تقول العرب رقص البعير ؛ إذا حمله صاحبه على الخبب, والمشي المضطرب، و الرقص هو أحد المصادر التي جاءت على فَعَلَ فَعْلاً، وأرقصت المرأة وليدها؛ إذا لاطفته باللعب والغناء, يقول جميل بن معمر:
حلفت برب الراقصات إلى منى * هوي القطا يجتزن بطن دفين
وترقيص الصبيان بالغناء والكلام الموزون، من طبائع الإنسان في كل الحضارات والعصور؛ لأن الطفل ميَّال بفطرته إلى الاستجابة للكلام الملحون؛ خاصة ما يصدر منه عن أمه، وهو في فترة المهد.، وجاء في العقد الفريد، أن العرب تكره أن ينام الطفل على إثر البكاء، وأن الترقيص من الخصال الحميدة التي يحرص عليها العرب في تربية الطفل وتهذيبه.
وقد حفظت لنا أمهات الأدب، العديد من النتف الطريفة، والقطع الظريفة في غرض الترقيص عند العرب, سواء في الجاهلية أو الإسلام، وقد جمعها أبو عبد الله محمد بن المعلى في كتاب سماه “الترقيص”، أحال إليه ابن حجر العسقلاني في الإصابة، ونقل عنه السيوطي في المزهر، ولكن الباحث الألماني “بلوكمان” أكد خبر ضياعه بعد ذلك.
روى السهيلي في الروض الأنف أن الزبير بن عبد المطلب كان يرقص المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو صغير وينشد :
محمد بن عبدم* عشت بعيش أنعم
في دولة ومغنم* في فرع عز أسنم
مكرم معظم *دام سجيس الأزلم
وروى البخاري في صحيحه قال: “صلى أبو بكر رضي الله عنه العصر، ثم خرج يمشي، فرأى الحسن يلعب مع الصبيان، فحمله على عاتقه، وقال: بأبي، شبيه بالنبي لا شبيه بعلي ” وعلي كرم الله وجهه يضحك.
وروى صاحب المستطرف، أبياتًا؛ تنضح بصدق العاطفة، قالتها أعرابية في ترقيص ولدها، وهي:
يا حبذا ريح الولد * ريح الخزامى في البلد
أهكــــــذا كلٌّ ولد * أم لــــــم يلد مثلي أحد
وقيل إن أم الأحنف بن قيس التميمي رضي الله عنه، كانت ترقصه وتنشد:
والله لولا حنف برجله * ودقة في ســاقه من هزله
وقلة أخافها في نسله* ما كان في فتيانكم من مثله
فاستجاب الله لها، فكان أحد كبار التابعين، وضرب به المثل في الحلم، وساد بني تميم، وعد من دهاة العرب حتى بات يعزل الولاة ويوليهم.
وروى القالي في أماليه, أن أم الفضل بنت الحارث الهلالية، كانت ترقص ابنها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وتردد:
ثكلت نفسي وثكلت بكري * إن لم يسد فهرا وغـــير فهر
بالحسب العِدِّ وبذل الوفر* حتى يوارى في ضريح القبر
فأصبح فارس القرآن و إمام التأويل وأبا الخلائف.
وذكر المؤرخ الحافظ شمس الدين، أن سبب تلقيب الأمير عبد الله بن الحارث النوفلي الهاشمي “ببَّة”؛ يرجع إلى أن أمه هند بنت أبي سفيان رضي الله عنهما، كانت ترقصه وتقول:
لأنكحن ببة * جارية خدبة * مكرمة محبة * تسود أهل الكعبة
فاتفق أنه تزوج امرأة قرشية، قيل إنها تأمرت على أهل مكة أياما، بعد استشهاد عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وحدوث فراغ في السلطة على مستوى مكة.
وجاء في سبب تلقيب موسى بن عبد الله المحض بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، أن أمه هند بنت أبي عبيدة القرشية كانت ترقصه وتنشد:
إنك إن تكون جونا أفرعا * توشك أن تسودهم وتمنعا
ولفظ الجون من الألفاظ المشتركة؛ يطلق على الأبيض والأسود معا.
وذكر ابن كثير في كتابه البداية والنهاية، أن سبب تلقيب الإمام عمرو بن عثمان بن قنبر ب “سيبويه”; يعود إلى أن أمه كانت ترقصه وتلقبه بها، وسيبويه بالفارسية تعني ريح التفاح.
