الرئيسية / ندوة الشيخ محمد اليدالي ونتاجه الفكري / عرض حول البعد الصوفي عند الشيخ محمد اليدالي يقدمه الشيخ محمد فال بن عبد اللطيف

عرض حول البعد الصوفي عند الشيخ محمد اليدالي يقدمه الشيخ محمد فال بن عبد اللطيف

عرض حول البعد الصوفي عند الشيخ محمد اليدالي يقدمه محمد فال بن عبد اللطيف

 

بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه

وبعد

فشكرا للقائمين على زاوية الشيخ محمد اليدالي– أعزها الله- على حسن ظنهم بي إذ عهدوا إلي بكتابة كلمة موجزة عن البعد الصوفي عند هذا الشيخ مثرين بذلك سيرتي الذاتية فجزاهم الله خيرا.

الموضوع عريض واسع ممتع نافع ولكن قلة الحصة الزمنية المخصصة له في هذه الندوة المباركة جعلتني أقتصر على ما لابد منه وأعفتني من الخوض في مواضيع لا أحسبني قادرا على معالجتها.

والروافد التي استقيت منها ما أنا ملقيه إليكم سادتي الأعزاء في هذه الندوة المباركة هي ما تواتر عندنا وعند أسلافنا داخل هذه البلاد وخارجها من كون الشيخ محمد اليدالي كان قطبا تدور عليه المعارف الصوفية في هذه الأقطار ثم ما كتب عنه المؤلفون ممن جاء بعده كالنابغة الغلاوي والمؤرخ المختار بن حامدٌ والعلامة أحمد بن احبيِّب والأستاذ محمذن بن باباه والدكتور الأمير ولد آكاه بالإضافة إلى إصدارات زاوية الشيخ محمد اليدالي ثم استنطاق ما كتبه هو ضمن مؤلفاته الكثيرة الغنية.

فلما حصل عندنا من ذلك بعون الله ما شاء الله اعتمدنا له التصميم التالي ويدور كله حول التجليات الصوفية عند الشيخ محمد اليدالي وهي:

ـ انتماؤه إلى الطريقة الشاذلية.

ـ كتابه خاتمة التصوف.

ـ اعترافه بالسماع كمحفز روحي.

ـ هدي الصوفي العام ونماذج من أخلاقه.

أولا: انتماؤه إلى الطريقة الشاذلية

يعد الشيخ محمد اليدالي من أبرز مشايخ الطريقة الشاذلية في هذه البلاد ومعلوم أن الطريقة الشاذلية أسسها الشيخ أبو الحسن الشاذلي وقد أخذها اليدالي عن ابن عمه نختار بن المصطفى اليدالي الذي أخذها عن الشيخ سيدي أحمد الحبيب السجلماسي ويعتبر نختار هذا هو أول من أدخل الشاذلية إلى أرض القبلة.

وتقوم هذه الطريقة على الأسس والمبادئ التالية:

1 الإخلاص وينقسم إلى دربين: إخلاص الصادقين وإخلاص الصديقين

2 التوبة وهي ثلاثة أنواع: توبة العوام، توبة الخواص، توبة خواص الخواص

3 النية

4 القصد إلى الله تعالى ويقوم على أربعة أعمدة:

ـ الذكر والفكر والفقر والحب ولكل منها بساط وثمرة.

5 الخلوة والمقصود بها العزلة وملازمة الذكر والمراقبة والتوبة والاستغفار.

6 الجهاد والمقصود به جهاد النفس والشيطان والدنيا.

7 العبودية والمراد امتثال الأوامر واجتناب المناهي.

8 الطاعات حسب وقت كل طاعة.

9 الذكر باللسان وبالقلب وبالروح.

10 الورع وهو متعدد المراتب.

11 الزهد وهو فراغ القلب مما سوى الله.

12 التوكل ومعناه نسيان كل شيء سوى الله.

13 الرضا بمواقع القضاء.

14 المحبة.

وللشاذلية أوراد ووظائف وأحزاب معروفة.

وقد تطرق اليدالي في مؤلفاته لهذه الحقائق بقلم المتحقق الذائق وقد أخذ عنه هذا الورد الشاذلي جماعة لعل من أشهرهم ألمَّا بن المصطفى اليدالي المعروف بألمَّا العربي الذي يصف اليدالي في إحدى قصائده ب”الولي العارف الصوفي”.

