لقد كلفت في إطار عملي بوزارة الثقافة (و قبلها بوزارة التهذيب الوطني) بعدة مهام خارج الوطن… و تتشابه طبيعة تلك المهام : فهي في أغلب الأحيان مرهقة.
و تتطلب من الزاد ما لا توفر الجهة الرسمية منه إلا الجزء اليسير مع أنها لا تلتمس العذر و لا أحسن المخارج لمن لا يؤديها علي الوجه الأكمل.لقد كلفت في إطار عملي بوزارة الثقافة (و قبلها بوزارة التهذيب الوطني) بعدة مهام خارج الوطن… و تتشابه طبيعة تلك المهام : فهي في أغلب الأحيان مرهقة.
و تتطلب من الزاد ما لا توفر الجهة الرسمية منه إلا الجزء اليسير مع أنها لا تلتمس العذر و لا أحسن المخارج لمن لا يؤديها علي الوجه الأكمل.
و نتيجة لهذه العوامل، فإني أصبحت أكره الأسفار و ركوب الطائرة و طقوسها و الوجبات المعلبة التي تقدم بداخلها… و علي الرغم من ذلك، فإني كنت دائما أمني النفس بفرصة من هذا النوع تقودني إلي الديار المقدسة… و طال الانتظار و بدأ اليأس يأخذ مني كل مأخذ…
و أخيرا، تحقق الحلم بانتدابي ممثلا للوزارة في احتفالية المدينة المنورة، عاصمة الثقافة الإسلامية لسنة 2013… فظن خيرا و لا تسأل عن الخبر !
فما أن وطأت فدماي تلك البلاد الطاهرة حتى أحسست بشحنة من الراحة النفسية و بسعادة تغمرني و تنسيني متاعب الدنيا كلها… فانتعشت بعد رحلات جوية طويلة وبدأت أحلق في عالم من الذكريات و الافتراضات الجميلة…
و هكذا، فقد انشغلت باستعادة ما أتصوره عن تصميم مكة المكرمة التي كانت أولي محطاتي بعد مطار جدة… وأطلقت للخيال عنانه في إعادة تصميم المدينة : » من هنا، مر رسول الله صلي الله عليه و سلم و صحابته الأجلاء وهم يطوفون بالبيت الحرام… هذا لا شك فيه علي الإطلاق !… و هذه العمارة الشاهقة ؟ قد تكون رفعت محل أو بجوار البيت المبارك الذي ولد فيه خير البرية ص… و هذا الفندق الراقي، أتخيل أنه شيد علي أنقاض دار الأرقم ابن أبي الأرقم… أو في نفس المكان الذي استشهد فيه آل ياسر… «
و كنت أتساءل: » أصحيح أني أتجول هكذا في هذا المكان المقدس و أنا اسلك نفس الممرات ونفس الأزقة التي سلكها أبو بكر و عمر وعثمان وعلي و طلحة و الزبير و …
ليس بإمكاني أن أعبر عن شعوري و أنا أري بأم عيني هذا البيت العتيق، أولَ بيتٍ وضع للناس… نعم… لا مجال لوجود العبارات المناسبة لوصف هذه اللحظات التاريخية ! …
و من مكة المكرمة، ذهبت إلي المدينة المنورة، سالكا طريق الهجرة النبوية… و تسارعت دقات القلب و تزاحمت الذكريات و استحضرت كل ما قرأته في كتب السيرة النبوية و التاريخ الاسلامي وما قد سمعته من هنا و هناك … فلكل مكان قصته و من كل زاوية تفوح رائحة السكينة و رمزية المكان و الزمان : “المسجد النبوي الشريف – الروضة الشريفة – البقيع الطاهر – مسجد قباء، أول مسجد أسس علي التقوي – مسجد القبـلـتـيـن – جبل أحد – منازل الأنصار ” .
أجل، لا مكان أعظم من هذا المكان !… كنت أسير في كل الاتجاهات و أنظر باستحياء إلي تلك المعالم الإسلامية خجلا مما أعرفه في نفسي من تقصير في حقها… و لكن كيف السبيل إلي اليأس و أنا علي ثقة تامة من سعة رحمة الله و علي بعد متر أو مترين من قبر صاحب الشفاعة و الرحمة المهداة للعالمين ص ؟ إنها لحظات حاسمة في تاريخ أي مسلم !
