يبدأ الحديث عن المعرفة بالحديث عن اللغة التي هي مصدر أفكارنا وخيالنا وتصورنا ومحيط إدراكنا وفيها نعيش الحياة جملة، فلا وجود في ذهن الانسان خارج اللغة.. وليس الواقع بنية مادية بقدر ما هو بنية لغوية تنشأ من تشابك الكلمات وترابطها مشكلة الحقول الدلالية للمعرفة ـ حسب نظرية ـ وورف وسابير.
والمعرفة مراتب وعوالم تجمعها اللغة ويكتسبها الانسان عبر جملة من المستويات تبدأ من الادراك ثم الوعي وتعمل القابلية أكبر دور في اكتسابها ثم يأتي دور الخيال والتصور ثم ذاكرة الحواس وهي حديث ساعتنا ومقصد خوضنا وهنا نقف لنتساءل عن قيمة الحواس في عملية المعرفة وذلك عن طريق تفسير الخطى التي ينتقل عبرها الحس إلى معرفة؟
إن ذاكرة الحواس هي جزء بسيط من المألوف ونعني بها ذلك الجزء من معرفتنا الذي ندركه بالتذكر لا بالتلقاء، وتحتاج معرفتها لمقارنة ذهنية، وتحدث هذه العملية بسرعة أكبر من أن تحيطها العبارة، أو تخط بأرفام دقيقة.
ولا مناص من التطرق لأداء وتأثير الحواس في معرفتنا ذلك أنها نقطة الوصل بين الاشياء في تحيزها المادي وبين المعارف كأفكار وتصورات في الذهن، ويبدو انتقال المعرفة من اللغة إلى الذهن عن طريق الحواس أمرا بديهيا ومتجاوزا وسخيفا لسرعة العملية التي تحدث في أذهاننا وقوة القابلية التي يحملها الانسان معه فطريا، فنحن مؤهلون سلفا للادراك والتعبير والتذكر والضبط تلقائيا لبرامج معرفية معقدة طويلة وعريضة ولا متناهية، إننا نملأ بحواسنا فراغا كبيرا عبر الأصوات اللغوية والمشاهد والصور والأحداث، ويهبنا التقليد عوالم عظيمة لو خصصنا لها كل عمرنا لما ادركناها بالتعلم.
وكما للذهن البشري ذاكرة قصيرة المدى تضبط الذكريات القريبة وتحفظها إلى حين نشاء فله كذلك ذاكرة طويلة المدى تقوم بتخزين المعارف والمعلومات الدقيقة والمختلفة لأبعد ما يصل إليه الانسان من وعي وحضور، وتزودنا بها عند الحاجة لها.
إن عمل الحواس على تفسير المدركات والمبهمات ليس استجابة لشعور، أوترجمة لواقع مادي أو تفسير لبنية حسية، وإنما تذكر لمألوف سابق دأبت الذاكرة على تنبيه الحواس عليه حتى أصبح مألوفا عندها وحتى أصبحت عملية المعرفة سلسة ومعقولة، وحتى أضحى من الممكن أن تتناسب القدرة المعرفية عند الانسان مع مدى استحضار حواسه لمألوف الذاكرة ومدى تذكرها لتلك الاستجابة الأولى التي أودعها المخ في صميم الذهن البشري وترك اللغة وصيا على إعادتها عن الحاجة، بل وجعلها كذلك المحدد الأول لتلك المألوفات لتتناسب مع الحقول الدلالية للغة الأم التي التقفها الانسان في ايام التلقي الأولى.
ورغم محدودية المستوى المعرفي الذي تضمن لنا الحواس إداركه من الكون ورغم قصور تفسيرنا لما يتحرك بداخلنا من معارف، تبقى ذاكرة الحواس محطة معرفية كبيرة لا يوفق لإدراكها كل ذي بال، فهي تحسم ثلث ما نعبر عنه من معرفة خلال حياتنا هذه، وتكفي معرفتها لتفسير نصف ما يؤرقنا من أزمات فكرية.
ديدي نجيب
ورغم محدودية المستوى المعرفي الذي تضمن لنا الحواس إداركه من الكون ورغم قصور تفسيرنا لما يتحرك بداخلنا من معارف، تبقى ذاكرة الحواس محطة معرفية كبيرة لا يوفق لإدراكها كل ذي بال
الأمر كذلك على ما أرى أحسنت وفقنا الله و إياك