من البديهي أن لكل حاسة من حواسنا مجالها الإدراكي الذي تفوق فيه غيرها، ويكون فعلها فيه أجدى وأنفع ،حتى أنها لتوحي بأشياء كانت من المغيبات والمبهمات، عن الحس والإدراك.
وذلك ما يحدث مع الأذن أثناء الظلام، فليس الظلام سوى انعدام للضوء، ولكنه انعدام يضفي على الأشياء بعدا ضبابيا، ويحيطها بسور عظيم لا يعبره سوى الأصوات، فتتجلى بمفردها متجاوزة حدود الضباب، وغشاء الظلام بسهولة عالية.
إن ما تدركه الأذن أثناء الظلام يتجاوز حدود التعبير والتواصل، حيث يخولنا الصمت أثناء الاستماع إلى الموسيقى في الظلام تسلق جدار الغناء، وفهم الموسيقى، فهما سليما لا يحصل في غير ذلك الحين، فحين ننصت لمن يغني دون آلة موسيقية في ظلام دامس، ندرك أن للصوت منحى جليا يسير وفقه بالتواضع، حتى نستطيع أن نجيب أجوبة مقنعة على أسئلة يطرحها بعض المستمعين للغناء من بينها، ماذا يفعل المغني بصوته ؟ مالذي يميز الغناء عن باقي الأصوات؟ ما هو حد أزوان؟ وهل خروج المنشد من دائرة أزوان وعدم خروجه منها يخضع لإرادته أم لذوقه؟ علما أن الذوق ليس إراديا !
الغناء بناء تراكمي لمجموعة من الأصوات تحاكي أفكارا شعورية نملكها ونتحكم فيها عن طريق السماع والتأثر والتجربة، ويوصلها الذوق لذهن المغني عن طريق تقليد للمثال الأسمى و الأكثر تأثيرا في ذهنه من جميع ما ألف واعتاد سماعه من المبدعين، وهو كذلك تطبيق لاشعوري لتصور ذوقي وقدرة جمالية امتزجت بمعرفة الإنسان وخبرته عن طريق الذوق و اللغة والثقافة والبيئة، وظلت تسكن ذهنه، ويألفها ويرتقي في سلمها، ويتعمق في تحليلها، ويزداد تعلقا بها يوما بعد يوم، وتتضح بنية الغناء، وشكله بجلاء، عندما نفكك المقطوعة أو” الردة”ـ “بفتح الراء”ـ فتدرك الأذن الواعية أو “المفتوحة”ـ بمصطلح أهل ذلك الفن، أن الغاية من الأداء قد فسدت، لأن المنحى المثلي لم يتم والبناء المتصل في ذهن المتتبع لم يكتمل بل تقطع وبالتالي سيحصل تذبذب و شرود عند المنصت المفتوح، والأمر جلي بالذوق.
والغناء كذلك جزء من التعبير يعتريه الفهم، ويخضع لمستوى كبير من الوعي الثقافي والشعوري، ويبدأ الغناء من سياق مشترك ومتواضع عليه بين المغني وجماعته، وهنا يبرز معنى الهول أو أزوان، وذلك حين ندرك أن جميع الأصوات التي يصدرها المغني هي تعبير يحاكي سلما معلوما ومألوفا عند ذويه، وترسُّم دقيق لخطى واضحة يسبق الانفعال
إليها القصد، وليست عبثا بقدرات جسمية، إنه يحاول التحكم في الهواء الصاعد من الرئتين نحو الحنجرة حتى الشفتين ليخرج منه أشكالا جمالية تحمل في طياتها ثقافة وعلما، وتأثيرا عميقا، يجد صداه في النفس فراغا عظيما، لا يمكن أن يصفه المعنى، أو تصله العبارة،إنها أشياء يعرفها الذوق، ويفقهها الحس المرهف والوعي الفطن، وقل أن تكتسب وإنما يجلبها الأب لابنه وراثة.
رغم وجود حدود جلية في الذهن تحيط شكل ازوان وتصف التصور الدقيق لهذه البنية الثقافية، إلا أنه ليس من السهل أن نضع حدا لدائرة أزوان، حدا تتساوى فيه الأذهان والبصائر، فلو أوحيت إليك أن منحى الصوت يدخل دائرة أزوان بدء من العصبة الثانية
فالأمر شعوري محض لا مراء ولا نفاق فيه، فمن يعرف العصبة ومن يشعر “الضربة، “و الرِّّّدّة “بفتح الراء” ؟؟؟؟؟ فمن الناس من يفوته “المنحى الأزواني” ، ولكنه يطرب جدا لمشاركة الآخر مشاعره وليثبت وجوده كأحد أفراد المجتمع يملك وعيا ثقافيا وميزة اجتماعية، ومنهم من يتجاوز الشعور بحدود دائرة الهول، وإدراك منحى الفن والجمال، إلى مقارنة كاملة بين اللغة كوسيلة تعبيرية وتواصلية، تخاطب الفرد في حدود العقل والتصور والحقيقة، وبين الموسيقى كتعبير يخاطب الحس والشعور و يغوص في أعماق النفس ببساطة، مستوحيا عوالم من تلك الأشياء الدفينة، والأشكال الغريبة، وكثيرا مما لا يطاله التعبير ولا يوفق فيه التفكير.
وهنا نقف قليلا لإجلاء الحدود التي تفصل بين الذوق والإرادة، و الشعور والقدرة، فنحن في حدود القدرة مقيدين بالحادثية، وندرك أقصى ما يمكن أن نصل إليه قبل أن نبدأ، أما في مجال الذوق و الشعور فنحن في راحة وهمّ عظيم، راحة من باب أننا نجلس بارتياح في انتظار ما يوحي إلينا به الذوق ولا حدود لذلك ، وهم ّ من باب أننا نفقه ما لا نريد أن نفقهه، فالذوق متعب وفضولي ولاإرادي ، والقدرة قاصرة عن الإرادة بالنسبة لنا،……والذي يهمنا هنا أن نصف الشعور بمنحى “ازوان” لاإرادي ولذلك لا يمكن أن يخرج المغني بإرادته من دائرة “ازوان”، وكل ما يحدث له هو جهل بالمثال المتبوع، أو غفلة عابرة
تعتري المبتدئين، فالذوق لا يسمح أبدا “للمفتوح في أزوان” أن يخرج مطلقا من دائرته بل يكسبه قدرة على الارتجال، وابتكار تصرف مقصود في المتفق عليه من الرّدات،
وتعود قيمة الظلام في فهم كل ما يتعلق بالأصوات، إلى مسألة تعاوض الحواس ، وتلك عملية تحصل تلقائيا دون إرادة أو قصد من الإنسان.
ديدي أحمد سالم
أحسنت كتابات متميزة تستحق التشجيع
ديدى ذاك زين اتباركلل إلى الأمام
حبذا لو أتحفنا الموقع بالمرثية النثرية التى كتبها الأستاذ ديدى فى المرحوم محمدن بن احماد فلقد أجاد فيها و أفاد وماكنت إخال المراثى نثرية فإذا هي من أروع ما يكون
لله درك يا ديدي * لقد اجدت في كتابتك هذه عن حاسة *السمع* و*السماع* ولكنك تكلمت بلغة فلسفية بحتة وهو كذلك ’ لكن ينبغي أن تكتب الموضوعات الفنية بلغة يفهمها الكل لا البعض. وقد اجدت مرة أخر] بارك الله فيك وعليك. وكتب متصفح ومشارك.