بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على نبيه الكريم
هذه رسالة الفيش بين الكسكس والعيش كتبها أسير ذنبه الراجي من الله قبول توبته محمد فال بن عبد اللطيف كان الله لهما بمنه وكرمه.
قال المؤلف: وقد اعتمدنا في هذه الرسالة على حجج سمعناها وأحاديث تلقيناها وليس لنا فيها إلا التهذيب والجمع والترتيب وما سوى ذلك فأقوال الأئمة من أولياء الطعام وحجج الجهابذة من أهل الكلام وعلى الله المعول وعليه نتوكل.
قال أهل العيش: العيش أفضل الأطعمة على الإطلاق لأنه مشتق من العيشة قال تعالى فهو في عيشة راضية في جنة عالية وأي مرتبة أعظم من هذه ولم نعلم أن العرب وضعت لفظا للطعام مثل العيش إذ جعلته مرادفا للمأكل كأن لا مأكل إلا هو وهذا يدل على فضله لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. ولا شك أن هذه المزية لا يشاركه فيها كسكس ولا غيره وقد قيل إذا التبست الحقائق فحكموا الحدود ونحن نقول إذا التبست الحدود فحكموا الأسماء فلو لم يكن العيش هو الذي به المعاش حقيقة وحكما لما سمي عيشا لأن الذات إذا لم يقم بها معنى فلا يمكن أن يشتق لها منه وصف وإليه يشير قول الشاعر:بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على نبيه الكريم
هذه رسالة الفيش بين الكسكس والعيش كتبها أسير ذنبه الراجي من الله قبول توبته محمد فال بن عبد اللطيف كان الله لهما بمنه وكرمه.
قال المؤلف: وقد اعتمدنا في هذه الرسالة على حجج سمعناها وأحاديث تلقيناها وليس لنا فيها إلا التهذيب والجمع والترتيب وما سوى ذلك فأقوال الأئمة من أولياء الطعام وحجج الجهابذة من أهل الكلام وعلى الله المعول وعليه نتوكل.
قال أهل العيش:
العيش أفضل الأطعمة على الإطلاق لأنه مشتق من العيشة قال تعالى “فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ , فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ” وأي مرتبة أعظم من هذه ولم نعلم أن العرب وضعت لفظا للطعام مثل العيش إذ جعلته مرادفا للمأكل كأن لا مأكل إلا هو وهذا يدل على فضله ” لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي “. ولا شك أن هذه المزية لا يشاركه فيها كسكس ولا غيره وقد قيل إذا التبست الحقائق فحكموا الحدود ونحن نقول إذا التبست الحدود فحكموا الأسماء فلو لم يكن العيش هو الذي به المعاش حقيقة وحكما لما سمي عيشا لأن الذات إذا لم يقم بها معنى فلا يمكن أن يشتق لها منه وصف وإليه يشير قول الشاعر:
[| [( وما يدعونه بالعيش إلا۞لكون عشائه خير المعاش )] |]
وفي هذا البيت زيادة نكتة إذ جعل العيش مشتقا من العشاء ولا يخفى أن العشاء هو أشرف الوجبات وصلاته قيل إنها الصلاة الوسطى وقد يعبرون بالعشاء عن المأكل سواء كان غداء أو عشاء يقولون فلا يروح عشاءه كقوله عليه الصلاة والسلام “الحج عرفات” ولا يعدو العيش أن يكون مشتقا من العشاء أو العيشة والكل له فيه مزية ليست لغيره قال زهير:
[| [( تنازعها المها شبها ودر البحــــــ۞ـــــور وشاكهت فيها الظباء )] |]
وليس هذا الاختلاف في الاشتقاق بالذي يضر العيش فقديما اختلف الناس في اشتقاق التصوف الذي هو ثمرة العلوم فقالوا مشتق من الصوف وقالوا مشتق من الصفة وقالوا مشتق من الصفاء ولا يضر هذا في حقيقة التصوف.
