك التحقيق الذي سيكون دون شك متصفا بالضبط والجد والاجتهاد كحال تحقيقات الأستاذ ابن باباه كلها.
ولتوضيح مضمون النص أكثر فقد ذكر في النص 18 علما (واحد من أولاد رزگ وثلاثة من البراكنة وعشرة من الترارزة وأحد سلاطين المغرب، وأحد فالاتگنار، واثنان من أولاد ديمان)، كما ذكر النص سبع وقائع أو حروب؛ أي أن مجموع الحوادث أعلاما ووقائع يبلغ 25 حدثا.
ومن بين الحروب السبع المذكورة فإن ستا منها كانت بين مجموعات مغفرية أو بين مجموعات مغفرية وأخرى حسانية من غير المغافرة، ماعدا حربا واحدة وهي شرببه التي كانت بين زوايا منطقة الگبلة وبعض المجموعات المغفرية.
أما الأعلام المذكورون في النظم ففيهم زاويان فقط، وسلطان مغربي واحد، وأحدفالاتگنار، أما البقية فعمومهم من المغافرة ما عدا رزگاني واحد.
وهذا يعني أن النص متمحض في جلهللمغافرة أعلاما ووقائع، وهو ما يجعل العنوان الذي وضعه له المختار بن حامدنكان أقرب للدقة وهو: “نظم والد في أمراء الترارزةوالبراكنة“.
ومع أن والد قد ركز على أعيان وأعلام من المغافرة بشكل خاص فإننا نجد أن سيدي عبد الله بن رازكه وتلميذه سيدي أحمد بن سيدي محمد بن موسى بن أيجل الزيدي (توفي سنة 1171هـ/8-1757م) وتلميذ تلميذه القاضي محمد بن يدَّغورالماسنيالتيشيتي، توفي 1188 هـ/ 1774م)قد ذكروا بعض أعيان الزوايا في نصوصهما التي تحاكي قصيدة الفشتالي.
فقد ذكروا جميعهم عشرين علما، ذكر ابن رازكه أربعة وابن أيجل خمسة عشر وابن يدغور واحدا.
وهذا جدول بتواريخ وفيات الأعلام ووقوع الحوادث الواردة في النص:
العلم |
المجموعة البشرية |
تاريخ الوفاة |
|
1 |
بكار بن اعلي بن عبد الله | البراكنة | 1092هـ/1681-2م |
2 |
أوديكة بن أبي أيوب الخليفي | أولاد رزگ | 1092هـ/1681-2م |
3 |
هدي بن أحمد بن دمان | الترارزة | 1095هـ/1683-4م |
4 |
الفاضل بن الكوري | أولاد ديمان | شوال- ذو الحجة 1100هـ/ يوليو-أكتوبر 1682م |
5 |
بله بن المختار بن عثمان | أولاد ديمان | شوال- ذو الحجة 1100هـ/ يوليو-أكتوبر 1682م |
6 |
أعمر آكجيل بن هدي | الترارزة | بداية رمضان 1114هـ/ 19 يناير 1703م |
7 |
أحمد ديَّ بن هدي | الترارزة | ربيع الأول 1117هـ/ يونيو/يوليو 1705م |
8 |
اعلي شنظورة بن هدي | الترارزة | 1 شوال 1139هـ / 21 يونيو 1727م. |
9 |
المولى إسماعيل بن علي الشريف | سلطان المغرب | 1139هـ/ 1727م |
10 |
أحمد بن هيبه | البراكنة | 1140هـ / 1728م |
11 |
اعلي بن امحيميد | البراكنة | 1140هـ / 1728م |
12 |
همر فال | فالاتگنار | 1140هـ / 1728م |
13 |
الشرقي بن هدي | الترارزة | 1142 هـ/ 1729-30م |
14 |
هدي بن السيد | الترارزة | قبل جمادى الأخيرة 1170هـ/ فبراير 1757م |
15 |
الجيد بن الأمجد | الترارزة | قبل جمادى الأخيرة 1170هـ/ فبراير 1757م |
16 |
أعمر بن اعلي شنظورة | الترارزة | 6 جمادى الأخيرة 1170هـ/ 26 فبراير 1757م |
17 |
المختار بن أعمر بن اعلي شنظوره | الترارزة | 1185هـ/1771م |
