تمكن قدماء سكان المفازة، من استنباط الأمواه الجوفية، فسقوا أنعامهم، وأعلوا بنيانهم، وقهروا الصحراء بزراعة النخل والحبوب، ومع الوقت تراكمت لديهم تجربة غنية في طرق حفر وطي الآبار سواء في المناطق اللينة أو الصلبة، – وكنت قد عالجت طريقة حفر الآبار في مقالة مستقلة منشورة في هذا الحساب-، أما متح المياه فقد اعتمد فيه سكان المفازة على الغرب والذنوب والدلو ، والرشاء والبكرة والسانية، وقد استوقفني كثيراً عدم قدرة مجتمعاتنا البدوية على تطوير وسائل متح المياه، رغم الحاجة الملحة إلى ذلك نظراً للجهد البدني الكبير الذي كانت تتطلبه سقاية الحرث والنسل، كما أن الحاجة أم الاختراع كما يقولون، والتفسير الذي اطمأن إليه قلبي هو أن التطور يحدث عادة في ظل الاستقرار، وأن حياة الحل والترحال وتتبع القطر تفرض على أصحابها نمطا من الجمود على المألوف.
من ناحية أخرى، فقد كثرت المصطلحات المحلية المرتبطة بالبئر، والتي تعود في أغلبها إلى جذور صنهاجية، وقد لاحظت أن ظهور شبكات المياه والآبار الارتوازية، أدى إلى انحسار استخدام بعض تلك المفردات، حتى دخلت في نطاق مُمَاتِ الحسانية، فأغلب شباب اليوم لا يفرق بين “أَنَمْرَايْ” و “أَنَيْوَالْ” و “أنَتْفَارْ”، ولا يعرف معنى “دَكْ ادْلِ” و “الطِّيرزَ” ومن باب أحرى دلالة لفظ “اتْمَتْلِ”.
ويطلق لفظ “اتْمَتْلِ” على اشتباك وتداخل الأَرْشِيَّةِ بعضها ببعض، ويحدث عند ذروة ازدحام الوُرَّادِ على البئر كثيرة المياه، حيث يلقي “آنْمَارَ” – في آن واحد- عدداً من الدلاء بقدر ركائز البئر، وقد تزيد عليها أحياناً، وعندما تهمُّ السواني بجذب الدلاء من قعر البئر تشتبك الأرشية، وينتبه “أَنَمْرَايْ” الماهر لحدوث “اتْمَتْلِ” إما عن طريق حدوث تغيير في مسار بعض الأرشية، أو من خلال زيادة إحدى الدواب لمجهودها البدني المعتاد أثناء جذبها للدلو المربوط بها، ويقوم “أنَمْرَايْ ” فوراً بتنبيه “أَنَيْوَالْ” إلى حدوث “اتْمَتْلِ” لكي يخفف من سرعة الدواب، ويتم ذلك عبر عبارات مشفرة مثل قوله “اعْلِمْ بِيهَ” أو ” فِيكْ اذْرَاعْ”. وقد وظف الدكتور الأديب جمال بن الحسن عبارة “اعْلِمْ بِيهَ”، توظيفاً بديعاً، في رائعته المديحية للشيخ العالم المربي اباه بن عبد الله – حفظه الله- يقول جمال -رحمه الله-:
وِالثَّالِثْ اصَّ عَنْ خَالِكْ شِ مَا يِنْكَالْ بِكْلاَمْ البِظاَنْ
وِلاَ انْكاَلْ خَاطِــــــيهْ يِزْحَالْ وإعُودْ كِيفِتْ التِّرْطَالْ
وَلاَ جَايِبْ اعْلِيهْ شِ كَـــــاعْ أَصَاحْ مِنْ دُونُ وَخْتَانْ
“إِعْلِمْ بِيهْ كِيفْ تِمِتْلِ” أُتَــــــــــــمْ الَّ دَايْرُو فِلْبَالْ
أُتَمْ إِلَى امْشَيْتْ عَنَّ وَدَّعْنَاكْ لِلــــــــــــــــرَّحْمَانْ
دِيرْ فَخْلاَكَكْ ذَاكْ اللِّي فَخْلاَكْ أَنَيْـــــــــــــــــــوَالْ
الدكتور الأديب جمال بن الحسن رحمه الله
وفي ذات السياق ، فقد يقود “اتْمَتْلِ” – إذا لم تتم معالجته بسرعة- إلى حدوث العديد من المخاطر، منها أن محاولة التفريق بين الأرشية بعد صعود الدلاء المملوءة إلى فوهة البئر، تؤدي عادة إلى قطع الرشاء الضعيف، ولا شك أن السيطرة على حبل مربوط بدلو كبير يهوي بفعل الجاذبية الأرضية إلى قعر بئر سحيق، يحتاج إلى قوة بدنية ورباطة جأش، وخبرة متراكمة في التعامل مع هذا النوع من المواقف، ودائما تؤدي محاولة الهواة انتشال الرشاء المرتد، إلى فقدان حياتهم أو إصاباتهم بعاهات مستديمة، جراء سقوطهم في البئر. ولذلك قال الحكماء إن “نُوَّاشِتْ ارْشَ وِ نُوَاشِتْ لُكْعُودْ مَا يُلَكَّالْهُمْ”.