قال أهل الكسكس:
جل معتمد حجج أنصار العيش هو أنه مشتق من العيشة وفيه نظر لأنه مصدر والمصادر جامدة فغاية ما يمكن أن يقال إن العيش علم منقول من مصدر عاش والنقل في الأعلام لا يدل على أي علاقة بين المنقول والمنقول منه وإذا سلمنا جدلا أن العيش مشتق من العيشة فإن العيشة لفظ عام على جميع المعيشات والمعيشات منها ما هي راضية ومنها ما هي ضنك قال تعالى “وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا” فمن أي هاتين المعيشتين يكون اشتقاق العيش وحمله على إحداهما بدون دليل تحكم بل الذي يترجح أن العيش مشتق من المعيشة الضنك وهي الضيقة لأن المطلقات تصدق بأقل ما تحقق به الماهيات وهو أقل ما تدل عليه المسميات فبان أن العيش هو أخس الأطعمة فهو اللقيمات التي ذكرت في الحديث “حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه” وهذا بخلاف الكسكس فهو الثريد الذي هو طعام الملوك والسادات في الجاهلية والإسلام قال الشاعر:
[| [( عمرو الذي هشم الثريد لقومه ۞ ورجال مكة مسنتون عجـــاف )] |]
وقال صلى الله عليه وسلم “فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام” فلا ينكر فضل الكسكس إلا رافضي والعياذ بالله ثم إن الثريد كان من مأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم نسمع في كتاب ولا حديث ولا سنة أنه صلى الله عليه وسلم أكل العيش فهذا فضل واضح للكسكس على العيش لا ينكره إلا مكابر سقطت مكالمته فإن الأمر إذا وردت به السنة فلا عبرة بما تأتي به البدعة.
قال أهل العيش:
نحن لا نسلم أن الثريد مرادف للكسكس بل الذي تدل عليه عبارات المعاجم أن الثريد هو كل ما طبخ بلحم سواء كان كسكسا أو غيره.
[| [( إذا ما الخبز تأدمه بلحم۞ فذاك أمانة الله الثريــــد )] |]
فحجج أنصار الكسكس مبنية على غير أساس فهم كالخصي يفخر بمتاع سيده وكأسيفة فخرت بحدج حصان وبيان ذلك أن الثريد لفظ عام على الكسكس والهريسة والأرز ونحوها ومن المقرر عند أهل العقول أنه لا إشعار بالخاص بوجود العام ونحن نرى أن المراد بالثريد في الحديث قد يكون أرزا أو هريسة أو غير الكسكس على كل حال ويؤيد كونه الأرز ما يروى أنه لو كانت الملائكة تأكل لأكلت الأرز وأما الكسكس فالأقرب أنه المراد في قرآن مسيلمة حيث يقول الزارعات زرعا فالطاحنات طحنا فالعاجنات عجنا والثاردات ثردا قمحا وشعيرا لأن الكسكس لا يصنع إلا من هذين وأما كون العيش لم ترد به السنة فلكونه ليس في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والبدعة المنهي عنها هي بدعة استحدثت في الدين لا بدعة استحدثت في الدنيا كما ذكر الغزالي وقد قالوا الخير منوط بأمرين ابتداع في الدنيا واتباع في الدين وبالجملة فالعيش أطيب الأطعمة وقد أكله أئمة يقتدى بهم على أن الكسكس لو فرضنا أنه وردت به السنة فإنه قد أصبح من مأكل المبتدعة والسنة إذا صارت من شعار المبتدعة تعين تركها كما هو منصوص.
قال أهل الكسكس:
سلمنا أن الكسكس ليس هو المراد في الحديث لكنكم تسلمون أن الكسكس ثريد لأنه يطبخ مع اللحم فالكسكس مقارن للحم وهذا وحده كاف لتفضيله على العيش.
[| [( عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه۞ فكل قرين بالمقارن يقتـــــــــدي )] |]
فالأمر أيسر مما كنا فيه.
قال أهل العيش:
اعلموا هداكم الله للتي هي أقوم أن ما ذكرتم فيه مجال للبحث من وجوه فهو لا يفيد فضلا للكسكس على العيش لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما فنحن لا نسلم أن مقارنة اللحم تكسب الكسكس فضلا لم يكن له لما تقرر أن مجاورة أهل الفضل لا تزيد الأراذل إلا رذالة في أعين الناس هذا إذا سلمنا أن اللحم طعام ذو فضل سلمنا أن مقارنة الكسكس للحم تفيده لكن لا نسلم أن اللحم ذو فضل حتى تكون مقارنته تكسب فضلا كيف واللحم بطيء الانهضام وإدمانه يورث قسوة القلوب قال:
[| [( أعران أربعين يوما تترى۞ تورث قسوة القلوب شرا )] |]
وقد كان الحكماء من أمثال المعري وغاندي الهندي لا يأكلون اللحم لاعتقادهم عدم صلاحه وقد كان أرباب الخلوات من أهل التصوف يمتنعون عن أكل اللحم مدة خلوتهم لتصفي قلوبهم . سلمنا أن اللحم ذو فضل وشرف ولكن لا نسلم أنه أفضل من اللبن الذي يخلط به العيش لنص الحديث فإنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعاما قال اللهم ارزقنا خيرا منه إلا اللبن فإنه يقول زدنا منه لأنه لا يوجد في الدنيا خير منه ولذلك اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء فهذه الحجة التي يتبجح بها أنصار الكسكس إنما هي في الحقيقة حجة عليهم.
