لم يكن أحد يرافقني عندما دخلت مستشفى تنوه Tenon في باريس فجر الثلاثاء 14 ديسمبر 2010، حيث بدأت رحلتي بالقسم الإداري الخاص بإعداد ملفات المرضى الذين سيرقدون ليوم أو أكثر في المستشفى.
لم يكن أحد يرافقني عندما دخلت مستشفى تنوه Tenon في باريس فجر الثلاثاء 14 ديسمبر 2010، حيث بدأت رحلتي بالقسم الإداري الخاص بإعداد ملفات المرضى الذين سيرقدون ليوم أو أكثر في المستشفى.
سألت الموظف إن كان آمنا أن أترك مبلغا لدي من المال وأشياء مهمة بينها جواز سفري وبطاقتي الزرقاء وجهازا هاتف نقال، في الغرفة التي سأرقد فيها، حيث سأخضع لعملية إزالة انسداد في الأنف. فأجابني بأن الأمر ليس آمنا واستغرب أن لا أحد معي يمكن أن يحتفظ لي بهذه الأشياء.
والحقيقة أن لي بباريس أقارب وأصدقاء موريتانيين وغير موريتانيين لكنني قررت أن لا أخبر أيا منهم بالعملية البسيطة التي ستجرى لي حتى لا أزعجهم بعيادتي في هذا الجو الشتوي المثقل بالبرد والثلج.
لكن استغراب الموظف من قدومي وحيدا ذكرني بقوة بأنني سأخرج من الدنيا وحيدا، ففرض الأمر علي استحضار الموت والآخرة في جميع مراحل إقامتي القصيرة في المستشفى.
بعد استلام ملفي الإداري كان علي أن أمر بقسم الودائع حيث قامت سيدة طاعنة في السن بإحصاء أشيائي التافهة والصغيرة بجدية أشعرتني أن أشيائي مهمة وكبيرة.
عزلت السيدة -بإتقان تحسد عليه- الأوراق النقدية حسب فئاتها، وسجلت عدد كل فئة، وحسبت المجموع، وأعادت الحساب مرارا وكتبت نوعية البطاقة الزرقاء ورقمها ورقم جواز السفر ونوعية كل هاتف وعدد تذاكر للمترو كانت بحوزتي، وطلبت مني أن أوقع على نسختين من الجرد، وناولتني إحدى النسختين طالبة مني أن لا أضيعها فهي وسيلتي لاسترجاع وديعتي.
قلت في نفسي ها أنا أدخل المستشفى كما يدخل الميت قبره وقد ترك وراءه كل ما كان بحوزته من متاع الفانية، ولو أن ورثتي هموا بقسمة تركتي لما وجدوا أقدر على الجرد من مثل هذه السيدة.
في الجناح الداخلي لقسم الأذن والأنف والحنجرة، استقبلتني كبيرة الممرضات وذهبت بي إلى الغرفة رقم 19. فتذكرت وصفه تعالى لسقر في سورة المدثر(وما أدريك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر). لكنني لم أتطير بهذا الرقم فالمؤمن لا يتطير، وحمدت الله أن ذكرني رقم الغرفة بالنار حتى أتعوذ منها.
كنت في اليوم السابق قد زرت المكان وأخذت معي بوصلة لتحديد جهة القبلة. وكان السرير في الغرفة رقم 19 موضعا بحيث يكون المضجع عليه مستدبرا للقبلة.
لم أكد أدخل الغرفة حتى توالت علي الممرضات: واحدة تسحب الدم لتحاليل تريدها الطبيبة المخدرة، وثانية تقيس درجة الحرارة وضغط الدم، وثالثة تقوم برسم لتخطيط القلب، ورابعة تريد أن تتأكد أن هذا المريض هو فعلا أنا وليس واحدا آخر: ما اسمك، ومتى ولدت، وكم طولك، وكم وزنك؟ تلقي الأسئلة تباعا وهي تدقق في ملفي وقد اصطحبته معها.
