لم يكن السيد القارئ أحمدْ بن سيد حفيد الصالح البركة حلاَّب إدران الجكني، يدري أن نقاشًا علميًا سيكون آخر حديث له مع بني عمومته وهم يمتارون في إحدى قرى شمامَ… كان الحوار الساخن يدور حول ضبط كلمة من متشابه القرآن ثم قرر القوم أن يحتكموا إلى الشيخ أحمد بن الفاللي الأبهمي الذي كان يسمع تحاورهم، فحكم على الفور بصحة وجهة نظر أحمد بن سيد سالم، وبين الوجه في ذلك، فحلف الأخير أن لا يفترق سواده مع سواد الشيخ بعد ذلك، وبرَّ يمينه ورجع الأحمدان معًا إلى ربوع إكيد وعاش الشيخ الجكني في حي أهل أعمر إديقب مدة طويلة من الزمن حُمدت فيها سيرته ورضي عنهم ورضوا عنه، وتزوج السيدة مريم بنت أكمجمين ورزق منها بابنه الفتى سيد سالم وشقيقته العايش.
كانت “العايش” ناقدة اجتماعية، ومن عادتها أن تنظم نقدها في بعض الأشعار تمزج فيها بين الفصيح والعامي، فيستحسنها الناس ويحفظونها، ويحرصون على إسماعها للناشئة لغرس القيم الحميدة في نفوسهم، فيأنفون عما يعاب به الفتى شرعا وعادة. دفنت هي ووالدها في مقبرة جكين مع شيخهما.
قررت افَّيت الملقبة هَيْتِ بنت إبراهيم بن العابد وأختها فاطمة الزهراء وشقيقهما أحمد سالم أن يتركوا مضارب حلة أولاد أحمد في لبراكنة، واختاروا مساكنة أهل أعمر إديقب، فهشَّ لهم الحيُّ وبشَّ واستقبلهم الأعمريون بحفاوة، وسرعان ما انسجموا مع الساكنة وتآلفت أرواحهم معهم، وشرعت “هيت” في معالجة مرضى العيون، فقد كانت طبيبة ماهرة وشفى الله على يديها الكثير من الحالات التي كانت ستؤدي إلى العمى، وحولت تلك الخبرة إلى نسوة في الحي فأخذن عنها تلك التجارب٫ ولازالت وصفات هيت تستخدم حتى اليوم. والغريب أن وجهاء من أولاد أحمد قدموا إلى انيفرار وتفاوضوا مع هيت وإخوتها في مسألة الرجوع معهم فامتنعوا وفضلوا الثواء في انيفرار، ولم ترزأهم هيت ولا إخوتها درهمًا واحدا من تلك العروض المالية المغرية التي عرضوها عليهم. بل لازموا أهل الحي وعاشوا في أكنافهم، ودفنوا ثلاثتهم في مقبرة “أغكجس” ومن أحبَّ قومًا حشر معهم.
تزوج الفتى سيد سالم بن أحمد بن سيد من هيت بنت إبراهيم بن العابد، فكان بيتهم بمثابة النادي الأدبي الذي يقصده فتيان الحي للاستفادة والاستزادة، فالفتى الجكني كان خبيرا بأيام العرب وفرسانها، وأشعارها ورقيق نسيبها، ضليعا في علم الأنساب، وتاريخ القبائل وبعبارة أخرى كان مثقفا موسوعيا، وقد توفي رحمه الله وهو يمتار في مدينة “ادويره ابودور” بالسنغال ودفن هنالك، وإلى ذلك يشير الشيخ بباه بن اميه في نظمه لنزلاء مقبرة “ادوير” بقوله:
ومعـــهم ثم أبيُّ العاب *** أي ســـيد سالم بلا ارتياب
سليل أحمد سليل سيد *** من حي جاكان الأباة الصيد
رزق الله الفتى سيد سالم ابنا من هيت سماه أحمدُّ، كما أعقب ابنا آخر من سيدة غيرها أطلق عليه اسم الشيخ، نشأ أحمدُّ وتربى في انيفرار، وأصبح أحد رجالات الحي المرموقين والمحترمين، كان ضليعا في الأدب، خبيرا في أشعار العرب وأيامها وأنسابها، كما يعد من أهل الظرافة والطرافة والفكاهة؛ فكان يطرف محدثيه بالنوادر والنكت والفوائد والكلمات البليغة الهادفة والموعظة الحسنة. ومن مأثور كلامه أن الفيروز أبادي والحريري و محمد عبد الرحمان بن انكذي لم يبلغ أحدهم شأوهم في تخصصاتهم، تزوج السيدة عيشة بنت امين بن أكمجمين ورزقه الله منها ابنه المختار الملقب التاه، وخلف بعدها على امياه بنت حبيب الله من أهل المبارك وهي أم أبنائه حفظهم الله. توفي سنة 1982 عن سن عالية ودفن بشهلات.
