حاولنا في الجزء الثاني من البحث المتعلق بحضور العيد في الأدب العربي، استنطاق جملة مفيدة من النصوص الشعرية الشنقيطية، من أجل التعرف على عادات الموريتانيين في الأعياد، فـمنذ دخول الإسلام إلى هذه الربوع ، وأهلها يحتفلون بالأعياد الشرعية؛ كالفطر، والأضحى، وعيد المولد النبوي الشريف. وهي أيام فرح وسرور تلبس فيها الزينة، وتقام لها الولائم، ويتبادل الأصهار الإكرام والاحترام، ويحضر الأزواج، ويعد تخلفهم -إلا لعذر- استهانة بالزوجات. وقد أنشد أحد الأدباء في ذلك:
يَلاَّلك يَـحدْ فَـــطْرَكْ *** راهُ شرگْ افْمالْ
وفْبوتلميتْ حَصرَكْ *** تِـــــتـــگارأرحَّــال
وقد أشار أيضا إلي ذلك التأخر الشاعر الإيجيجبي محمد باب بن سعيد في أبياته التالية:
أهلا بشـــهر ربيع الخــــير من عيد *** شهر الضياء و إنجاز المواعيد
عسى به الشيخ أن يلفى يقربني *** قربا يصيرني أقصى الأباعيد
كما يحتفل الشناقطة بعيد المولد الشريف، أو يوم سابعه، فيكثرون فيهما من الصلاة على الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويتدارسون سيرته وشمائله، كما يقرؤون المدائح، ومن أشهرها قصيدة الشيخ سيد محمد بن الشيخ سيديا (ت 1869 م)
أهلا بصاحب هذا المولد النبوى***مُقَابَلِ الطرف الأمي والأبوي
ينتهز الموريتانيون فرصة الأعياد، للتزاور والتواصل والتسامح، فيدخل الرجل بيت الجار الجُنُبِ والصاحب بالجنب، مهنئا وطالبا التحلل من حقوق الجار الكثيرة، ورغم أهمية هذه العادات في نشر روح التسامح بين أفراد المجتمع، إلا أن الشيخ سيد أحمد بن سيد عثمان الغلاوي، أفتى بعدم حليتها عملا بقاعدة: “درء المفاسد أولى من جلب المصالح” فقال:
يا طـــالبا بالوصل نيل الأجر *** ليـس بوصل العيد غير الوزر
أما دخـول الدور يوم الفطر *** فلـيس ممـدوحا بــهذا القطر
لأنـــــه يــــوم تـبرج النسا ***ومــــن يــبحه لــلورا فقد أسا
ومن تعظيم الشناقطة للأعياد الشرعية، أنهم كثيرا ما يبرمجون مناسباتهم الاجتماعية بالتزامن معها، وقد يطلقون أسماءها على مواليدهم المزدادين فيها، وكذلك حال الأشهر القمرية التي تحل فيها؛ فشوال وذو القعدة يسميان “لفطار” وذو الحجة العيد، أما ربيع الأول فهو المولود، يقول الشريف الأديب الشيخ الولي بن الشيخ يب في نصه الشهير:
لَـــفْطَارْ اعْليَّ جاوْ دونْ***أهلِ هُومَ والعِيدْ هَوْنْ
وَ آنَ مَـاعَــزْمِ كِنْتِ كُونْ***تـــلْ انــــــــعــــيَّدْ لُلالِ
ذ العام الِّ مـــافيهْ هونْ ***خـصّر هـــمِّ مــن تالِ
ومن باب التورية بألفاظ العموم من الفقه، تأتى أبيات الشيخ محمد عالى بن زياد الأبهمي (ت 1359هـ) ، التي ورى فيها بحرمة صوم يوم العيد، وندبية صوم النصف من شعبان، من خلال استخدامه لاسمي رجلين أكرمه الأول وهو “العيد” وقصر الثاني “شعبان” في حقه فقال:
لله حـــــكم عــــلى الأيام مختلف*** فـمنه مـاهو ممنوع ومطلوب
فحرمة الصوم يوم العيد لازمة *** ويوم شعبان فيه الصوم مندوب
ومن ذلك الباب أيضا، قول القاضي الأديب محمذن بن محمدفال (اميي) ، وقد أجاد في مراعاة النظير:
كِنْتْ أَمْنَادِمْ مُفِيدْ *** غِيـــرْ أثْرَكْ عِــتْ اتْزِيدْ