أخيرا دخلت كبيرة الممرضات التي استقبلتني في البداية وهي تحمل قميصا طبيا أزرق رقيقا إلى أقصى حد، وعلبة خضراء فيها سائل بنفسجي اللون، وقالت لي: ادخل من فضلك في الحمام واستحم بهذا الصابون المعقم ومرره مرتين على جميع جسمك، ولا تنس شعر رأسك. وبعد الاستحمام ألبس هذا القميص الذي ستدخل به غرفة العمليات.
والحقيقة أنني رأيت في الأمر مراسم تجهيز الميت. أليس هذا غسل يتبعه كفن؟
خرجت من الحمام منكسر القلب ولم أكد أجلس على السرير حتى دخلت علي ممرضة أخرى تحمل ميزانا وقالت لي الآن (وقد تجردت من المخيط تقريبا) نريد أن نعرف وزنك الحقيقي، فإذا أنا أزن 71 كيلوغراما فقط بدل 75 التي أزنها عادة وأنا رجل عادي في لباسي العادي وحالتي العادية.
تمنيت من كل قلبي أن تكون أربعة كيلوغرامات هي مجرد الفرق بين وزني عند نفسي وعند الناس وبين وزني عند الله. وأدركت وأنا أنظر من نافذتي إلى العمارات الشاهقة في هذا الحي من باريس، وإلى السماء الملبدة بالغيوم، أن الإنسان في بعده المادي لا يزن شيئا على الإطلاق في هذا الكون الهائل الفسيح. وتذكرت يوم توضع الموازين القسط واستعذت من حال المجرمين “يوم يوضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصيها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا”.
والحقيقة أنني كنت في جو نفسي مضطرب، ليس بسبب الاتعاظ من هذه الخواطر التي كانت تتوارد علي، ولكن خوفا من التخدير، خاصة أن الممرضة التي جاءت لتتأكد من أني أنا أنا قالت لي: هناك احتمال ضعيف جدا جدا، وهو أن لا يفيق المريض بعد تخديره، ولذلك نريد عنوان الشخص الذي سيكون علينا -لا قدر الله- الاتصال به في هذه الحال؟
بعد مرور بضع دقائق على عملية وزني، دخلت ممرضة تحمل سوارا صغيرا من ورق مقوّى، يحوي بياناتي الشخصية وثبتته في معصمي، فتذكرت قوله تعالى في سورة الإسراء: “وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا”.
ثم تبعتها ممرضة أخرى تحمل كوبا صغيرا من الماء وثلاثة أقراص متناهية الصغر وقالت لي: خذ هذه الأقراص فستهدئ روعك وأعصابك. قلت لها شكرا فأنا فعلا قلق ومتوتر، فردت علي أن تلك حالة يستوي فيها جميع المقبلين على عمليات جراحية تقتضي تخديرا كليا. طلبت الله وأنا أتناول الأقراص أن يثبتني بالقول الثابت عند حلول الأجل وأن يمن علي بحسن الخاتمة.
وبعد فترة قصيرة من تناول هذه الأقراص التي لم أشعر بأي مفعول لها دخل علي رجل ضخم الجثة فارع الطول مفتول العضلات ذكرتني هيئته بمنكر ونكير، فسألت الله التثبيت والتوفيق عند سؤال الملكين. قال لي الرجل سآخذك معي إلى غرفة العمليات فقد أزف دورك. وبين يديه الكبيرتين تحول السرير الذي اكتشفت أنه مزود بعجلات إلى ما يشبه نعشا متحركا. دلفنا داخل مصعد ونزلنا ثلاثة طوابق إلى جناح العمليات وهو عبارة عن قاعة ضخمة يشقها رواق واسع وقد وزعت إلى عدة غرف.
وتركني صاحبي لدى مدخل الجناح فبقيت أنتظر. وبفضل ساعة جدارية كانت منتصبة قبالة وجهي استطعت أن أقيس فترة انتظاري، التي دامت نحو ثلاثين دقيقة، مرت كأنها ثلاثون يوما.