18 |
سيدي المختار بن الشرقي بن هدي | الترارزة | ؟ |
الحادثة |
أطرافها |
تاريخها |
|
تجاله | بين إديشليوالمغافرة | ذو الحجة 1100هـ أي سبتمبر/أكتوبر 1689م | |
أم اعبانه | بين أولاد دليموالمغافرة | نهاية رمضان-أو أول شوال 1107هـ/بداية مايو 1696م | |
انتيتام | بين اولاد رزگوالمغافرة | 1040هـ 1630-1م | |
البطحاء | من حروب يحيى بن عثمان الداخلية | 4 ربيع الأول 1165هـ / 21 يناير 1752م. | |
جفجف | بين البراكنةوالترارزة | 20 رمضان 1175هـ أي 14 إبريل 1763م | |
آنتر | البراكنة ويحيى بن عثمان لجهة والترارزة وأولاد منصور | 1176 هـ/ 1762-3م | |
شرببه | بين زوايا منطقة الگبلةوالمغافرة | بدايته 1055 هـ/ 1645-6م إلى 1085هـ/1674م | |
ملاحظات حول نسخ النظم التي بين يديَّ:
أ- نسخة باريس:
تمتاز نسخة باريس ونسخة المختار بن حامدن رحمه الله عن غيرهما من نسخ هذا النظم التي بين يديَّ بحرص ناسخيْهما على تجويد النظم والتعليق عليه وتصحيحه وتحرير ما ينبغي تحريره منه.
وسنقف بإيجاز على بعض ما يميز هاتين النسختين وعلى جزء مما أضافتاه إلى النص.
بالنسبة لنسخة باريس فهي من مقتنيات المكتبة الوطنية بباريس غير انها لم تكن متاحة للجميع -على الأقل في الشبكة العنكبوتية- قبل نهاية السنة الماضية 2017، ففي الحادي عشر نوفمبر 2017 قامت المكتبة الوطنية بباريس برقمنة مجموعة من المخطوطات العربية ومن ضمنها نصوص موريتانية في التاريخ والأنساب واللغة.
ومن بين هذه النصوص الموريتانية نسخة من نظم الفقيه المؤرخ والد بن خالنا الديماني. وتنفرد هذه النسخة الباريسية بهوامش مفيدة وتعليقات نادرة وإشارات تاريخية([5]).
وربما تكون النسخة الباريسية من نظم والد من مخطوطات الترجمان الجزائري إسماعيل حامد المهتم بالتاريخ الموريتاني تلك المخطوطات التي أعطاه إياها حاكمُ منطقة المذرذره النقيب جان بابتيستتَيْفِينْيُو([6]) المولود سنة 1870 والمتوفى سنة 1956، والذي كان قد عين حاكما في المذرذره سنة 1904 واستمر بها حتى 1906م.
وكان تَيْفِينْيُوقد حصل على مجموعة هامة من النصوص والوثائق التاريخية جمعًا واستنساخًا خصوصا من عند الشيخ سعدبوه بن الشيخ محمد فاضلالقلقمي (توفي 1917)، والشيخ سيدي محمد بن الشيخ أحمدو بن سليمانالديماني (توفي في إبريل 1921) وسلمها لإسماعيل حامد كما ذكر ذلك في كتابه نبذة من تاريخ الصحراء القصوى واسمه باللغة الفرنسية حوليات موريتانيا السنغالية: ناصر الدين النص العربي ترجمة وملاحظات([7]).
حرص كاتب نسخة باريس على ذكر بعض المعلوات المهمة في الهامش منها تسلسل أمراء الترارزة والتعريف بهم من الأمير اعلي شنظوره بن هدي بن أحمد بن دمان (توفي 1727) إلى الأمير سيدي بن محمد الحبيب (توفي يوليو 1871)، وذكر مدة إمارة كل أمير. وأحيانا يذكر الكاتب مكان قبر الشخص، كما فعل عند ذكر أحمد ديَّه بن هدي بن أحمد بن دمان (توفي 1696) واعلي شنظوره وغيرهما.