والترقيص أو “اتْمَارِ”؛ حاضر بقوة في الثقافة البيظانية، ويكثر تناول الشعراء له خاصة في الأدب الحساني، حيث يبشر الشعراء في نصوصهم بالمستقبل الزاهر للطفل، من خلال التأكيد على وراثته لعراقة آبائه، وتحليه بصفاتهم النبيلة. وهذه نماذج من تناول شعراء الحسانية لغرض الترقيص، وهي كالعنوان على غيرها:
من أقدم نصوص الترقيص گاف بوعمران التالي والذي ينسب لامرأة من أولاد رزڭ
مارت عن حسبك بعد إنهول*أعنك ما كيفك رزگاني
فيك اممُّ وفيك امهلهل *فيك امهمّاد أوكانِ
ويقول أحد شعراء بلاط إمارة أولاد امبارك يرقص خطري بن امحمد بن أعمر بن اعل
خّطْرِ يكَانْ اغـــْلَ * وُگاود فـــي الحلَّ
وُ مار وُبَـــتْلَ * وُشيخ وُمَجَّدْ
ما جاتو من لخل* ألا يغمظ فيه حد
كَانِتْ ذِيكْ المَسْلَ * أتَمِّتْ فهل امْحَمَّدْ
وقال بعض الأدباء، محتفيا بولادة يعقوب بن محمد بن أبي مدين رحمه الله:
غِلْظْ انْتَــــشَايتْ لاَ شَكَ * كَمــَّلتُ وِ إشْيَاخِتْ دَيْمَانْ
أغِلْظْ أوْلاَدْ إمْرَابِطْ مَكَ *أُغِلْظْ أوْلادْ أحْمَدْ مِنْ دَمَانْ
ويقول شاعر الحسانية المرحوم أحمدُّ بن الولايَ معتذرًا عن ترقيص ابنه “امَّنِّ” الذي وهبه الله له بعد أن اشتعل رأسه شيبًا:
اتْحَجْلِيبْ اعْيَالْ * صَيْدَاتْ الهِـمَّالْ
نِبْـــــغِ بَابَ فَالْ * فِيهْ إســـــَامِحْنِ
وِلاَبَ مُـــــحَالْ * يَسْــــــوَ يَنْبَحْنِ
أَبَّاتْ العِشـْرِينْ * أَحْجْــــــلَبْ مِنِّ
وَانَ بُخَــمْسِينْ * اسْـــــنَ يــــَمَّنِّ
وفي نفس السياق يأتي گاف الأديب البارز دمب بن الميداح؛ الذي وظف فيه عبارة “تخلگ طفل” والتي تدل على حدوث الأمر الجلل٫ في إشارة منه إلى أنه ضد ذلك التمييز فقال:
گدْ الِّ گلْتْ * عَنْ ذِ الطُّفْلَ
لُمَا خِلْگتْ * تِخْلــــِگ طِفْلَ
إذا كانت العرب قد اختارت منهوك الرجز لترقيص الصبيان، فإن شعراء الحسانية اختاروا له لبتيت الناقص وحذو اجراد، وبدرجة أقل لبتيت التام، ونادرًا ما يرقصون أصبيتهم في “ابتوت الگدع”، نظرًا لثقل ترجيعها مقابل خفة لبتيت، وسهولة الغناء بأشواره. وقد نشر أحد المتطفلين على “لُبِّيرْ” گافا تمنى فيه “للشافعي الحفيد” أن يكون مثل الأئمة الأربعة، في العلم والعمل والقبول؛ فقال:
نِبْغِ يَوْقَعْ فِمْـــــــسَامْعِ* خَاتِرْلَكْ ذِيكْ الصِّيفَ
شِبْهَكْ مَالِكْ – يالشَّافْعِ-* وَأحْــمَدْ وأَبُو حَنِيفَ
تفاعلت نخبة من الأدباء المبرزين، والمبدعين البارزين؛ مع المنشور، حيث وصلني ما يناهز ثلاثين نصا من “آگواليل الزينة”، وتم نشرها عبر هذا الحساب، وقد دفعتني جودة النصوص وجِدَّتُهَا، إلى كتابة هذه القراءة السريعة. وأثناء محاولتي استنطاق مجموعة من تلك النصوص، لاحظت أن الأدباء عالجوا الموضوع من زوايا مختلفة، مع محافظتهم على “البتِّ” والروي، ولم أقف على گافين يتقاسمان نفس الفكرة، ونادرا ما أجد تقاطعًا بين النصوص في الألفاظ؛ رغم عدم وفرة مفردات الروي. وهو ما يشي بمهارة الشعراء وتمكنهم من ناصية الأدب. وقد أشار الدكتور الأديب حامد بن الفالل بن المزروف إلى ذلك بأسلوب إگيدي عندما قال:
گذَّ گذَّ تِنْشَافْ عِـ بَارَ زَيْنَ ظــــَرِيفَ
فِتْحَجْلِيبَكْ يَالشَّافْعِ* وَأحْمَدْ وَأبُو حَنِيفَ
يمكن تقسيم ” گفان اتْمَارِ الشافعي” حسب المحتوى إلى مجموعتين؛ فضل أدباء الأولى أن يتشبه الصبي بأسلاف فرعيه الذين تناجلاه، وأن يسير على نفس اللاحب الذي سلكوه، جريًا على قاعدة الشاهد الشائع: ومن يشابه أبه فما ظلم، أما المجموعة الثانية فقد اختار شعراؤها أن يحثوا الصبي على الإمساك بعُرا المروءة، و التحلي بمكارم الأخلاق، والتخلي عن سفاسفها، والسعي في تحصيل شروط الفتوة.