قال أهل الكسكس:
نحن لا نقر لكم بفضل اللبن على اللحم لأن الفضل المذكور في الحديث إنما هو بحسب التغذية والتركيب الكيميائي وليس البحث فيها وإنما البحث في الفضل كما يراه السواد الأعظم ولا شك أن السواد الأعظم يفضل اللحم على اللبن وقد كانوا يعيبون الإنسان إذا قرى ضيوفه اللبن يحسبونه كالعدم قال:
[| [(
ولن نقر الضيوف الشم مهما۞ تنخ إلا المكللة الجفانــــا
وإلا أكؤسا مهما دنت مـــــن۞ معنى بالدنان هجا الدنانا )] |]
إلى أن يقول: ولم نجعل قرى لهم اللبانا. وقال الآخر:
[| [( إذا نحن لم نقر المضيف ذبيحة ۞ تمرناه تمرا أو لبناه راغيا )] |]
فانظروا كيف جعل اللبن في المرتبة الثانية بعد اللحم وقال الأعرابي يذم قوم قروه اللبن:
[| [( ما زلت أسعى بينهم وأختبط ۞ حتى إذا جن الظلام واختلط
جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط )] |]
وإن قلتم اللبن خير لأنه نافع في صحة الضيوف ومن شأن الناصح أن لا يراعي ما يسر ضيفه فيما يضره قلنا ليس على المضيف أن يبحث عن طعام نافع لصحة ضيفه بل الذي عليه العمل أن العبرة بغلاء الأثمان لا بالصحة في الأبدان وقد قال أهل المروءة إذا رأيت الرجل حريصا على صحة ضيفه فاعلم أنه لا يأتي منه خير ثم إن للكسكس مزايا ليست للعيش: منها أن صاحبه لا يصيبه المحور.
[| [( والعيش عيبه الكبير محور ۞ يعقبه في رمضان يكثر
وكل من نام وقد تعشــــــى۞ منه فذاك هبه قد تدشى )] |]
ومنها أن الكسكس يزيد في الذكاء كما جزم بذلك طبيب العرب وحكيمها الحارث بن كلدة لما سأله كسرى عن سبب ذكائه وهذا بخلاف العيش فإنه يورث البله ولاسيما إذا كان ميدوما بلبن البقر وقد قالوا شرب لبن البقر وتخطي زبله يورثان البله. ومنها أن صاحبه لا يحدث أي صوت في الأكل يزعج الآخرين بعكس العيش. ومنها أن القصعة منه يمكن أن يأكل منها الفئام من الناس من غير أن يوسخ بعضهم بعضا وليس كذلك العيش.
…يتبع قريبا بحول الله
كنت مرة استمع عبر أثير إذاعة موريتانيا إلى حلقة من برنامج ثقافي لا أتذكر إسمه إلا أن ضيفه فقيه الإذاعة المرحوم محمد محفوظ وكان محاوره يطلب من المتصلين أن يذكروا ما يعرفون من أسماء المؤلفات الموريتانية. فطفق المستمعون يذكرون ما تذكروا من أسماء تآليف الشناقطة ، كل هذا يجرى ومحمد محفوظ صامت يستمع إلى الجرد الذى يقوم به متصل تلو متصل ، وفجأة إذا بأحد المتصلين يذكر رسالة الفيش بين الكسكس والعيش فتدخل المرحوم محمد محفوظ قائلا (آه ذيك ملاه أديب)ثم عرف بالكاتب وقال إنه أديب كبير و أن الفكرة لم يسبقه إليها أحد من الموريتانيين رغم انهم يأكلون الكسكس والعيش كما أضاف أن الرسالة جمعت بين العلم والأدب والسيرة وطرف العرب و أنه ينصح الكتاب والطلاب بالرجوع إليها وقرائتها والتأثر بها.
و أظن أنه ساق مثالا على ذلك فقال إتما أعجبه فى محاولة الكاتب بالتزام الحياد وقرع الحجج بالحجج لما استشهد أصحاب العيش بفضلية اللبن على اللحم عن طريق معجزة شاة أم معبد إذ لو كان اللحم أفضل لكانت المعجزة السمن بدل حفول الضرع
قال محمد محفوظ لم أتوقع أن يجد الكاتب حجة موازية لأهل اللحم إلا أننى فوجئت بقوله إن الهدي الذى يقدم لبيت الله الحرام لا يكون إلا باللحم و إذا تساوى الدليلان وتعارضا سقطا.
الحمد لله على كاتبنا أطال الله بقاءه و أتحفونا ببقيتها جزاكم الله خيرا
رسالة قيمة تجمع بين الجد والهزل والفائدة والمتعة
شكرا لكم