لقد أظلنا شهر رمضان المبارك وهو شهر تصفد فيه الشياطين وتضاعف فيه الحسنات وتعظم السيئات وتفتح أبواب الخير كله فالمحروم من حرم خيره، والراغم أنفه من مضى عليه هذا الشهر ولم يأخذ من خيره بالحظ الأوفر.
ولقد اعتاد مجتمعنا – ومعه الصواب- أن يظهر التوبة و الإنابة إلى الله والنزوع عن تعاطى ما حرم الله و الإقبال على تلاوة القرآن والذكر، وقد أدخل مجتمعنا في هذا الشهر عادات لا علاقة لها بالعبادات مباشرة إلا أن قواعد الشرع لا تمنعها بل اقتضتها ، وشأننا في ذلك شأن جميع الشعوب الإسلامية. ولعل من أحسن ما ابتدعنا فيه موسم الرمضانيات حيث يجلس الفقيه والطبيب تحت تصرف المواطن فيتلون عليه أحسن القول وسديد الحكمة.
ومن المفارقات الطريفة أن لفظ الفقيه والطبيب يرجعان في الحقل الدلالي إلى معنى واحد هو الفهم والحذق فالطبيب فقيه والفقيه طبيب.
إن هذه الرمضانيات بالإضافة إلى جانبها التربوي والإرشادي تعتبر بحق مربدا للعلماء، يتعرف فيها المجتمع على العلماء الجدد الذين يظهرون على الساحة ويطلع على ما يأتى به العلماء القدماء من نادر الفتاوى ودقيق الإجتهادات، ويتعرف على منحى كل عالم ومشربه من حيث التضييق والتوسيع على عباد الله والفهم لمقاصد الشريعة.
ومن الطريف كذلك أن نفس الأسئلة والنوازل يعاد طرحها كل سنة فيتلقاها علماؤنا برحابة صدر واستعداد تام دون ملل أو كلل مع أن كل معاد مملول . ومن الملاحظ أن غالب هذه الأسئلة تطرحها النساء مما يدل على أن نساءنا – و إن كن الهج بالسياسة- لهن عناية بشأن دينهن و لا يمنعهن الحياء من أن يتفقهن فيه.
ومن الملاحظ كذلك أنه في كل عام يسأل الناس الفقيه عن الأمراض التى تبيح الإفطار والفقيه لا علم له بشيء من ذلك فهو لا يمتلك في هذا الميدان إلا كبرى الشكل كما يقول المناطقة فيحيلهم كل عام إلى الطبيب فهو الذى يعرف هنا من أين تؤكل الكتف . وقد ائتمن الشارع الأطباء هنا ولو كانوا مشركين أو من ذوى الاستقامة النسبية.
و إذا كان الشرع قد نهى عن وعظ الناس إلا غبا لئلا يملوا – وكذلك كان يفعل عليه الصلاة والسلام و أصحابه من بعده- فإن علماءنا ودعاتنا قد تساهلوا في تطبيق هذه القاعدة الحكيمة بخصوص شهر رمضان فمنذ أن يهل هذا الشهر لا تكاد تفارق سمعك زواجر الوعظ ليل نهار، مما يجعلها في النهاية لا تثير لدينا أي شعور.
ومن عاداتنا الغير مقبولة إخلاد بعض الشباب والكهول إلى النوم نهارا تهربا من معاناة ألم الجوع والعطش فيفوت بذلك الكثير من الأسرار التى شرع من أجلها الصوم ، ومثلهم في ذلك من يسرفون في الأكل ليلا محاولين بذلك تعويض وجبة الغداء نهارا وقد علموا ما في ذلك من مضار صحية فضلا عن كون الحكماء من الأفارقة قد حكموا أن الغداء إذا فات لا يمكن قضاؤه أبدا لأن لكل وقت وجبة خاصة به واقتبس أهل التصوف من مقالتهم هذه إشارات بديعة في السلوك والمعاملات ، وكثير من أهل النيات الحسنة يتعاطون الإسراف في شهر رمضان بحجة أنه شهر لا حساب على مصروفاته يوم القيامة وهذا فهم خاطئ إذ المقصود الحض على الإنفاق في هذا الشهر و الإفضال على الفقراء والمساكين لا تعبئة الموائد يوميا بفاخر الأطعمة و الأشربة ليراها المفطرون ثم تصب بعد ذلك في سلة الزبالات. هذا هو الإسراف بعينه وقد قال أحد الخلفاء إنه ما رأى قط إسرافا إلا و إلى جانبه حق مضيع.
وسنرى إن شاء الله كيف ستتعايش الأرض والسماء في هذا الشهر المبارك ، وماذا يستطيع الشعراء خاصة فهم قوم لا تكاد تجد لهم ذكرا في هذا الشهر ، وهذا يدل على قوة الآصرة بين النبوغ الشعري والإيحاء الشيطاني ، وعلى صحة النظرية القديمة القائلة إن لكل شاعر قرينا يلهمه ما يقول.
ولعل غياب الشعر في رمضان يرجع إلى كثرة تلاوة الذكر الحكيم فهو كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، والتراويح تقام في كل مسجد و الحمد لله. ومن أغرب ما في أيمة التراويح أن بعضهم يقوم أمام الناس فيخطئ في قرائته ويغضب إذا أصلح له خطؤه ويحتج أنه لم يستطعم ولم يستفتح، وقد غاب عن المسكين أن الجماعة إنما نصبته هنالك ليسمعها القرآن و أن هذا وحده قرينة كافية لجواز الرد عليه إذا تلا شيئا غير القرآن، هذا فضلا عن كونه قد يخلط آيات العذاب بآيات الرحمة مما يجعل الرد عليه واجبا اتفاقا أحب أم كره.
و أخيرا هنالك مسألة لا بد من التنبيه عليها وهي أن كثيرا من الناس عندنا يتكلف الصوم بالرغم من نهي الأطباء وهو المسمى بصوم الجهلاء يأنف هؤلاء عن الأخذ برخص الله مع أنها تنقلب عزائم في حالات الضر الشديد ويحسبون أنهم على شيء وغاب عنهم أن الله الذى له الحكم قد يتعبدنا بالإفطار كما يتعبدنا بالصيام.
بقلم الأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف
نقلا عن كتاب : عيبة الشتيت بتصرف