أولا: النصوص الداعية إلى التشبه بالسلف الصالح
حثَّ الأديب البارز دمب بن الميداح ، الصبي على خلافة أجداده الأبهميين والألفغيين، مشيرا إلى خلو سيرهم الذاتية مما يعاب به الفتى شرعا وعادة٫ فقال:
اجْدُودَكْ مِن زرين جَادْ*عَنْ سِيرِتـْهُمْ نَظِيفَ
وادُّورْ اتْعُودْ الْ كِلْ زَادْ* وَاحِدْ مِنْهُمْ خَلِيفَ
أما المبدع المشهور البراء بن ببكر، فقد أشار إلى أن الصبي سيكون له حظ من اسمه، وقد اختار له لفظ “لمام” الذي يحيل إلى العديد من الصفات الحسنة، مشيرا إلى أنها ستسري إلى الصبي من محتديه، فقال:
جَايبْ لِـــــمَامْ أُكَافْيَ* منْ زِرَّينْ، اتْــــوَالِيفَ
بَينْ الْبَرْكَ، والْعَافْيَ* وِالْعِلمْ، ءُ ذِيكْ الصِّيفَ.
أما المدير المثقف المختار بن بوزفر٫ فقد جمع نصه بين الدعاء للصبي، وحثه على الاتصاف بالفتوة، مؤكدًا على أن جيناته تحمل تلك الصبغة الوراثية، ومشيرًا – في نفس الوقت- إلى المثل السائر: شنشنة أعرفها من أخزم، فقال:
امْجِيكْ إِفَرَّحْ لاَ ايْتِــمْتْ* وِالفُتُوَّ لَكْ صِيفَ
مَوْرُوثَ وِانْتَ لَخِيرْ فِتْـــ يانْ إگـــيدِ خَلِيفَ
وفي نفس السياق يأتي نص الأديب أحمد بن الشيخ بن سيديا، الذي طلب من الصبي أن يتشبه بأخواله الكرام آل بيباه، وقد أجاد في الجناس التام عندما قال:
عٌودِنَّ كِيفْ الشَّافْعِ * يَعْرَيْشْ اغْرَابْ إِلِيفَ
يَاليَدَالِ وِالشَّــــافْعِ* ءُ مَـــــالِكْ وَأبُوحَنِيفَ
أمَّا أدباء عصر “الزركيين” فقد تميزت نصوصهم بقرب المأخذ، وسلاسة اللفظ، واقتناص المعاني، والابتعاد عن الحشو، فقد تفاءل الأديب سلامي بن بگ، بأن الصبي سيرث صفات جده اليدالي بن أبٌ الملقب امَّمَ، وقد جاء ب “الإفلاق” دون تكلف عندما قال:
ادُّور اتّم الاَّ افْعِـــ بَادَ وِاتَّــمْ افْــــــصِيفَ
كِيفَ امَمَّ يَالشَّافْعِ* مِنْ لَوْصَافْ الشَّرِيفَ
ونوه صاحب الگاف الثاني٫ الأديب الأريب ابيبيه بن مامين؛ ببعض الصفات الكاشفة لبعض أفراد أسرة الصبي وخؤولته، طالبا منه أن يتشبه بهم جميعًا، وقد استخدم الأديب أسلوب رد العجز على الصدر المطرب فقال:
مِنْ خَيْمِتْ صَالِحِينْ بُوكْ*وِامْنْ إِلِيفَ نَظِيفَ
شَرِيفَ لاَ حَامِرْتْ ذُوكْ* وَابَّاتْ امَّكْ شَرِيفَ
ثم جاء گاف الأديب الظريف يكبر بن الما ليكمل رسم المثلث المتساوي الأضلاع الذي بدأه أترابه، ويبدو أنه اختار ألفاظ گافه ومعانيه بعناية، فكأنه نشر أمامه العديد من “تفلواتن لبير” فانتقى أجودها، و”أحْمَاهَ” وأصدقها تعبيرَا، وأبعدها عن التكلف، فقال:
جِيبْ الْفَبّـــــَاتَكْ لاَ اتْمِلْ*وِاحْذْرْلَكْ مِنْ تِكْصِيفَ