ثم محمد والد بن المصطف بن خالنا فقد صرح بأنه أخذ عنه وبعبارة أخرى صدَّره في قصة معروفة ذكرها الأستاذ محمذن بن باباه في كتابه عن الشيخ محمد اليدالي ووسطه الاجتماعي.

ثانيا: كتابه خاتمة التصوف

وهذا الكتاب من أهم النصوص لشموله معظم فقه التصوف بصورة موجزة ولأنه شرح ونظم غير ما مرة من طرف الشناقطة وغيرهم من شاذليين وغير شاذليين فقد شرحه الشيخ اليدالي نفسه وهي تعتبر خاتمة لكتابه في العقائد الذي شرحه بكتابه”فرائد الفوائد”وشرح فيه عقيدته على مذهب المتكلمين.ومن الملاحظ أنه لم يغب عنه قط هاجس التوحيد الصوفي حتى في معمعان المباحث الكلامية حيث كان يقول دائما بعد كل بحث: أما المتصوف فيقول كذا..

وقد ختم كتابه هذا بقوله بعد انتهاء عقيدته على سنن المتكلمين بقوله: ما قدمناه توحيد المتكلمين وأما توحيد أهل التصوف فكذا..وهذا ما جعلها تسمى خاتمة التصوف فإضافتها حقيقية.

أما مضمون كتاب خاتمة التصوف فهو الكلام على حقيقة التصوف وهي العمل بمقتضى التوحيد وفرق فيها بين التفقه والتصوف وبين فيها أن العلم والعبادة هما سبب السعادة وبين فضل العلم ثم بين أن أركان التصوف عند القوم هي العزلة والتوبة والجوع والسهر والصمت والاستقامة ثم تكلم في باب أول على معاملة الخلق بما فيه الهوى والشيطان والدنيا والعمل. ثم تكلم في باب ثان عن أمراض القلوب والرذائل ما ظهر منها وما بطن وعن دوائها وطبيبها ثم تكلم في الباب الثالث عن الآداب والفضائل ما ظهر منها وما بطن كذلك وما يندرج تحت كل واحدة منها كالصبر والدعاء والشكر والتواضع والإخلاص والرجاء والخوف إلى غير ذلك.

وقد عني العلماء بخاتمة التصوف هذه فقد اختصرها هو نفسه ووضع عليها لمرابط محمذن فال ولد متالي طرة وقال في حقها أنها فرض عين التصوف في هذه البلاد وكفى بها تزكية من مصدر مأذون ونظمها حيمده بن انجبنان والشيخ الخديم أحمد بمب والمختار بن جنك اليدالي والعلامة اباه بن محمد الأمين والعلامة الشفيع بن المحبوبي اليدالي رحم الله الجميع كما حققها الدكتور أحمدُّ ولد آكاه.

ثالثا: اعترافه بالسماع كمحفز روحي

لا شك أن حضور السماع في الفضاء الروحي عند اليدالي معروف ثابت فقد صرح هو في كتابه المربي أن سبب إنشائه للقصيدة المباركة صلاة ربي هو سماعه لنغمات يغنى بها لأحد أمراء البراكنة وحرك ذلك منه وجدانا خاصا جعله يقلب تلك النغمات إلى قصيدة من نفس الوزن ولكنها في مدح سيد الخلق وقد ذكر أنه لم يؤلف قط تأليفا إلا على إثر طرب وقع له وتذكر المصادر أن ليلة تصديره لولي الله والد بن خالنا كان أي اليدالي يتصنت إلى أناشيد يتعاطاها الشباب من أتراب والد فاستحسنها فكان ذلك سببا في إنشاء قصيدته في مدح القرآن المشهورة التي شرحها النابغة الغلاوي ورواها عنه تلك الليلة والد بن خالنا ومطلعها:

إن همي كتابك المستبين*** يا إلهي يا من به أستعين

ومعلوم أن العلاقة بين التصوف والألحان الجميلة عريقة بالرغم مما تثيره من الجدل الفقهي بين مجوز ومانع مع اتفاقهم على وجود تأثير ملموس للصوت الحسن في استنهاض الهمم وإجماعهم أن الصوت الحسن يهيج ما في القلب.