ب – نسخة المختار بن حامدن:
توجد في مكتبتي الخاصة نسخة المؤرخ الجليل المختار بن حامدن رحمه الله من نظم والد بن خالنا، وفي ظني أنها من أصح وأجود النسخ الموجودة من هذا التاريخ، فقد حرص المختار على تصحيحها ومراجعتها مرارا كما يظهر في هوامشها الكثيرة والتي يدل تعدد ألوان خطوطها أنها كتبت في فترات متعاقبة.
وقد حرص ابن حامدن على ذكر نسب الأعلام الواردين في النظم في هوامش النص، كما كتب تعاليق في نهاية المخطوط عن عوائد أمراء الترارزه في المأكل والمشرب وتدبير الحياة واكتساب الأموال والعلاقات بينهم وبين أصهارهم وطريقة تحيتهم بين الكبير والصغير، وعلاقاتهم في مجلس الغناء، فضلا عن حديث مفيد عن “طبل المحصر”، صناعته والقيام عليه… فهذه التعليقات التي حشَّى بها ابن حامدن نظم والد وتصحيحه له واعتناؤه بها تجعل نسخته من أكمل نصوص النظم في عدد أبياتها، وأغناها من حيث التعليقات والهوامش.
وبالنسبة لنسخة العلامة الموسوعي أحمدو ولد احبيب فهي نسخة شاملة كاملة حرص ناسخها على أن تأتي على جميع روايات النص، أما نسخة المستشرق الفرنسي ريني باسي([8])الذيتوفي بالجزائر سنة 1924، فلا تختلف كثيرا عن نسخة ابن احبيب.
وقد كانباسيمهتما بالدراسات اللغوية وخصوصا دراسة اللغة الأمازيغية، وبالتاريخ والأدب العربيين، وقد شغل منصب عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فهي نسخة منشورة في كتابه الشهير: “مهمة في السنغال” وقد نشره سنة 1913، أي سنتين بعد صدور كتاب الوسيط في تراجم أدباء شنقيط بالقاهرة.
وفي هذا الكتاب دراسة ذات طابع مونوغرافي عن بلادنا، (والدراسة المونوغرافية تعني دراسة مسحية ميدانية شاملة، وكانت الدراسات المونوغرافيةموضة عند المستشرقين).
وكتاب “مهمة في السنغال” فيه الكثير من الفوائد، وفيه ملاحق تشمل عدة نصوص عن تاريخ بلادنا كنظم والد بن خالنا في التاريخ، وكالسند العالي في مناقب اليدالي للنابغة الغلاوي، وكتاب الآبار لابن أحمد يوره، ورسالة الشيخ سيدي المختار الكنتي في الأنساب، فضلا عن مدونة من الشعر الحساني الموريتاني القديم وعروضه، والكثير من القصص الشعبي.
ثانيا: مكانة نظم والد في نصوص الحوليات الشنقيطية
يشكل نظم والد بن خالنا في التاريخ أول الأنظام التاريخية في منطقة الترارزة، فلم نعثر رغم اهتمامنا بظاهرة الحوليات التاريخية في بلاد شنقيط على أي نص من نصوص الحوليات سبقه في هذه المنطقة.
لقد فتح الشيخ والد باب الأنظام التاريخية على مصراعيه لمن جاء بعده.
فكان أول من استن بسننه العلامة المؤلف السيري بابكر بن احجاب الديماني (المتوفى سنة 1322هـ/ 1904-5م) فألف نظم في التاريخ يعتمد طريقة الحوليات وقد حققته الأستاذة الباحثة خديجة بنت الحسن ونشر في تونس 1991([9]).