عَنْ صِيفَ فِيهُمْ لاَ اتْحِلْ*احْزَامَكْ دُونْ الصِّيفَ
وفضل الشاب الأديب عبد الله بن محمدن التنويه بخؤولة الصبي; من خلال الإشارة إلى أمهاته الفاضلات فقال:
مُحَالْ اتْخِيبْ أذِي اتْجِدْ* بِيكْ المَارِكْ ظَرِيفَ
مِنْ شَرِيفَ مِنْ زَادْ جِدْ اتْ امَّلي شــــَرِيفَ
المجموعة الثانية: النصوص الداعية إلى التحلي بصفات الفتوة
يتميز بعض الأدباء النجباء، باستعارة بعض معاني الشعر العربي الفصيح، وتوظيفها في أدبهم الحساني، وقد لاحظت أن أمير القوافي باركلل بن دداه، كتب نصه الجميل، وكأنه ينظر إلى بيت من معلقة طرفة بن العبد البكري الوائلي، يقول فيه:
إذَا القَوْمُ قَالُوا من فَتًى خلت أنني * عنيتُ فلم أكسَلْ ولم أتبلد
تنبأ باركلل بتحلي الصبي بمواصفات الفتوة كالسؤدد، والسخاء، والإسراع إلى سد خلة المعتر فقال:
لاَهِي لِلْغـــَايَ مَا ابْطَيْتْ*تَرْگـــعْ دُونْ اتْلَفْلِيفَ
مُحَالْ اتْمِسَّكْ لاَ انْدْعَيْتْ*لِلْمَعْرُوفْ اتْشَكْريفَ
أما الأديب سلامي بن بگ فقد ندب الشافعي إلى مطالعة وتدبر الكتب, والتحلي ب “ازكاوية أهل إگيد”, وعدم التباهي بالعلم والفهم، وقد وفق في توظيف العبارة السائرة “گملت لگطيف” فجاءت في مكانها المناسب وذلك في قوله:
فَهْمَكْ فِاكْتُـــوبَكْ تَمْ بِيهْ*جَوْلِ ءُ جِيبْ اتْخَذْريفَ
والْتعْرَفْ سَترُ عُودْ فِيهْ* الّا گـــــــملت لِكْطِيفَ
وطالب الأديب الراوية لمشعشع ول حبيبي، الصبي بأن يكون معدودا في “العيل” وهي عبارة تحيل -في الثقافة البيظانية- إلى الفتوة والظرافة والمشاركة في مختلف الفنون، وقد أجاد في الجناس التام، و”الإفلاق” غير المتكلف، فقال:
عُودْ إلِّ شَافَكْ شَافْ عِـ ـيَّلْ فِـتْـــــيَانْ ءُظَـريفَ
بَـرْكِتْ مَالِكْ وِالــشَّافْعِ* وَأحْمَـدْ وَأبُو حَنِيــــــفَ
أما الأديب الشاعر محمد فال بن محمدن بن باركلل فقد راعى في گافه الجميل ترتيب مصطلحات علم الحديث حسب العصور الزمنية؛ فبدأ بالصحابة، وثنى بالتابعين، وثلث بتابعي التابعين٫ متمنيًا للصبي أن يسير على المحجة البيضاء فقال:
عود الصَّحْبي والتّابْعِ* فــينَ دُونْ اتجَانِيفَ
واشبِهْ مالكْ والشافْعي* وأحْمَدْ وأبو حنيفَ
ونختم هذه القراءة السريعة، بنص الفتى الأديب، صديقنا عبد الفتاح بن الشيخ أحمد الفالل، الذي أكد على أن الصبي سيتصف بخصال ذويه الحميدة، وختم نصه بذكر بعض الأماكن التي قدم لها ؛ موظفا أسلوبًا بديعيًا يعرف عند أهل البلاغة بمراعاة النظير، ويطلق عليه نقاد الحسانية “التلميح” فقال:
ادُّورْ اتْجِيبْ الِّ فُرْ فِيكْ*مِنْ خَصْلَ بِيكْ الِّي فَ
تـَــبَارَكّللَّ هـَــــــحْ بِيكْ*ءُ نِعْـمَ وآمُرْجْ ءُ كِيفَ