نتحف متصفحي موقع أخبار انيفرار، بمقامة جميلة، وصف فيها الشيخ محنض باب بن اعبيد (ت 1277 ) فصل الشتاء وما يرافقه من البرد ؛ من خلال التورية ببعض مصطلحات الفنون المطروقة في المحاظر الشنقيطية، من فقه وأصول وحديث ونحو وبيان ومنطق وكلام… ولا غرابة في ذلك فالشيخ عالم كل فن كما يقولون. وقد اعتمدنا على نسخة، أتحفنا بها الدكتور سيد أحمد بن الأمير جاء في مقدمتها أن الشيخ محنض باب أنشأ المقامة لما نسخ مقامات الحريري.
نص المقامة
حكى المبرد عن الفراء، قال : بينا نحن بمدرستنا الغراء، المبيحة بسِر السَّرَّاءِ، الجامعة أفنان الفنون بأصولها، المحيطة بأبوابها وفصولها، إذ دخل علينا الشتاء في برده الأغبر، ومعه جنده الأكبر، فتلقيناه بفاكهته، ورغبنا عن مفاكهته، لأنه رَقَمَ لَوْحَ الجو، ودَوَّنَ في صَحَائِفِ الدوِّ، وكَتَبَ بَابَ الإعتكاف، وما من كافاته كاف، وجد في درسه، وقرن يومه بأمسه، إلا أنه لبس بعض التلبيس، بدَوِيِّ ذلك التدريس، فأصبح الفقيه يُصَلِّي بكل كثيف، ولو لم يكن بنظيف، ويتنفل في الكنيف، وكاد يُقْصِرُ الشاهدُ، ويصلي القادر وهو قاعد، واختار الصائم التَّدفيَ عن البرد، والتدثر عن التهجد، واستباح الوصال، ولم يترقب الأسحار والآصال، وغدا الأصولي معلق الهموم، بتخصيص ما في البرد من العموم، يقيد مطلقيه ، بظاهر يديه، ولم يخرج إلى حَيِّزِ التَّجَلِّي، إلا إذا كان يصلي، ولا يسلك المسالك، ولا قَدْحَ عَلَيْهِ في ذلك، والمحدث لا يروي إلا عن ابن شهاب، ولا يروي إلا حديث أيَّمَا إهَاب، ويرجح الإرسال على الرفع، ولا يبالي بالإفتراء والوضع، ويكره الإخراج، ويعجبه الإزدواج، وأصبح النحوي مفترشا مِذْرَوَيْهِ، يفضل الكسائي على سيبويه، ويود الجر بالجوار، ويعجبه خَرَقَ الثَّوْبُ المِسْمَارَ، وَيجزم ببات وظل، ويرفع بليت ولعل، ويخلط في الشواهد، وينشد في المشاهد،
من يـــك ذا بــــت فهذا بتي*** مقيــــظ مصــــيف مــشت
لـــيت وهــل ينفع شيئا ليتُ *** لــيت شبـابا بوع فاشتريت
تنتهض الرعدة في ظُهَيْرِي *** من لَدُنِ الظُّهْرِ إلَى العُصَيْرِ
وقال البياني بمقتضى حاله، اللهم قنا شر البرد وأهواله، وأجْهَمَ هوَاؤُهُ، كان لون أرضه سماؤه، ينعكس تشبيهه من غير عار، ويستعير ولا يجد من مستعار، ويُقْعِي جُلوسَ البدوي المُصْطَلِي، وينشد للمشاكلة بيتها الجلي:
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه *** قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
ويكنى الكناية في قبة ابن الحشرج، ويعجبه المعنى المدبج، ويغلب اللف على النشر، ويُوَرِّي ولو بالعُشَرِ، ويردد بقدر الجَهْدِ، جُبَّةُ البَرْدِ جُنَّةُ البُرْدِ، وأصبح اللغوي باديَ الحَصْرِ والخَصْرِ، لا يعرفُ الصَّرَّ من الصِّرِّ، يتردد بين ضم الحُبْوَةِ، وكسر الحِبْوَةِ، ونَسِيَ أَمْثَالَهُ، إلا ضُغْثٌا على إبَّاَلةٍ، أَصْرَدُ من الحِرْبَاءِ، ومن العَنْزِ الجَرْبَاءِ.
وغدا المنطقي في تصويره، مندرجا في عنوان غيره، يكره قضايا السَّلْبِ، ويستنتج في مطالب السَّلْبِ، ينفر عن جهة الانتشار، ويتشوق إلى التَّسُوُّرِ فِي الأسْوَارِ، ويَغْبطُ الصُّغْرَى لاندِراجِهَا فِي الكٌبْرَى.
وغدا الكلامي يفترى في شِعَاره الأشْعَرِيَّ، ويود تغير البرد من حالة إلى حالة، ولو كان يستحيل الإحالةَ، يستطيل بقاءه، ويترقب فناءه، ويعجبه الجوهر المكنون، ويتمنى التحيز في الكانون، وتعجبه مِلة إدريس، ولا يعيب نار المجوس، يؤمن بالحشر، وينكر النشر، فقد لبس الشتاء المسائل، وجمد له كل فهم سائل، فلم تقاومه الأحبار الجهابذة، فما ظنك بالتلامذة ، فلما رأى القوم خافوا زمهريره، وتهيبوا صولته وهريره، أنشأ يقول، وقد شوش العقول:
أصبحت من خــــيلاء المــــجد في مــرح *** أجــــر فــوق ربى الكثبان أذيالي
أمـــــشـــي الهُـــوَيْنَا قرير العين مبتهجا *** أخــــتال بــين جنودي أيَّ مختال
قد أذعنت لي ملـــوك الأرض واختــضعت *** وطـــأطأت بَــــطَلَ الأقيال أقيالي
تـــراهــمُ إن أتــــى جـــنـــدى لهـــيـبته *** ما بين منـــقبض الأوصـال أو صال
أبــــطلت كـــــل حـــــواليٍّ وحـــــــيلتَهُ*** فــــليس يــــنفع منى حَوْلُ مُحْتَالِ
ولــــست أخـــشى رماحا أو أهاب ظُبى *** أودى بشـــائكَةِ الأَبْــطَالِ إبطالي
ولا أبــــجـــــل ذا جــــاه لـــــرتــــبتــه *** ولا أعَـــــظِّمُ إلا العَــــــالِمَ العــَالي
السلام عليكم. من أجل تمام الفائدة اقترح شرح بعض الإشارات الواردة في المقامة الشتوية