وقد صرح ابن حجاب نفسه بقفوه الشيخ والدا قائلا:
وبعد فالقصد بذا تبييني ۞ تاريخَ ما يهُمُّ في ذا الحين
وإنني قفوتُ فيه والــدا ۞ متمما لقوله فوائـــــــــــدا
وجاء بعد بابكر بن حجاب العالم المؤلف المختار بن المحبوبياليدالي (توفي 1391هـ/ 1971-2م) الذي نظم تاريخه من حيث انتهى ابن حجاب وقد حققه الباحث احمدناه بن خطري([10])، وفي نفس الفترة نظم القاضي الجليل محمذن بن محمد فال الديماني امييْ علما (توفي 1386هـ/ 1966-7م) نظما رائقا هو الآخر يتقاطع مع نظم ابن المحبوبي في أشياء.
وجاءت بعد ذلك الأنظامتترى مع الفقيه المدرس عبد الحي بن اتَّاب الانتابي (توفي في ديسمبر 1984)([11])، ونظم الفقيه المؤلف نافع بن حبيب بن الزايد التندغي (توفي 1995م)، ومن آخر تلك الأنظام نظم الأستاذ المدرس والمفتي عبد الرحمن بن الشيخ محمد الحجاجي أطال الله عمره الذي بدأ من حيث انتهى نافع بن حبيب بن الزايد.
وهنالك ملاحظة ينبغي إيرادها هنا وهي أن أنظام التاريخ الشنقيطية ليست حكرا على منطقة الترارزة كما أن الحوليات النثرية ليست خاصة بولاتة والنعمة وتجكجةوتيشيت فقد عرفتها المناطق الأخرى بما فيها منطقة الترارزة.
فبين أيدينا نظم ابن الشيخ أعمر الماسني التيشيتي التاريخي الذي عقد به حوليات الطالب محمد بن أبي بكر الصديق البرتليالولاتي (المتوفى سنة 1219هـ/ 1804-5م).
ومع أن نظم الولاتي نص موجز يبدأ تدوينه من سنة 959هـ وينتهي عند سنة 1169هـ، إلا أن ابن الشيخ أعمرالماسنيالتيشيتي زاد فيه في نظمه زيادات حتى أوصله لحوادث سنة 1216هـ. وابن الشيخ أعمر أحد أبناء الحاج أعمر أسري ابن أحمد بن الشيخ الظالع وهو من أولاد گَابِي من طلبة ماسنة القبيلة الشهيرة بتيشيت.
وألاد گابي أخوال الشريف أحمدو بن عبد المومن الحسني([12]).
ومن الأنظام التاريخية كذلك “نظم تاريخ وقائع البرابيش بينهم” وهو نظم يقع في 27 بيتا ومؤلفه هو بابه الكبير بن سيدي محمد العلوي([13]).
وكما أن أنظام التاريخ توجد في أغلب مناطق موريتانيا فإن منطقة الترارزة لم يقتصر مدونو الحوليات التاريخية فيها على الأنظام بل إن لدينا تأليفا نثريا في التاريخ للقاضي محمذن بن محمد فال الديماني.
وهو نص نادر زودني بنسخته الوحيد أستاذي الباحث الأديب امحمد ولد شماد ولد امحمد ولد أحمد يوره. وهو نص يعتمد طريقة الحوليات وفيه إشارات وتواريخ نادرة، قد انفرد بذكرها القاضي اميي رحمه الله.