لقاءات علي هامش المهمة
كان لمهمتي في السعودية جانبها الاجتماعي الهام لأنها مكنتني من لقاء أصدقاء طال العهد بيني وبينهم و كنت أعدُّ بعضهم من جملة المفارقين إلي الأبد… تلك هي الحال مع أخي و صديقي محمد الأمين ولد احميّـِــدْ الذي افتقدته منذ أربعين سنة… ها أنا أجده بالمدينة المنورة و قد تغلب الشيب علي لحيته الكثيفة و استوطن ما تبقي من شعر رأسه… و لكن ملامح وجهه ما زالت تفيض حيوية و ذكاء كما عهدته في القسم الغربي من دار أهل القرشي، أيام كنا تلميذين في أوائل الستينات من القرن الماضي، بمدرسة ابير التورس العتيقة…
لقد اختار محمد الأمين (بَا شِنْقِطْ كما يسميه السعوديون أي أبُ الشناقطة) أن يتفرغ لجوار “الحبيب” و وَدَّعَ من أجل هذه الغاية النبيلة أولَ أرضٍ مس جلدَه ترابها…
هنيئا لك يا بَا شِنْقِطْ ! فقد رزقت الشجاعة في سبيل الدار الآخرة و انتصرت في المعركة الأبدية ضد النفس و الشيطان…
و في جدة حيث قضيت ثلاثة أيام، كان لي الشرف و الحظ أن نزلت بدار الكرم وحسن الضيافة، دار السيد أدي ولد محمد سيديا الذي حدثني عن صفاته الحميدة كلُّ من زاروه في السعودية “و ما أخذت عليهم الكذب”…
إنه أحد أبناء المذرذره القلائل الذين استطاعوا الخروج من المحيط الضيق لاكتشاف فضاءات تمكنهم من تطبيق المعارف و المهارات التي منَّ الله عليهم بها…
كانت أيامي في دار أهل محمد سيديا أياما جميلة بكل ما في الكلمة من معني…
و في هذه الدار المباركة، تشرفت بصحبة رجل عهدته معلما في مدرسة انيفرار منذ ما يقارب عقدين من الزمن… هو الأستاذ محمدن ولد حامد الملقب الدَّنَّ، الجامِعُ لكل الصفات التي تجعل الضيف يرتاح لصحبته: لطيف، بشوش، لبيب، كريم…
لذلك، اخترت تأدية العمرة برفقته بدل تأديتها مع الوفود الرسمية (و كانت السلطات السعودية قد وفرت لنا كل ما يلزم للقيام بتلك الشعيرة في جو مناسب…) و لكني لم أرض أن أدخل المسجد الحرام محاطا بأبهة الرسميات…
صحبت الدنَّ و حسنا فعلت… و لم أشفق عليه إذ حمَّلته متاعب العودة معي إلي ميقات “الجحفة” و هو ما تطلب منا قطع 170 كلم علي طريق المدينة المنورة قبل الرجوع إلي مكة المكرمة… و كنت أسير كالطفل خلف دليلي و أطبق حرفيا كل ما يأمرني به بلطف و أنا واثق من أنه – كأي قادم من قرية انيفرار – أدري من أهل مكة بشعابها…
و في جدة كذلك، حظيت بدعوة كريمة من أخ و صديق لي لم ألتق به منذ أزيد من عشرين سنة علي الأقل… إنه الأستاذ محمد سالم ولد أحمدو ولد التاه الملقب ولد ألما الذي تربطني به علاقات أسرية عميقة و الذي أمطرني بالاتصالات عبر التلفون و عبر الفيسبوك منذ أن علم بأني قادم إلي المملكة السعودية… و تم اللقاء في منزله الفاخر في جو من الأخوة و صدق المشاعر و كرم الضيافة…
و من مدينة الرياض التي تبعد ألف كيلومتر من محل إقامتي، أصر صديقي آبه ولد توتاه علي أن يعبر لي عن ترحيبه بمقدمي و أن يعاملني كما لو كنا في بلدة واحدة.
وقد تشرفت كذلك بلقاء سعادة السفير الموريتاني في المملكة السعودية، الأستاذ أحمد ولد اباه الذي أحاطني بقدر كبير من العناية و رسخ في ذهني صورة للدبلوماسي الكفء المتفانى في خدمة بلاده بدون صخب…
فإلي هؤلاء جميعهم و إلي عمال القنصلية الموريتانية في جدة، أقدم شكري و امتناني… و رجائي أن ألقاهم في فرصة قريبة و في موسم الحج إن شاء الله…
و أسلم عليهم جميعا ومن خلالهم علي كل بقعة من تلك الأرض الطاهرة.
محمد ولد أحمد الميداح
منقول عن موقع المذرذرة اليوم [مهمة “منها عُمْرة وْ زيارَة”->http://mederdra.net/index.php/articles/1690–q-q]
و يبدو ايضا ان من المهمة ادب راق و ممتع
و يبدو ان منها ايضا أدب ممتع و راق
قبل أيام قام بعض الإخوة بنشر صورة لمدرسة ابيرالتورس العتيقة على الفيسبوك، و قد علق عليها الأستاذ : محمدْ بن الميداحْ مُعدِدًا بعض زملائه في تلك المدرسة من بينهم محمد الأمين ولْ إحميدْ، و بمجرد رؤية التعليق سالت تفسي : هل تسعف الأقدار يوما بلقاء بين الرجلين ؟ فإذا الأيام تجيبني :
و قدْ يجمعُ اللهُ الشتيتين بعدما °°° يظنان كل الظن أنْ لا تلاقيا
اما ما ذكره الأستاذ عن أدِّ بن محمدْ سسيديا و دنَّ بن حامدْ، فسلْ بذلك خبيرًا زار ذلك البيت مرات و لله الحمد :
نشيمُ بُروقهُ و نراهُ عينًا °°° و يخبرنا به الثقةُ الصَّدوقُ
من تعليق عز الدين ولد أحمد يور
هذا مقال يظهر قدرة الكاتب علي التعبير السلس الجميل. جزاه الله خيرا عن الوطن كله و عن أهل المذرذره خاصة.
جزاك الله خيرا
وتقبل الله الله منا ومنكم
شكرا لمحمد بن الميداح على هذه الصورة البديعة فلكأننا رافقناه. ولا غرو إن حركت مشاعره زيارة الأراضي المقدسة و موطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسرته عرفت بحب الرسول صلى الله عليه وسلم و مدحه حتى تسمت به ونرجو الله أن يتقبل منه ومنا