أيَّامْ الفِـطْرْ ابْعِيْد *** يَـــخَيْ امْـــنَيْنْ أُفَــاوْ
وُفَاوْ أَيَّـامْ العِــيدْ *** وَ الْـــعِيدْ أهْــلُ مَاجَاوْ
كما أجاد الأديب المختار بن ملاي إعل، في “التلميح” بلفظ العيد بقوله:
فِـنْوَيْ أُبُجَدْعَاتْ *** تِخْــلاَطْ انْـــزَيْلاَتْ
فيهُمْ وَحْدَ غّلاَّتْ *** إِعْلِيَّ جَـمْعْ الْغيدْ
وِالْعِـيدْ أَرَاهُ فَاتْ *** اعْلِيَّ هَوْنْ ابْعِيدْ
وِمْـــعَاهَ يَلْجَلِيلْ *** مِتْــمَنِّ كِنْتْ الْعِيدْ
يَكْبَـظْنِ وِابَّيْلِيلْ *** وِمْبَارِكْ وِمْسِيعِيدْ
دائما يكون العيد مناسبة لرفع قيمة الاستهلاك والصرف، ومن الطريف أن هذا التلازم لم يخص التقاليد الموريتانية فحسب، بل تعداها إلى المتون المحظرية، فها هو شيخ النحاة محمد بن مالك (ت 672 هـ) يجمع بين الصرف والقيمة والعيد في ألفيته الشهيرة ، حين يقول في باب التصغير:
واردد لأصل ثـــانيا لينا قلب *** فقــــيمة صير قــويمة تصب
وشذ في عيد عــييد وحتم *** للجمع من ذا ما لتصغير علم
تتحد مختلف المناطق الموريتانية في مظاهر الاحتفال بالأعياد، فبعد الصلاة يخرج الرجال لصلة الأرحام والتزاور، كما يبدأ الأطفال التسكع في الشوارع، مرتدين ألبستهم الجديدة الجميلة، وربما قضوا اليوم في مكان واحد، حيث يمولون وليمة العيد، بما طالهم من هدايا الكبار المعروفة محليا ب “انْديونَه”، وهي كلمة ولفية تطلق على الدعاء الذي يعقب صلاة العيد. يقول صديقنا الأديب المبدع باركلل بن دداه:
امْبَارِكْ الْعِيدْ وَ السْمَاحْ لَعَادْ *** مَطْـــــلُوبْ رَانَّ سَـامْحِينْ
وِ انْدَيونِــتْنَ عَاطْــــييِنْهَ زَادْ *** مَانَّ بَاخْلِينْ لِلنَّاسْ كَامْلِينْ
أما الفتيات فيخرجن غالبا في حلل من “النيلة”، خاضبات أطرافهن بالحَنَّاء، متضمخات غير متبرجات، يقول الشيخ امحمد بن احمد يورَ (ت 1340 هـ) في مقدمة غزلية:
لم أصب للظعن إذ يحدو بها الحادى *** كلا ولا العود عند الشادن الشادى
ولا إلـــــى الغــــيد يوم العيد بارزة *** وقـــد تضـــــمخن بالهندي والجادى
و من المعهود في بعض مناطق الوطن، تنظيم حفل فلكلوري بمناسبة العيد، يطلق عليه “طبل العيد”، يقول أحد أدباء لبراكنة متعجبا من تقدمه في العمر:
سُبْــــحَانكْ يَالحَيْ المَجِيدْ *** مَانِ لَكْ مِنْ فِعْلكْ شَاكِ
عِتْ آنَ نَسْمَعْ طَبلْ العِيْد *** تــَــاكِ وِ انــْــتَـــــمْ الاَّ تاَكِ
تبدأ تحضيرات الحفل بعد العصر ويبلغ أوجه مع غروب الشمس، حيث تتعالى أهازيج الفرق الفنية، ورقصاتها الشعبية… وتصور لنا الأبيات التالية للشيخ الأديب أحمدُّ بن اتاه بن حمينَّ ، التناغم الجميل بين الراقصات:
غــوان بيـــوم العــيد تضرب بالدف *** و تضــــــرب في تَفنانها الكف بالكف
و ترقص في الميدان في ميلانها *** لذا العـــــطف في آن و آن لذا العطف
و يضربها الحلي الذي في قرونها *** على الخد في ذاك التثني على لطف
يغنـــــــــــين وَفقا في رخاء و شدة *** لضــــــاربة الطـــبل الرئيسة للصف
أما الشاعرمحمد محمود بن المصطفى العلوي (ت 1363هـ)، فقد صوب عدسته نحو الجمهور وصور لنا مشهدا حيا عاشه على هامش “اللام” فقال:
و غانية حســـــــناء في جـــانب الدف *** تتـــوق لها الفـتيان من فرج الصف
فلا هي ممن يحسن الرقص و الغنى *** و لا هي ممـــن يضرب الكف بالكف
كشفت حــــجاب الستر بيني و بينها *** و لا عيب في شيخ إذا كان ذا كشف
كما صور لنا الأديب أحمدُّ بن منوا اليدالي، مشهدا نادرا، اغتنم فيه فرصة تركيز الحضور على فقرات الفلكلور، من أجل استلام تذكار من يد إلفه، دون أن يشعر أحد الحاضرين بذلك فقال:
عَنْدْ الْلَامَ فَيــــَّامْ الْـــعِيدْ *** مَلْكَـانَ فِــمْراجِعْ سَعِيدْ
مَا نَنْسَاهُم دَهراً وِالصّيْدْ *** عَنْدِ عَــــنُّ مَا يَنْسَ ذَاكْ
لَعَادْ إلِّ كِـــيفِ وِالْكَــــيْدْ *** إِلِّ بِيهْ اكْبَظْتْ الْمِسْوَاكْ
مَا نَنْــسَاهْ أُمَــدِّتْ لُ لَيْدْ *** مَا نَنــــْسَاهَ كِيفِتْ مَلْكَاكْ
عادة ما يكون يوم الزينة موعدا لاختيار المرأة التي “ستشيل رأس النعامة”، وهي عبارة ذات دلالة جمالية؛ وتعنى حياز قصب السبق في الأناقة والأنوثة، أما أصل اشتقاقها؛ فيرى البعض أنه متعلق؛ إما بسرعة النعامة، أو في علو رأسها لطول رقبتها، وقد قيل فيه غير ذلك… ويلعب الأدباء البارزون دور المحكمين، ويعلنون اسم خاطفة رأس النعامة، من خلال نص شعري، تتلقفه القيان وتسير به الركبان، وتوجد نتف جيدة في ذلك اللون الأدبي، لدى بعض الثقافات العالمة. يقول الشيخ محمذ بن أحمد العاقل رحمه الله (ت 1281هـ) في ذلك المعنى:
رأس النعامة في أحياء ديمانا *** يمش الهوينا على أحقاف بلشانا
ويقول الشاعر المجاهد سيدن بن أحمد الشيخ الوافي الكنتي – حفظه الله- في إحدى قصائده يذكر بطحاء “تَلْمَدِ” الموجودة في مدينة الرشيد:
وشالت نـــــعام الغيد بالثغر والخد *** من النســـوة اللائي أقمن بتلمد
ويقول شاعر آخر وقد أجاد في حسن التعليل:
لقيت في الواد يوم العيد غانية *** شـــــــالت لرأس نعام الغيد والرقبه
وقد رمتني بسهم لا مرد لــــه *** والرمي في العيد قد خصوه بالعـقبه
ولأحد الشعراء الفاضليين رأي في عيد التاكلالت عبر عنه بقوله :
رأيت فتاة الغيد في العيد شالت *** على ربرب البتراء رأس النعامة
وقد عبر الأديب الأريب امحمد بن شماد، على طريقته الإيگيدية عن وجهة نظره فقال:
امج للامَ عِـــــــمْرانَ *** وگفِـــتهَا هِي لگصيَّ
كِيفْ الْفاتْ عليَّ وَانَ *** وَ لله مَـــافَاتْ إعْليَّ
ينتهز التجار فرصة الأعياد، فينزلون إلى الأسواق موضات جديدة من الألبسة ، تتلون أسماؤها حسب مستجدات الساحة الإعلامية و الأدبية، وقد شاعت موضة “الشارع” الشفافة، في الشوارع مطلع السبعينات، فلم يفوت الأدباء العلماء اقتناص فرصة التسمية، فأبدوا وجهات نظرهم حولها، يقول الشيخ المختار بن حامد رحمه الله:
تجـــول الغـــادة في الشارع *** يذهــب من جمـــــالها البارع
إذ تـــذرع الشـارع مـــــختالة *** في مشيها كالفارس الفارع
لا هي بالمروءة استمسكت *** و لــم تـــراع أدب الـــشــارع
وفي نفس السياق، كتب القاضي الأديب محمدن بن شماد رحمه الله، النص التالي وقد أجاد في الجناس التام والمتمعن للنصين يرى أنهما في غاية الانسجام.