ثالثا: قراءة في بعض معاني النص
مما يلفت قارئ نظم والد بن خالنا التاريخي هو مدى احتفائه بأمراء عصره من الترارزة، والثناء عليهم وذكر مآثرهم. فعند حديثه مثلا عن معاصره من أولئك الأمراء وهو الأمير المختار بن أعمر بن اعلي شنظوره (توفي سنة 1185هـ/1771م) وخاله سيدي المختار بن الشرقي بن هدي نجده يقول:
بارك لنا في السيد المختار ۞ وفي ابن اخته السري المختار
المِغْشَمِ الغشَمْشَم المقـــــدامِ ۞ وذي الفتوحات العلي المقدام
المكرم الجيران والضيوف ۞والهازم المئين والألـــــــوف
وسيد العربان بالعمــــــــوم ۞ وسيد السودان بل والـــروم
قد ورث النجدة نحو الجيش ۞ والجود والإقدام من قريــش
وعند ذكر أبيه الأمير أعمر بن اعلي شنظوره (توفي 1170هـ / 1757م) يقول:
كالشيخ أعمر إمامِ المغــــربِ ۞ جميعِهِ من عجمٍ وعــــــــربِ
من لم يغيِّرْ مسلما في عهـــده ۞ وضاع كل مسلم من بعـــــده
قاهر عُرْبٍ وخديـــمِالطَّلَبَـــهْ۞ من أجل ذاك نالَ أعلى مرتبهْ
وهْوَ أمير الأمـــرا بلا مِــــرَا ۞ وهو كفيلُ الضعفاوالفقـــــرا
وللمساكين ولليتامــــــــــــــى ۞ وللأرامل وللأيامـــــــــــــــى
مأوَى الزوايا كهفُ كل مسلم ۞ مقسط كل قاســط ومجــــــرم
وحاملَ اللِّوَاءِ حامِـــــي الكُلِّ ۞ وحاملُ اللَّأْوَى حميــلُ الكَــــلِّ
فأين هذا الأسلوب التبجيلي المدحي الذي يطغى في نظم والد التاريخي عند ذكر أمراء المغافرة من أسلوب شيخه محمد اليدالي (توفي 1166هـ أي 1753) الذي قال في كتابه شيم الزوايا:
“وهكذا سنة الله وعادته في تشمشه وغيرهم من الصالحين أن كل من أراد أن يسومهم بسوء كفاهم الله شرَّه؛ فإنهم كانوا في بلادهم مع الأنباط أزناگَه فجاروا عليهم فنفاهم الله عنهم وبقيت تشمشه في بلادهم(ها).
ثم خلفهم أولاد رزگْ كذلك، ثم أولاد عگبَه كذلك، ثم أولاد داود بن عمران كذلك. ثم إنا نحن الآن في مغفر، والله المستعان”([14]).
كيف لم يتأثر والد في كتابته التاريخية بشيخه اليدالي الذي يعد المؤسس الحقيقي للرواية التاريخية للزوايا؟ وإذا كان عبد الودود بن الشيخ يرى أن موقف محمد اليدالي في خطابه التاريخي شكل نوعا من المقاومة السلمية بعد الهزيمة، ومثل محاولة لمتابعة الحرب بسبل أخرى مبنية على الاعتزاز بالذات والصبر واعتزال المتغلبين([15])، فمن الواضح أن أسلوب والد بن خالنا شكل قطيعة مع ذلك الخطاب القائم على تنميط صورة بني حسان من قبل الزوايا، وتأسيس كتابة تاريخية بشكل مغاير لما كانت عليه الكتابة التاريخية مع شيخه اليدالي.
وفي رأيي أن النفوذ القوي لإمارة الترارزة خصوصا مع الأمير اعلي شنظوره وابنه أعمر وحفيده المختار المعاصر لوالد بن خالنا، وإبعاد هؤلاء الأمراء خطر بني عمومتهم البراكنة عن المنطقة، وتنظيمهم الدوري لمواسم التجارة مع الأوروبيين مما يعطي للدورة الاقتصادية المحلية متنفسا يساهم في تطوير التبادل التجاري، وإشاعتهم العدل بتعيين القضاة بدءا بالقاضي المختار بن ألفغ موسى اليعقوبي قاضي الأمير اعلي شنظوره والقضاة من ذريته ومن غيرهم من بعده، كلها عوامل ربما غيرت طبيعة الكتابة التاريخية التي كانت في ذلك التاريخ حكرا على الزوايا، فتحول المؤرخ من متحفظ على السلطة المغفرية إلى منخرط في سياقها، ومن آخذ مسافة منها إلى مندمج فيها. والواضح أن علاقة الزويا في عهد والد بن خالنا بالسلطة الحسانية قد اختلفت كثيرا عنها في عهد شيخه محمد اليدالي نظرا لهذه الأسباب الذي رأينا.