وتجدر الإشارة إلى أن احتمال تكرار حدوث “اتْمَتْل” وارد جداً، خاصة في ظل تزايد الطلب على الماء لسقي البشر والبقر، والحل الذي يتبادر إلى الذهن هو أن يقوم “أَنِمْرَاي” بالنزول إلى البئر وإزالة التشابك يدوياً، ولكن هذا الحل يحمل مخاطرة كبيرة، كما أنه يتطلب الكثير من الوقت والجهد، ولعل ذلك هو ما دفع “آنْمَارَ” إلى التفكير في حل فعال لا يتطلب عملاً إضافياً، أطلقوا عليه مصطلح “اْخبِيطْ اتْمَتْلِ”.
وفي ذات السياق، فقد اتفق أرباب هذا الشأن، أن “أَنَمْرَايْ” الماهر يبدأ معالجة مشكلة “اتْمَتْل” فور إحساسه بحدوثها، حيث يُدير قبضة يده على الرشاء لكي يتحكم فيه، في حالة انفصام عُرى إحدى عيون “الطِّيرْزِيوُنْ”، ثم يتفحص الأرشية المتداخلة بخبرة القُلَّبِ وذكاء المجرب، ويحدد بدقة المسافة التي حصل عندها التداخل، وعدد الأرشية المتشابكة، وحجم التداخل بينها، ثم يطلب من “أنَيْوَالْ” توقيف حركة السواني، ويضرب الأرشية بعصاه ضربة قاضية، تحز في المفصل، وتحل العقد، فتنفصل الأرشية وتعود عملية السقي إلى وضعها الطبيعي.
من ناحية أخرى، فقد وسع الأدباء والشعراء الحقل الدلالي لعبارة “اْخبِيطْ اتْمَتْلِ” حيث باتوا يستعيرونها لاستخدام الجهد القليل في حل الأمر الكبير، وتوظيف الطاقة القليلة في معالجة الأمور المعقدة، وهو ما يتناغم مع مفهوم Problem solving، وقد لاحظت استخدام المصطلح في أدب أهل إيكيد، حيث وقفت على نصين شعريين رثائيين وظف فيهما مصطلح “اْخبِيطْ اتْمَتْلِ” ، أولهما مرثية الشيخ بباه بن اميه للقاضي العلامة أحمد سالم بن سيد محمد الأبهمي -رحمه الله-، والتي شبه فيها فهم الشيخ للنوازل الصعبة المستعجمة عن فهم العلماء، ب “اْخبِيطْ اتْمَتْلِ”، يقول الأديب اللوذعي بباه بن اميه -رحمه الله- واصفاً خبرة الشيخ دِيدِ في فقه النوازل وتسليم العلماء والقضاة لأحكامه وفتاويه:
وكم من حكم مشـــكلة تصدَّى *** لها العلما على جُرْدٍ عِــراب
مجاريها بهم في كل شـــــــأوٍ *** بطون الكتْب من وإلى كـتاب
لقد عقدوا عزائمهم عليـــــــها *** وراموها بأنواع الــــــــــطِّلاب
وقد وقفوا لها في كل فـــــصل *** كما ولجوا لهــــا في كل باب
فأعيتهم مداخلها وولـــــــــــوا *** حيارى في شكوك واضطراب
فلما أن أتوك بها وكانـــــــــــوا *** إذا جــــــــــاءوك مدوا للرقاب
كشفت نقابها عنهم وقــــدماً *** لــــعمري كنت كشاف النقاب
“خبطت لهم تِمَتْليهِ” بفهــــم *** صحيح كنت فيه على سَكَابِ