وبالرغم من أن اليدالي نفسه له فتوى في الرد على المتصوفة الذين يستمعون الغناء بالمزامير ويؤدي ذلك بهم إلى الرقص الذي يسمونه بالتواجد فإنه مع ذلك لم يصرح بتحريم الغناء إطلاقا بل اعتمد التفصيل الذي ذكره الغزالي في الإحياء والذي يبدو أنه هو الموقف الرسمي والمعمول به ميدانيا عند كثير من العلماء والمتصوفين.

ومن تأمل قصائد الشيخ اليدالي في مدحه صلى الله عليه وسلم وجدها كلها في البحور الراقصة كبحر المجتث ومجزوء الرمل ومخلع البسيط ولا تخلو من فقر فيها أبيات تتكرر فيها ألفاظ على غرار ما يقع في “أشوار الموسيقى” البيظانية ففي قصيدته التي مطلعها: حسن بدئي واختتامي.. هناك مقطع يبدأ بقوله:

صل يا رب على من***جل عن عيب وذام

صل يا رب على من***نال محمود المقام

ويقول في وسط هذه القصيدة:

النبي المصطفى من***جل عن عيب وذام

النبي المصطفى من***نال محمود المقام

ويقول في آخرها:

يا رسول الله يا من***جل عن عيب وذام

يا رسول الله يا من***نال محمود المقام..الخ.

وكذلك الشأن في قصيدته الموسومة بالكنز والكيمياء ففيها فقرات كلها على هذا النحو ففيها على سبيل المثال فقرات يبدأ كل منها بقوله:

ذوي حروف ثلاث…

وثالثة يقول فيها:

أنصاره وعداه   ليسوا هم بسواء …

فهؤلا في طفو   وغيرهم في انطفاء

فهؤلا في كذا وغيرهم في كذا

في عدة أبيات من هذا النمط.

وأخرى يقول فيها:

فأصبحت ملل الكفر في ردى وانمحاء

وملة المصطفى في مسرة وهناء

والحمد لله تي في  نقص وذي في نماء

والحمد لله تي في كذا   وتي في كذا

وأخرى تبدأ بقوله..

رب اكفنا ضرر كذا…نحو عشرين بيتا.

فإن المنشد لهذه القصائد إن كان ممن يذوق الشعر لابد أن يجد نفسه راقصا مغنيا لشدة انسجامها وصدق عاطفتها ولقد نبه اليدالي نفسه في كتابه المربي على صلاة ربي على وجود هذا النوع من الانسجام المطرب في تلك القصيدة مصنفا إياه في المحسنات البديعية.

رابعا: هديه الصوفي العام ونماذج من أخلاقه

لا شك أن اليدالي كان ينتمي للطائفة الصوفية بأكمل معانيها مؤمنا بمكانتها ومكانها في الأمة الإسلامية وكان مؤمنا مصدقا بالفكر الصوفي ومهيمنا عليه ومعتقدا في ما يذكر عن أهله من البركات والأمور الغيبية كالحقيقة المحمدية والحضرات الخمس. وقد كان يتوسل بأقطاب الصوفية على مختلف طبقاتهم كالقطب والأوتاد والأبدال وأهل الديوان ودائرة الأولياء وغيرها من الهياكل التي يجزم بها كبار أهل التصوف ويقف منها بعض الفقهاء موقف التحفظ.

وله شرح على أسماء الله  الحسنى ركز فيه على الجانب الصوفي مبينا من تلك الأسماء ما هو للتعلق وما هو للتخلق.

ثم لا شك أن من تأمل ما كتبه اليدالي في جميع ميادين العلم يبرز فيه هاجس التصوف نذكر من ذلك على سبيل المثال ما ذكره في الذهب عندما تكلم على التفاسير المحذر منها قال: وليس من هذا علم الموهبة وهو علم يورثه الله لمن عمل بما علم والطريق إلى تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العلم والزهد وترك البدع والكبر والهوى وحب الدنيا وترك الإصرار على الذنب ولا يمكن من غير متحقق الإيمان ولا من ضعيف التحقيق قال تعالى: (( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق)) أي أنزع منهم فهم القرآن. قال: وما ذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظاهرها ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى حقائق تنكشف لأرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان.