مرت سنون بالسعادة والهنا فكأنها من قصرها أيام
ثم انثنت أيام هجر بعدها فكأنها من طولها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
خلال فترة الانتظار مر علي ثلاثة ممرضين، يسألني كل واحد منهم عن اسمي، ليتأكد من هويتي وهو ينظر إلى الملف الملقى على طرف سريري. وأخيرا أدخلت إلى الغرفة رقم خمسة وقدمت إلى طبيبة شابة نفسها: أنا الدكتورة كريستين، وسأشرف على تخديرك. هل أنت على ما يرام؟ حاول أن تفكر في أشياء مبهجة وسعيدة.
تحلق فريق العملية حول السرير وبدا كل شيء جاهزا، عندما لاحظت إحدى الممرضات أن أوراق ملفي لا تحمل تاريخ الميلاد نفسه. فعادت أخصائية التخدير تسألني هل هذا أنت فعلا؟ وكيف لنا أن نتأكد من تاريخ ميلادك الحقيقي؟ قبل أن أجيب قال الجراح الدكتور باسكل كورلييه Pascal Corlieu وهو رجل فارع القامة ممتلئ الجسم أصلع بشوش ووقور في الوقت نفسه، يوحي مظهره بالثقة: هذا المريض هو فعلا ولد أشفغ، لقد عاينته من قبل وأعرفه جيدا، وهو لم يخدر بعد ولذلك اعتمدوا تاريخ الميلاد الذي سيقوله لكم.
كان بالإمكان أن أعطي أي رقم. فلا فرق بين الأعمار قصيرها وطويلها، فهي تكاد تكون مهملة إذا ما قيست بالحياة الأبدية غير المتناهية التي تبدأ مباشرة بعد
الموت.
وبينما كانت الدكتورة كريستين تبحث هي بنفسها عن الوريد الذي سأحقن فيه، قالت إحدى الممرضات: دكتور كورلييه هل تعلم أن الدكتورة كريستين حامل؟ فأجاب: واو، في أي شهر هي وما جنس الجنين؟ فأجابت كريستين: أربعة أشهر وهي بنت.
سبحان الله أنا كنت في عالم آخر بين الحياة والموت، بينما كان الأطباء يتجاذبون أطراف الحديث، وكأن ما بين أيديهم خروف على قصعة. وتذكرت الأحاديث الفارغة غالبا لحلق الثقلاء في نواكشوط وهم يعودون المريض في آخر رمق.
تمتمت ببعض أذكار النوم: الفاتحة، وآية الكرسي، والإخلاص، والمعوذتين و21 من البسملة، وختمت بالدعاء “اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك…” والحقيقة أنني لا أعرف كيف ومتى فقدت الوعي…
ما أعرفه هو أنني عندما أفقت بعد ذلك بنحو ساعتين تذكرت البعث والنشور وتلك قصة أخرى…
محمذن بابا ولد أشفغ
نقلا عن المذرذرة اليوم
انها قصة مؤثرة فعلا وشيقة تعبر عن انتباه صاحبها وعدم غفلته عن الدار الاخرة وهذا لعمري لهو حال المؤمن الحق وهي تعبر كذالك عن الاصل والفرع الدينيين العلميين للكاتب
ثبتناالله واياه بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة
شكرا جزيلا لكم
Il m’a été offert de lire cet article lors de sa parution sur le site de Mederdra. Mais hier, en le découvrant ici, je n’ai pas pu m’empêcher de le relire comme si c’était pour la première fois. C’est excellent.
Merci à Menny et au site niefrar.org.
وهكذا هم المؤمنون تذكرهم أحداث الحياة بأمور الحقيقة لا غرو نفراري بن نفراري
قصة رائعة باسلوب رائع ولكاتب رائع ومتميز
شكرا لكم