العلامة والقاضي الشيخ أحمدسالم بن سيد محمد رحمه الله
الشيخ والشاعر المفلق بباه بن اميه رحمه الله
أما النص الثاني فهو المرثية الجميلة التي كتبها الفتى الأديب اكَّاه بن امين، مخلداً من خلالها بعض مآثر الشيخ المربي احمادَ بن ابَا – رحمه الله- ، فقد عبر من خلال مصطلح “اخْبِيطْ إتْمَتْلِ مِنْ بَلُّ” عن حكمة ومهارة الشيخ في حل الأمور العظيمة وإدارته ودرايته بتدبير شؤون الأمر العام لأهل انيفرار، يقول الأديب الألمعي اكاه – رحمه الله- في رثاء الشيخ احمادَ:
العِلْمْ ءُ لَخْلاَقْ ءُ لِنْــــفَاقْ*** والصَّلاَحْ ءُ جَوْدِتْ لَخْلاَقْ
وِالسِّيرَ وِالكَالْ الخَـــــلاَّقْ *** هَاذُ بَعْدْ اليُومْ انْـــــعِزْلُ
واتْفَكْرِيشْ ءُ كِلِّتْ لِــزْلاَقْ *** “وِاخْبِيطْ إتْمَتْلِ مِـنْ بَلُّ”
مِتْلاَحِكْ فِاحْمَادَ بِاطْــلاَقْ *** وِامْكَلَّلْ ذَ الْكِلْتْ امْـكَلُّ
احْمَادَ هَذَا خَالِطْ فِيــــــهْ *** عَالِمْ صَالِحْ رَافِـــدْ لَهْـلُ
تَابِعْ كَامِلْ يَلِّ يَعْطِيـــــــهْ *** ذَاكْ إلِّ كَـــــــانْ إِلَــوَّدْلُ
الشيخ و القطب الرباني احماد بن ابا رحمه الله
الأستاذ والأديب اكاه بن امين رحمه الله
ولعل تفاعل الأصدقاء الأدباء سيزودنا بأمثلة أخرى لتوظيف الشعراء لمصطلح “اخبيط اتمتل”
—–
محاولة تقريب بعض المصطلحات
– أَنَمْرايْ: كلمة صنهاجية لا أعرف مرادفها من الحسانية، ولعلها مشتقة من لفظ “اتْنَمْرِ” ويعني الرعاية ، وتشير في الاصطلاح إلى الرجل الذي يقوم على أمور البئر وسقاية الماشية ويرتبط الاسم بتربية البقر خاصة، فالقائم على سقي “الكسب لبيظ” مثلا ليس أَنَمْرَاياً.
أَنَيْوَالْ: كلمة صنهاجية تطلق اصطلاحا على الرجل الذي يقوم بمهمة سوق الدواب التي تمتح المياه.
– أَنَتْفَارْ: كلمة صنهاجية تطلق في الاصطلاح على معاون “أَنَمْرَايْ” الذي يكلفه بعدة مهام منها : “أتْنَيْويلْ” و “ارْواية” و”البحث عن الدواب” وهو ما يعني أن أَنَتْفَارْ أعمُّ من أَنَيْوَالْ.
– دَكْ ادْلِ: وتعني صناعة الدلاء، وكثيرا ما تصنع من المطاط الموجود في إطارات السيارات.
– الطّيرْزَ: كلمة صنهاجية تجمع على “طِيرْزيوِنْ” وتصنع من الجلود، وتكون أقوى من جلود البقر خاصة، ويتألف الرشاء من سلسلة من “الطِيرْزيوِنْ” مربوطة عبر عدة عيون، وعادة ما تربط أقوى “الطيرزيون” بالدلو نظرا للجهد الذي يتطلبه سحبه من ماء البئر.
فيديو من إنتاج الأسبوع الثقافي يشرح طريقة حفر الأبار عند القدماء: