كان تدريس العلوم في العصر القديم يعتمد كثيرا من أساليب التشويق يجعلونها مجمة للطالب و باعثا يحفزه إلى طلب العلم و تحصيله و التعمق فيه .
و من تلك الأساليب الألغاز و الأحاجي العلمية التي يتعاطاها الطلاب فيما بينهم و يلقيها عليهم الأساتذة و تدون في الكنانيش . و هذا تقليد عريق في المدارس الإسلامية فمن منا لا يعرف ألغاز ابن فرحون ، و في عهد قريب ألغار الشيخ ببها و ألغاز ابن حنبل و غيرهم .
و قد أصل ببها ظاهرة تعاطي الألغاز العلمية تبعا للبخاري مما ورد في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنه لما وفق في جواب لغز طرحه عليهم عليه الصلاة و السلام ، سألهم فيه عن شجر كالمؤمن إلى آخر الحديث وهي النخلة فاستحيى ابن عمر أن يجيب عنها بحضرة الأكابر .
و من تلك الأساليب أيضا ما يكتنف الدروس من تعليقات و نوادر و مسميات يتصالح عليها طلبة العلم و الأساتذة كتسميتهم لإحدى طرر ابن بون في باب المبتدأ و الخبر “ بطرة الشوائل ” و هي اللقاح يزعمون أن الطالب إذا انشغل بها تطيش لقاحه لصعوبة حفظها، و تسميتهم لطرة له في باب العلم “ بطرة الخنافيس ” لما ورد فيها من أعلام تلك الأعيان التي لا تؤلف .
و من تلك الأساليب أيضا – و هذا غير خاص بالقطر الشنقيطي – تسمية بعض المسائل بأسماء تصير علما عليها بالغلبة ، و قد طالت هذه العادة جميع الفنون المعروفة ، نذكر منها على سبيل المثال في علم العقائد ، مسألة ” سواد و حلاوة ” و مسألة ” الحبل ” و في فن النحو ، مسألة القدر ، و مسألة الفرس ، مسألة الزنبور ، و مسألة الكحل ، و في علم الفرائض ، مسألة الحمارية ، و مسألة الأكدرية ، و مسألة الفرار ، و في علم الفقه ، مسألة الزبية ، و مسألة الحملاء ، و مسألة السريجية ، و مسألة السكين ، و مسألة ذات الوليين ، و لا يتسع المقام في هذا العمود للدخول في تفاصيل هده المسائل و هي مذكورة في المطولات فمن شاء رجع إليها .
و لعل من أحسن أساليب التشويق وضع الجداول التلخيصية لبعض أبواب العلم و من أشهر تلك الجداول في باب النحو جدول حالات إعراب الصفة المشبهة باسم الفاعل وهو جدول يحتوي على بضع و سبعين خانة و منهم من زاده على ذلك ، و منها أيضا جدول بيوع الآجال في المذهب المالكي لخصت فيه صيغها : ما يجوز و ما لا يجوز ، و مثلها في الانتشار الجداول الخاصة بأمهات أصول التركة و كيفية توزيعها .
و ظاهرة الجدولة بدأت تستهوي أنظار العلماء و طلبة العلم عندنا و قد نبه على ذلك الشيخ حمدا ولد التاه في كتابه ” جدولة فقه الخليلي معلوماتيا ” كما ظهر كتاب في التجويد مجدولا لبعض أصدقائنا أجاد فيه ما شاء أن يجيد .
و مما يدخل في إطار التشويق تقسيم النص المدرس إلى محطات معروفة و أول ما وقع في القرآن العظيم حيث قسم إلى أجزاء و كان الطالب إذا بلغ إحدى تلك المحطات يزين لوحه بغرزات ملونة يسمونها الختمة تخول الطالب الحصول على امتيازات عينية .
و كذلك فعلوا في مختصر خليل قسموا فصوله إلى أقفاف جمع ” قف “ وهو علم على الحصة اليومية من هذا المختصر التي يكتفي فيها الطالب كوجبة لا يزيد عليها إلا الملهمون من العباقرة الطلاب .
و مما يدخل في باب التشويق ما درج عليه أساتذة المحاظر من التساهل و التسامح مع الطلاب اذا تعاطوا شيئا من المجون و الغزل العف يستعينون به على طلب العلوم و صعاب الفنون و هذا من الأمور التي لم يبرم بشأنها ميثاق يسجل عند الأمم المتحدة و لكنه مقبول بالجملة ، فعلماء هذا القطر هم أبعد شيء عن النسك الأعجمي الذي شجبه أحد علماء أهل المدينة المنورة و القصة مشهورة .
و لعلنا سنكون مقصرين إذا أهملنا هنا الحديث عن نظم الفوائد العلمية بالشعر الحساني وسيلة مشوقة إلى تحصيله وفهمه و نشره في الأوساط الشعبية ، و هذه الممارسة لم يسلم منها عالم مهما بلغت درجته في السيطرة على الفصحى و قرض الشعر فيها ، و لم ينج منه فن ، فكلنا يعلم ما نظمت به العقيدة الواجبة في حقه تعالى مبينة بعدد قطع لعبة دمراو ، و ما نظمت به خديجة بنت العاقل التلازم بين الوجود العقلي و الدوام ( في كاف مشهور من الصنهاجية ) كما لخص الشيخ محمد المامي أبواب النيابة في كاف واحد من الحسانية . ناهيك عن الكيفان و الطلع التي تطلع من حين إلى حين لتقييد فرع فقهي أو تأصيل قاعدة أصولية .و الموضوع أوسع مما ذكرنا فلا بد أن تسكت شهر زاد عن الكلام المباح .
بقلم الأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف .
جزى الله خيرا استاذنا محمد فال ونرجو ان يتحفنا بمقالات اخرى يشرح فيها بعض ما ذكر في هذا المقال