نجلت التاه نسوة ينتمين لبيوتات عريقة من أهل أعمر إديقب؛ فجدته لأم السيدة الحافظة المقرئة فاطمة الملقبة توتو بنت محمدن بن حامتو، معلمة الأجيال حفيدة حاتم بني ديمان أحمد بن المنجي، وتلك أمها ميمون بنت محمد بن محمذن بن عَمِّ، سليلة بيت أهل سگم العريق في السؤدد والمجد، وتلك أمها فتاة بنت أحمد بن يامحمذُ بن محمد الصوفي من قبيلة إيدكبهنِّ الشهيرة بالصلاح والورع.
سرت إلى التاه أسرار آبائه وأخواله فضمّ علم تجكانت وكرمهم، إلى ذكاء بني ديمان وبلاغتهم، فجمع في أديم واحد قرآن جده أحمدْ ونقد عمته العايش،إلى فتوة سيد سالم، وعقل هيْتٍ، وأضاف إلى ذلك عبقرية أحمدُّ، وسخاء جده امين بن أكمجمين وقبوله فأصبح ظاهرةً فريدة، فحفظ القرآن قبل أن يبلغ الحلم، وحصل ثقافة عامة واسعة في جميع العلوم والفنون، ثم فتح الله عليه في الهندسة المعمارية و إعداد المخططات العمرانية، ومتابعة الأشغال، و قد درس ذلك التخصص عدة سنوات في معهد اقرأ المهني بانواكشوط.
تعود علاقتي بالفقيد إلى أيام المرحلة الابتدائية في روصو، حيث أقام معنا لفترات متقطعة، أحببته فيها كثيرا، كان يلهو معي ويمازحني و يقدم إلي الهدايا باستمرار، والصبي بالفطرة يتعلق بمن يعتني به، فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وعندما سكنت الأسرة في نواكشوط، كان لا ينقطع عن زيارة الوالد، ودائما يحرص على الجلوس معي وتوجيهي ويحثني على العلم والتعلم والحصول على الشهادات العليا ، وكان كثيرا ما ينصحني بدراسة علوم اللغة العربية في العطلة الصيفية، أتذكر أنه خاطبني يوما وأنا منشغل في اهتمامات المراهقين، قائلا: ” بُويَ أكْرَ شمْنْ عُلوم اللغة كانك اتكر اشاشرتن امنين يَفصْلو فِيكْ” وليتني فعلت.
رزق الله التاه عقلا راجحا، كنت دائما أستمع إلى النقاشات التي تدور في البيت حول مختلف مواضيع الساعة، فأستفيد من آرائه واقتراحاته، ومن أطرف المواقف التي حصلت لي معه أنني قرأت عليه أبياتا من بواكير محاولاتي الشعرية، فأغمض عينيه، وبدأ يترنم بها وكان ندي الصوت ثم فتحهما، وقال لي لا داعي لنشر الأبيات فهي سليمة عروضيا لكن تنقصها حرارة الشعر ، فأوعيت تلك الملاحظة أذنا صاغية أرجو أن تكون جنبتني برودة الشعر.