الشَّارِعْ حَــرَّم فَاتْ البَاسْ *** الشَّفَافْ إعلَ بَعْضْ النَّاسْ
وَانَ بـَـــعْــدْ ولانِ قِــيَّاسْ *** بـِـيَّ گـــاعْ الْ مَـانِ بَـــارِعْ
فالحُـــكْمْ أُ لاهُ مَـاهِـباَّسْ *** مَخْبـَــــرْنِ فَحـْكَامْ الشَّارِعْ
گِدْ اللِّي نَعْرَفْ عَنْ لَرْيَامْ *** اللٍّي تِسَّــدّرْ فِالـــشّـــَارِعْ
فالشـَّــارِعْ تَحَدِّي لَحْكَامْ *** الشَّارِعْ وَ آدَابْ الشــــَّارِعْ
وفي موضة حلي قادمة من السنغال تعرف بالمقداد، يقول الأديب الأريب ول محمد العبد:
كِثْرُ لِمْــــــقادِيدْ افْذ العِيدْ *** افرَگـــــبتْ كِلْ امْرَ مِقدَاد
أكْحَلْ غِيرْ أكحَلْ لِمْقاديدْ *** مِقدادْ افرَگبتْ مِنتْ أجْدَاْد
بقلم الباحث: يعقوب بن عبدالله بن أبُن
يتواصل إن شاء الله
في الجزء الثالث من هذا البحث سأعالج حضور العيد في كنانيش شعراء الشناقطة
تعليق..
يعتبر هذا النص الذي بين أيدينا دراسة ثقافية عميقة وثرية لجملة من الظواهر الثقافية والاجتماعية يجمعها سياق مشترك هو مناسبة العيد.
وذلك من خلال ديوان شعر شامل جمع بين النص الفصيح والأدب الشعبي المتواتر في بيئات مختلفة.
وقد وفق الكاتب في إثراء موضوع بحثه من خلال تركيزه على النصوص الأدبية باعتبارها مصادر موثقة لجمع شتات الظاهرة المتفرقة والمتشتتة في مختلف المكامن التراثية والمراجع الأدبية الخاصة والعامة
بدأ الكاتب نصه بتمهيد تاريخي أطلع من خلاله القارئ على مبادئ الاحتفال بالأعياد باعتباره ظاهرة اجتماعية ومناسبة ثقافية وصولا إلى العادات المحلية التي واكبت الظاهرة، مركزا على الجانب الثقافي والأدبي للظاهرة.
كما استطاع الكاتب إبراز أهم المحطات الأدبية التي واكبت ظاهرة العيد من خلال ثقافته الواسعة وذلك بأسلوب سلسل اتبع من خلاله منهج الجرد والتداعي، متكئا على ثقافة شاملة واستطراد شيق. وقد حاول الكاتب جهده أن يواكب جميع المتلازمات المحلية بالعيد وكل ما يتعلق به بأدلة أدبية ناصعة ومتواترة، فما كان مثله إلا كمنقب عن معدن قيم، أو كباحث في علم الآثار يخرج الآثار التليدة الضاربة في التاريخ للاستدلال على بعض الظواهر العافية من حضارة تكاد تختفي. وتبقى القيمة الثقافية التي يحملها هذا النص هو تميز موضوعه وثرائه وسلاسة فروعه، وندرة من يلتفت إليه من الكتاب لما يتطلب من موسوعية وطول باع.