يقول الباحثون إن الرثاء كان فى أصله تعويذات تقال للميت على قبره حتى يطمئن في لحده ، ثم تطور وتحول عندهم إلى بكاء ونواح وندب إضافة إلى تأبين الميت والإشادة بخصاله.
ويعرف بعضهم الرثاء بأنه بكاء الميت، والتحسر والتفجع عليه، وذكر محاسنه والتغني بأمجاده وخصاله الحميدة. وهناك كلمتان كثيرًا ما تستعملان فى معنى الرثاء هما الندب و التأبين، لكننا إذا أمعنا النظر وجدنا أن التأبين هو الثناء على الشخص بعد موته ، والندب بكاء الميت والنواح عليه والرثاء أعم منهما.
ويحتفظ لنا ديوان العرب بتراث ضخم من المراثى تميزت كلها باللوعة وحرارة العاطفة لاسيما مراثي الشعراء الذين تربطهم وشائج القربى والرحم مع المرثي.
ويتفق أهل العلم بالشعر العربي على أن مرثية أشجع بن عمرو السلمي لعمر بن سعيد حفيد الفاتح قتيبة بن مسلم تعتبر الأحسن فى هذا المجال والتي يقول فيها:
مضى ابن سعيد حين لم يبق مشـــرق***ولا مغرب إلا له فــــــــيه مادح
وما كنت أدرى ما فواضل كـــــــــفه*** على الناس حتى غيبته الصــفائح
وأصبح فى لحد من الأرض ضــــيق***وكانت به حيا تضيق الصحاصح
وما أنا من رزء وإن جل جـــــــازع***ولا بسرور بعد موتـــــــــــك فارح
لئن حسنت فيك المراثي وذكـــرها***لقد حسنت من قبل فـــــيك المدائح
كما يتفق أصحاب الذوق والنقد في إكيد، على أن مرثية العلامة والمؤرخ المختار بن حامد للشيخين محمد صالح “انَّنَّ” أحمد سالم “الشَّاهْ” ابني محمد سيديا الأبهميان ،تعدُّ من عيون المراثي فى هذا القطر ومنها:
ستبكيك يا هذا الحبيب المبــارح ***وأنت إلى بير السعادة رائـــح
عشائركان فيها فعلك صــــالحـا *** كما اسمك فيها يا محمد صالح
وللشاه فى معنى المعالى وجاهة***يخف لديها الراجحون الجحاجح
وما كان فى الصنوين مسلك علة***ولا فيهمُ فيما علمـــــــــنا قوادح
ودائما تكون وفاة أحد الأعيان مناسبة لصدور ديوان يتكامل فيه الفصيح والشعبي ويتبارى فيه الشعراء فى اشتقاق الصور الأكثر تعبيرًا عن حجم الخسارة وعد خصال الفقيد والدعاء له ولخلفه.
وقد فقدت موريتانيا منذ أسابيع قامةً علميةً باسقةً قل نظيرها بوفاة العلامة بدِّ بن الشاه بن محمد سيديا بن الشيخ أحمد الفاضل الأبهمي رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته. عن عمر ناهز الستين عاما كانت ملأى بالعبادات والصدقات، والسعي في تحصيل الحسنات، والدراسات في الأمهات والمتمات، وحسن تسيير الإدارات ونكران الذات، والتعليم وكثرة التقييدات…
وقد انتدبت لرثائه مجموعة من شعراء عشيره من مختلف المشارب ،منهم العلماء الشعراء كالشيخين عبد الرحيم بن أحمد سالم ومحمد لزعر بن حامد، والأدباء الشعراء كا الأستاذين محمد فال بن محمد محمود و محمد صالح بن امد والشعراء الشباب من خلال الشاعرين سيد محمد بن ححام الملقب “إيد” وعبد الفتاح بن محمد سالم و الدكتور محمد فال بن امين بن الداهى وغيرهم ..