عرف التاه بالسخاء والجود والكرم والقناعة٫ و رزقه الله الستر الجميل، كان يجتهد في إكرام الضيوف والزائرين والعائدين و يحتفي بهم، وقد سخر الله له ذلك وأعانه عليه، والله آخذ بيد السخي كما يقولون. كما عرف عنه حب الصالحين عموما وزيارتهم وحسن الظن بهم، فكان مريدا للشيخ سيد محمد بن عبد الرحيم معتقدا فيه، وقد أطلق اسمه تيمنا على ابنه الوحيد” ادِّيد” وأوصى أن يدفن بقربه في مقبرة بئر السعادة.
شاع التاه بمحافظته على المنظومة الأخلاقية الإيكيدية و طباع بني ديمان و لذلك يعد ناقدا اجتماعيا من الطراز الرفيع، وكان كلما لاحظ حدوث فعل أو قول مستهجن صادر عن أحد الأقرباء، ينبهه بلطافة وظرافة إلى ذلك، وعندما تكون في مجلسه لا يمكن أن تملك نفسك عن الضحك، فالرجل فكاهي واسع المخيلة غزير الثقافة يشحن كلامه بالإيماءات الإيكيدية الصرفة، والإيحاءات غير الجارحة والنقد الظريف ، وقد أضحكت عباراته النقدية الشيوخ والكبار والصالحين وربات الخدور… كان يوظف الخيال العلمي والموروث الثقافي من أجل الترفيه عن أصدقائه في زمن لاوجود فيه لوسائل التواصل الاجتماعي، ومن أطرف قصصه الخيالية؛ الجهاز الذي يدفع الكتومين إلى إفشاء أسرارهم٫ و محاورة الآخرة، وقيام التراويح بشعر الشعراء الستة… وغيرها من قصص النقد الهادف الساخر.. والتي أضحت كالمثل السائر، فتلقفها الناس وتناقلتها الركبان وسمرت بها النوادي، فالرجل نسيج وحده٫ وضع الله له القبول في الأرض وزكى له عمره وعلمه وعمله.
يروى أن الشيخ محنض باب بن اعبيد حزن كثيرا على وفاة الشيخ الناقد باب فال بن المختار بن محمذن بن يحي، حتى اعتزل الناس أياما، ولما سئل عن ذلك قال إنه حزين على المروءة فلم يكن باستطاعة الفتيان الإخلال بنواميسها في حياة باب فال. كما يروى أيضا عن الشيخ محمدن بن الشيخ أحمد الفاضل أنه خاطب الرجال وهم راجعون من دفن الناقد اسلام بن الأمين بن شيبة (ت 1339) قائلا: والله إني لأخشى أن تذهب بذهاب اسلام أبواب من المروءة كان طول حياته محاميا عنها لا يستطيع أحد انتهاكها.
والغريب أنني ينتابني نفس الشعور في هذه اللحظات بعد رحيل اتاه سنة 1441؛ فالخوف من لسان الرقيب الاجتماعي وتقريعه يلعب دورا بارزا في ترسيخ القيم والعض عليها بالنواجذ خصوصا لمن هم في سن المراهقة والله المستعان..
فقدت بالأمس أخا مخلصا ناصحا عاقلا، ومجالسا مثقفا، وقريبا محبا وجارا مأمون البوائق … فإنا لله وإنا إليه راجعون ..
أقدم أحرّ التعازي إلى ابنه سيد محمد الذي أسأل المولى عز وجل أن يحقق له فيه مراده؛ فيسمو إلى الخيرات منقطع القرين، كما أعزي إخوته الفضلاء و أسرة أهل الشيخ بن حلاب وأهل الطالب اعبيدي عموما، وأتقدم بخالص العزاء إلى أهل انيفرار عموما وخصوصا أسرتي أهل ناصر الدين بن يام، وأهل اسنيد، وأعزي أيضًا أسرة أهل اللاَّ بن أبٌ فقد فقدنا ابنا بارا وأخا محبا وناصرا أمينا رحمه الله وجزاه عنا خير الجزاء.