وفي هذه الفترة التي ألف فيها والد بن خالنا نظمه التاريخي ظهر التهيدين بشكل مَؤسس في إمارة الترارزة، والتهيدين كما هو معلوم مقام موسيقي خاص بالملاحم وشعر الحماسة الحربية، وقد اخترع له المطربون غرضا في الشعر الحساني أطلقوا عليه التهيدين. وقد شاع وذاع في منطقة الترارزة مع الخُو والبُو ابني اعلي بن مانو وشاع في تگانت مع سدوم بن انجرتو وفي الحوض مع سيدي أحمد بن آوليل. وكان الأمير المختار بن أعمر بن اعلي شنظوره المنوه به في نظم والد أول أمير من أمراء الترارزة من عثرنا له على نصوص من التهيدين قيلت فيه.
يقول اعلي بن مانُومادحا المختار بن أعمر بن اعل شنظوره:
يا الرب اللي اعطيتْنَ المخْتَـارْ ۞ مَزَلنَ حَتَّ فَاصْلين فيــــــــهْ
انتَ كَرِيم أبَاقِي أقَهَّـــــــــــــارْ ۞ وابْلاَ ضَدْ أحَشَاك امن اشْبِيهْ
واحْنَ ضُعْفَ أفَاصْلين افلَعمَارْ۞واعمَارْنَ يَا الرَّب ألاَّ بًيــــهْ
واحْنَ يَا رَبِّيأخْيَامنَ اكبَــــارْ۞ أهُوَّ هُوَّ ارَّافدًينهُم اعليــــــهْ
واحْنَ يَا رَبِّيانمَرِمْدُ اجَّـــــارْ ۞ أهُوَّ اجَّارْ إعُودْ جَايْرْ اعليــهْ
واحْنَ يَا رَبيانبًيعُ لَحْــــــرارْ ۞ أهُوَ ال اگبَظ منهم يفدِيـــــــهْ
واحْنَ يَا رَب انبِيعُلـــــــوْزَارْ ۞ أهُوَ ال اگبَظ منهُم يَعطيــــهْ
وامنَعتْنَ يَوْم امنَيْن إظَل يَتْكارْ ۞ فَوْگإنيمشْيَتْعَگَدْ بيـــــــهْ([16])
إلخ…
إن كتابة والد للتاريخ بأسلوب التمجيد والتنويه إنما جاء في هذا السياق الذي عرفت فيه إمارة الترارزة استقرارا أمنيا وتطورا اقتصاديا وانسجاما اجتماعيا، وأصبحت الرواية الشفوية ممثلة في التهيدين حاضرة في تدوين الوقائع والتحدث عن الزعماء والتغني بأمجادهم.
خاتمة
من حسن الطالع أنه في الوقت الذي كنت أحرر مادة هذه الورقة انفتحت لي قناة جديدة للعثور على جزء ضائع من تراث والد بن خالنا وأعني قصيدتيه الشهيرتين “المكزوزةوالمزروفة”، وهما قصيدتان “كرزتان” بكلام أزناگه وموضوعهما التوسل.
وفي مكتبتي الخاصة رسالة من سبع صفحات بعث بها الباحث الإنجليزي هاري نوريس (توفي 1986) إلى المؤرخ المختار بن حامدن وفيها الكثير من الأسئلة وفيها نقاش بعض الأمور التاريخية، ويقول نوريس في ثنايا هذه الرسالة متحدثا عن قصيدتي والد بن خالنا “المكزوزةوالمزروفة: “لم يزل صديقي بينون (Bynon) يدرس المنظومتين الزناگيتين النفيستين للعلامة الشيخ والد بن خالنا، ولكنه من اليقين توجد الوثائق في أحسن حال بين يديه.
وإذا كنت محتاجا إليهما فسأرسل بهما إليك.” انتهى كلام نوريس. وقد دلتني إشارة نوريس هذه على مظنة وجود هاتين الكرزتين فما فتئت أبحث عن خيط يصلني بالباحث الإنجليزي جيمس بينون.
وهذا الباحث له تآليف كثيرة ومفيدة حول اللغة الأمازيغية، وكان أستاذ هذه اللغة بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بلندن. وقد توفي في شهر يونيو 2017 أي قبل سبعة أشهر من الآن ولم أتمكن من التواصل معه مع الأسف رغم بذلي جهودا في ذلك الاتجاه، لكني أحاول الآن التواصل مع أرملته تيودرا بينون، وهي أيضا أستاذة في نفس المؤسسة. فلعلي أنجح في هذا المسعى وأضع اليد على جانب ضائعٍ من تراث والد بن خالنا. رحمه الله تعالى.
أشكركم على الإصغاء والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
[1] – Voir: Réné Basset, Mission au Sénégal, Tome 1, Paris, Ernest Leroux, 1913, pp 543-7.
[2]– يوجد أصل نسخة العلامة أحمدو بن احبيباليدمسي في مكتبة المعهد الموريتاني للبحث العلمي تحت رقم: 2548.
[3]– يوجد أصل نسخة المختار بن حامدن في مكتبتي الخاصة.
[4]– النصوص الشعرية التاريخية التي حاكى من خلالها الشناقطة قصيدة الفشتالي جمع أغلبها سيدي عبد الله بن سيدي محمد بن محمد الصغير العلوي التيشيتيفي نسخة مودعة بالمكتبة العمرية بباريس. ولزميلنا الباحث الجاد دكتور ددود بن عبد الله الفضل في إطلاعنا أول مرة على نسخة ابن انبوجه هذه. وعندي صورة من نسخة ابن انبوجه من الفشتالياتالشنقيطية ومن غيرها، وأقوم الآن مع الباحث القدير الزميل محمد يحيى ولد حريمو بجمع هذه النصوص والتعليق عليها.
[5] – Voir: Bibliothèque nationale de France, Département des manuscrits, Arabe 7037. Identifiant : ark:/12148/btv1b100311456.
[6] – Captaine Jean–Baptiste Théveniaut
[7] – Chroniques de la Mauritanie sénégalaise. Nacer Eddine : texte arabe, traduction et notice.
[8] – René Basset
[9]– بابكر بن احجاب الديماني، منظومة التاريخ، تحقيق خديجة بنت الحسن، بيت الحكمة، تونس، 1991.
[10]– تم تحقيق هذا النظم كمذكرة تخرج من قسم التاريخ بالمدرسة العليا للتعليم بنواكشوط سنة 1984.
[11]– حقق هذا النظم الأستاذ سيدي ولد اليدالي كمذكرة تخرج من قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سنة 1998.
[12]– يقع نظم الشيخ أعمر الماسنيالتيشيتي التاريخي في 186 بيتا وعندي صورة منه مصدرها المكتبة العمرية في باريس.
[13]– عندي صورة من هذا النظم بخط محمد الأمين بن سيدي محمد بن باريك التكني الكليميمي، ومصدرها مكتبة مركز أحمد بابه بتنبكتو.
[14]– انظر: محمد اليدالي بن المختار بن محمد السعيد الديماني: نصوص من التاريخ الموريتاني (شيم الزوايا – أمر الولي ناصر الدين- رسالة النصيحة)، تحقيق محمذن بن باباه، بيت الحكمة، تونس، 1990، ص 84.
[15] – تحدث أستاذنا الدكتور عبد الودود ولد الشيخ عن بعض ملامح خطاب اليدالي التاريخي في أطروحته الشهيرة:
Abdel Wedoud Ould Cheikh, Nomadisme, islam et pouvoir politique dans la société maure précoloniale (XIème siècle – XIXème siècle): essai sur quelques aspects du tribalisme. Front Cover. Abdel Wedoud Ould Cheikh. P 241.
[16]– انظر: ديوان أهل مانو وأهل الببان (التهيدين)، جمع وتعليق دمبَ ولد الميداح وسيدي أحمد ولد الأمير، (عمل قيد النشر).
من محاضرات الندوة العلمية المنظمة اليوم في انواكشوط بالتعاون بين مركز الرشاد و جامعة شنقيط العصرية:
د سيدي أحمد ولد الأمير
باحث موريتاني مقيم في قطر
قرأها نيابة عنه الدكتور أحمدْ دوله مَهدي