وقد وجد هؤلاء الشعراء كمًّا هائلا من الخصال الحميدة ، وكيفا طائلا من الفعال الحقيقة التي قلَّ أن نسمع بمتصف بها فى عصرنا- اللهم إلا إذا كان في الكتب -، وقد اتحدوا فى عدها والتنويه بها، لكنهم اختلفوا فى كيفية التعبير عنها وهو ما وجدته مناسبة لكتابة هذه المقالةبهدف التعريف بالرجل – مع أنه غني عن التعريف- من خلال مراثيه.
وقد توصلت شخصيا بثمان من مراثيه ، ثلاث منها من بحر الخفيف واثنتان فى بحر الكامل واثنتان من بحر الوافر وطويلية واحدة. وقد وفق الشعراء فى اختيار هذه الأبحر لأن حسن المرثية يكمن دائما فى تناغم موسيقى الكلمات، فكلما كانت إيقاعات الكلمات مديدة وطول النفس طويلا، تمكن الشاعر من التعبير عن مشاعره بصدق وعفوية.
ومن ناحية أخرى فأسماء البحور المختارة هي جزء من صفات الفقيد فقد كان طويل النجاد رفيع العماد ، كامل الدين والمروءة، وافر الأخلاق والإنفاق، خفيف الظهر من حقوق الخلق.
أما من الناحية البيانية،فقد وظف الشعراء الصور البلاغية القائمة على التشبيه والإستعارة والكناية ، وأغلب تلك الصور مستمدة من محيطها ومرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحدث الجلل الذى من أجله نظمت هذه النصوص.
نفتتح هذه المراثى بمطلع قصيدة الشاعر عبد الرحيم بن أحمد سالم حيث تفاعلت الأحاسيس النفسية مع المحسنات اللفظية يضاف إلى ذلك حسن انتقاء العبارات والتوفيق في اختيار الروي كعادته وكيف لا وهو جذيلها المحكك وعذيقها المرجب, حيث يقول:
أسى فى القلب ضاق به حشايا ***يٌــقِض بِيَ الأسرة والحشايا
خبا منه لدى الظلماء ضــوئى***وصم له غداتــــــــئذ صدايا
لموت المرتضى بد المــــفدى***عديم المثل معطـــار السجايا
وقد أجاد فى قوله:
وما تغنى قوارير الأطبا ***تغالبها مقادير الــــــــــمنايا
علمنا أنه المقدور حـــق***وأن النفس من بعض العرايا
ثم يضع الشاعر المهندس المعماري المخطط السردي لخصال الفقيد لمن سيرثى بعده فيقول:
مقارنة النصوص لها تصــدى*** فلخصها وقربها سبـــــــايا
وأحرز من علوم الشرع حظا*** تسار لمثله فينا المـــــــطايا
فأصبح فيه أغزرنا رصـــــيدا***وأعرف بالمغازى والسرايا
وأعلى فى مجال الفــقه قدرا***وأشمخ من جبال الهمــــــــلايا
ولا يخفى كيف انسابت الهملايا فصارت كرضوى وسلمى ويذبل وسلع …
أما العالم الشاعر محمد لزعر بن حامد فقد كان يسر له الفقيد بما لا يسر لغيره وقد تجلى ذلك فى قوله:
ورع قل مثله الـــــــــــيوم فى النا***س وزهد ما مثله أي زهـــد
حافظ العهد صــــادق الوعد دوما***مخلص الود لم يشبه بحــــقد
حافظ للكـــــــــــــــــتاب يتلوه آنا*** ء الليـــــــــالى بقـــوة وبجد
فلما فيه من حروف مــــــــــــقيم***ولما فيه من حقــــوق مؤدي
ضبط الفقه والعقـــــــــيدة والنحــ***و وعلم اللــــغى برسم وحد
وارتقى فى الأنساب والسيرة الغر***را وعلم الحديث أرفع سد
وله فى الأصول باع طــــــــــويل***وله فى قواعد الفقه أيــــــــدي
ولننصت إلى الأستاذ الشاعر محمد فال ولد محمد محمود وهو يقدم درسا من الخصال النادرة:
مضى بد شهما سيدا شأو علمه***بعيد مداه نوره ليس يحــــــــجب
تناهبه التحقيق والفضل والتقى***وصــــدق قويم نهجه ليس يغلب
وفي الله لم تأخــذه لومة لا ئم ***صبور وقور أريحي مهــــــــذب
وديدنه نسك وصــــوم وعــفة***فما كان إلا ناســــــــــــكا يتقرب
ويعجبه عيش الخمول وسمته***وهيهات يخفى المسك والعرف طيب
ويوضح الشاعر محمد صالح بن امد تسلسل تلك الخصال إليه من الجيل السابق له فيقول:
كنت رمزا من ضمن جــــيل تولى***ذهبــــــــي قد فاق نبلا ومجدا
إذ تواصوا بالحق والصبر والإخـ*** لاص والعلم والمروءات عهدا
وعليها عضضت ما صدك السعـ*** دان عن نهــجها و لا صد صدا
ملتقى رافدي عـــــــــــلوم وتقوى***وصــــــــــــلاح وقد أمداك مدا
وإليها ضـــــــممت فهما وتحصيـ***لا ودرسا موفـــــــــــــقين وجدا
وهذا الشاعر سيد محمد بن بد يتواصل مع مكتبة الفقيد فتبث إليه ما عانته بعد غيابه فيقول:
شمس الدجى غابت فكان مغيبها***فيه لشمس الخــــــيرين غياب
ندبتك أحزاب الكـــــــــتاب وآيه***ومن المساجد يندب المحراب
كان الكتاب جليسك الأغلى أما*** أغلى جليس فى الزمان كــتاب
هذا خليل ميسر وموضــــــــح***هذا شهاب الدين والحــــــطاب
وعلى نفس الطريق استعار له الشاعر عبد الفتاح ولد محمد سالم أسماء بعض الكتب فقال:
نفح طيب قد كان كان المربي***حلة سيرا وتفســــير بدي
راعي المجد منشد الحال دأبا**** من يكن فزده فذلـــك فزد
ويسن الدكتور محمد فال بن امين قانونا للناعي يفصل فيه كيفية النعي ونوع العبارات فيقول:
تريث أيها الناعــــــى وهد***فما أنا للنعــــــــاة بمستعد
تخير من عبارات التعازي***ولا تك بالعنيف المستبدي
وحدثـــــني برفق عن فقيد*** تميز بالهــــــداية والتهدي
مآثره ترددها الثــــــــكالى*** وأيتـــــــــــام لهن بكل ود
ويتساءل متسائل آخر عن كيفية العزاء فى هذا العلم ثم يتخلص بعد ذلك إلى الدعاء له قائلا:
كيف العزاء وقد مضى عنا العلم ***هل بالدعا أم بالبـــــــكا مما ألم
لا للبكـــــــــــــــاء ولا هنا ناهية*** عن منــــــكر بل للدعا قلنا نعم
فالله يرحم بد وليدخـــــــــــله فى ***جــــنات عدن أكلها لا ينصرم
وليــــــــــفترش سررا بها موضونة*** فيها يكون مع الكرام من الأمم
فلكم جنى من سيـــبه من معتف***ولكم أفاد بلادنا مـــــــــــما علم
ورع صدوق خـــــافظ ومؤلف***كانت خواتم عمره عند الـــــحرم
يعقوب بن عبد الله بن اليدالي
رحم الله العلامة بد لقد كان زاهد سيان عنده الذهب والحجارة
مقال رائع ، رحم الله السلف وبارك في الخلف
بارك الله فيك أخي العزيز يعقوب.
عرض جميل وقراءة ممتازة لنصوص المراثي ولا غرو.
شكرا جزيلا على نشر مقتطفات من هذه المراثي التي تعطي للقارئ فكرة عن مدى المصاب الجلل الذي ألم بنا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
رحم الله الفقيد بد رحمة واسعة وبارك في الخلف أجمعين
أحسنت يايعقوب
وبالفعل بدي رحمه الله يستحق منا أكثر رحمه الله وجزاه عنا أحسن الجزاء