كما نجد تآليفه كلها قائمة على خلفية الأخلاق النبوية والمثل الصوفية يظهر ذلك جليا في تفسيره الذهب الإبريز وكتاب فرائد الفوائد كما أشرنا إليه وكذلك كتابه المربي شرح قصيدته صلاة ربي بالإضافة إلى رسائله المشهورة ومدائحه التي يتجلى فيها الطابع الصوفي الذي هو في الحقيقة التخلق بأخلاق الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام لذلك كان معروفا بالتواضع والحلم والعفو والإيثار والشفقة على الأمة وكان موقفه من مناوئيه موقف الصديقين لا يريد لهم إلا الخير والهداية، قال في قصيدته الهمزية المشهورة في حق أعدائه:

رب اهدهم وأجرنا***من شرهم والبلاء

وغير بعيد من هذا البيت قوله:

وفي زخارف هذي اجعلنا من الزهداء…

وكان حريصا على جمع شمل المسلمين والإصلاح في ما بينهم ودرأ كل نائرة تنجم بينهم فكان يجزي السيئة بالحسنة ويعفو ويصفح.

وهكذا يظهر لنا الشيخ اليدالي صورة حية تمشي على وجه الأرض للعالم العامل الكامل الصوفي المتحقق الذي هو مع الناس بجسمه وفي عالم الملكوت بروحه يعامل الحق والخلق بما يليق حسب موازين الشرع والفتوة بمعناها عند أساطين رجال الصوفية، وقد تجسدت فيه خصائص الهدي الشاذلي الذي يوفق بين أمور من الصعب التوفيق بينها منها: الجمع بين الفقه والتصوف، والزهد في الدنيا والتكسب، والتواضع والقوة في الحق، والنخبوية وعدم التعصب، والتمسك الصارم بأركان الفكر الديني الشنقيطي الثلاثة وهي: العقيدة الأشعرية ومشهور الفقه المالكي والتصوف الجنيدي.

وقد اشتهر عندنا أهل هذا القطر أن تآليف اليدالي تقوم مقام الشيخ المربي لمن يتعاطاها.

وقد اتخذ اليدالي من السادة الصوفية قدوة يتأسى بها في كل شيء فيذكرهم في أشعاره ويؤلف في تراجمهم كما فعل بالولي الإمام ناصر الدين ويذكر محاسنهم في أشعاره كما فعل بأبناء القطب أبي زيد بن يعقوب وبقبيلة بني ديمان وقد سارت مدائحه فيهم مسار المثل.

وبالرغم من جو الهزيمة الذي كان سائدا بعد حرب شربب كان السلوك اليدالي هو أكبر ملجأ وآمن معقل تلجأ إليه العامة ولا سيما طائفة الزوايا المهزومين فنجح اليدالي في بناء الثقة بينهم وبين خصومهم بالأمس فأسس بذلك لتصالح هم بحاجة إليه وحقق بما اشتهر به من علم وصلاح وبركة وكرامات وإنفاق في سبيل الله وجاهة عند أهل الشوكة من القبائل الحاكمة وغيرهم على تعدد اتجاهاتهم، مما كان له الأثر الطيب في تحقيق الأمن والسلم الاجتماعي في تلك الفترة الحرجة، فتم ذلك في وقت قياسي، نبه على ذلك من كتبوا في هذا الموضوع من الباحثين والمؤرخين كالأستاذ محمذن بن باباه وغيره.

الخلاصة

ذلك الشيخ محمد اليدالي الذي أصبح اسمه مرادفا للولي العالم الصوفي التقي النقي الذي دوى صيته في الدوائر العلمية والسياسية في عصره وما التصوف إلا واجهة واحدة من واجهاته الكثيرة ولعلها هي الواجهة التي تتجلى في كل واجهة أخرى وكل وجهة هو موليها.

وفي الأخير نرجو أن يقوم لنا هذا العرض الموجز مقام مجالسة لكم أيها السادة الكرام حتى نحظى بما يحظى به جلساؤكم فأنتم القوم لا يشقى جليسهم.

وأشكركم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اترك رد