إن اللغة ابنة التاريخ و الإنسان ابن بيئته ولكنها تتأثر بكل ما يتأثر به الإنسان من مناخ وتضاريس ويظهر ذلك في بلاغته وما يضحك جماعته بالصدفة والتواضع من ثقافة محلية ترسخ في ذهن الصغير وشب عليها الرجل تماما كما شاب عليها الشيخ الهرم، فحتى محل النكتة هو مألوف ينمو في ظل الثقافة ووفق ظروف وبيئة الانسان كما يخضع أحيانا لعاداته وتقاليده وبعض الاعتبارات الشخصية التي تنمو وترسخ بين أبناء المجموعة البشرية.
إن دراسة العلاقة التي تربط البلاغة بالمناخ ليست وليدة الصدفة وليست ناتجة من فراغ فقد راودتني هذه الفكرة وأنا أصحو على حديث بدوي ساخن تناول أهله صفات الإبل وطريقة نمائها وعلاجها والمناخ الذي تنمو به والجهة التي تقصد بها عند كل فصل من فصول السنة، فلاحظت أن هناك عبارات وأساليب بلاغية تنحت من المناخ الجغرافي للمتكلم وتنتج النكتة المتواضع عليها بين المجموعة التي تسكن وتألف ذلك المكان وهي ما يسمى بلاغة محلية. وتبدو الملاحظ الأساسية التي نريد أن نناقشها هنا هي علاقة بلاغة أهل بلدة ما بتضاريس تلك البلدة هل للتضاريس الجغرافية تأثير على النكتة والخفة في كلام الناس؟ فإذا كان من الجلي أن الأغذية تساهم بدور كبير في بناء مزاج الانسان، فليس من المستبعد أن تكون التضاريس والمناخ كذلك تؤثر تأثيرا مباشرا على كلام الانسان وبلاغته، فإلاّ تكن سببا أساسيا في بناء مزاجه وفهمه فهي قطعا من الظروف التي تضع ثقلا في تكون فطرته وسلاقته وبلاغته.
فلكل جهة من جهات موريتانيا بلاغتها الخاصة والتي تميزها ثقافيا ومحليا عن غيره من البلاد، حيث تلمس في بعض الجهات جمالا لغويا صارخا تعلوه مسحة صوتية غريبة وتشعر وكأنها مفتعلة، بينما ترافق النكتة رطوبة معنوية في بيئة أخرى ..تنحو البلاغة منحى آخر يتناسب مع طبيعتها المناخية وتضاريسها، حتى أنك تظن أن النكتتة تتأثر بقساوة الحجارة تماما كما تلين مع لين تراب الكثيب وتكون أكثر ضبابية في الغابات والأشجار الملتفة على بعضها، كما أن البلاغة أو النكتتة على الأصح تخضع في بعض الأصقاع للثقافة المحلية وتوجهه منظومة العادات والتقاليد ويتأثر بجملة من الأبعاد والاعتبارات لا علاقة لها بسياق المتكلم، إلا أن طابع المناخ يبقى راسخا وحاضرا بقوة في صميم بناء النكتة وتشكلها.
وفي بعض الجهات تلمس أن لهجتك الحسانية الأصيلة مازالت على قيد الحياة ولم تندثر فعباراتها الغريبة وأساليبها التليدة مازالت في متناول المعبر وتلمس روح اللهجة في نثر الكلام وفي مختلف ميادين الحياة وخاصة عندما يدور الحديث حول الابل وأحوالها وتنميتها وسنينها وأوصافها وأوقات مرعاها. بينما كنت أعير أذني لمجلس من أهل البادية لاحظت أنه يمكن أن نجد علاقة دفينة بين المناخ والتضاريس لكل مكان وبين بلاغة أهله وأن ما يضحك الناس التي تسكن بين الكثبان ليس محل النكتة عند من يسكن بين الكدى وتحيطه الحجارة وليست بلاغته كبلاغة من يسكن في الغابة تحفه الأشجار العظيمة، ويصحو على زئير الأسد وينام على عواء الذئاب.
ووجدت أول مظهر من مظاهر تأثير المناخ في النكتة هو استحواذ المكان جملة على البلاغة وانطباع النكتة بالمعجم الطبيعي الذي ولد به الانسان وبلغ به سن التمييز لقيمة الكلمات التي تجمعه بأبناء جلدته، حيث نرى معجم الشعراء الجاهلين في باب الوصف مطبوع عند المبالغة بعالم الطبيعة الخالصة، خلافا لما نسمعه اليوم من مبالغة في شعر الذين عاشوا الحضارة ولمسوها بأيديهم فكثيرا ما يأتي التشبيه من عالم مألوف عند الشاعر بل من ذلك العالم الذي يستحوذ على ذهنه أكثر من غيره. وقد لا حظت كذلك أنه كلما ابتعدنا عن حياة المدينة والحضارة كل ما عاد للغة ألقها وصفاءها و صفت من الشوائب والزوائد وثقل اللسان وأصبحت أصواتها تخرج بقوة أكثر.
ديدي نجيب
أحسنت ديدي دراسة سوسيو جغرافية جيدة