تجمع بلاغة “أهل آسكر “ بين تحطيم سياق الجماعة وتضليل المستمع وامتحانه وجعله في ورطة من امره، فعلى غرار ما يفعل الشعراء من تكثيف المعانى يقوم اهل “آسكر” بتكثيف السياق وتناقضه مع الدلالة وإرفاقه بسخرية خفية تربك المتلقي فلا يسعفه غير صوت الضحك فيغلب عنده أن يضحك حتى يكون من جماعته… أدركت اليوم وأنا أجالس فتية من علية القوم أن للبلاغة أسرارا لم تكتب بعد ولا حواها كتاب عبد القاهر الجرجاني وأن لبيئتنا المحلية سياقات بلاغية وأفانين تستحق أن تخص بالكتابة والنقد والتحليل فليس الكلام في حيزنا الجغرافي رطانة تنتهي بإبلاغ خبر أو نقل معلومة او بحديث عابر يحكي عن تاريخ او عن ثقافة، أدركت اليوم ونحن نتحدث بلهجتنا الحسانية في بيت بسيط وتشغلنا ظروف ترفيهية أن لنا قواميس بلاغية لا تفك شفراتها بسهولة ولنا سياقات كلامية لا يصلها إلا من نال حظا من زمن” آسكر”. فقد تحدث القوم بكلمات لغوية بسيطة مرفقة بسخرية تمنح الكلمات سياقا متفقا عليه قبل الكلام وهو قابل للانتقال إلى ضده في نفس الوقت ويتبع تغيره للمتكلم ما يجعل المستمع يضل في طريقه لفهم المقصود فيرتبك من مقارنة التناقض بين معنى الكلمة والسياق الذي وردت به، وهنا محل تفوقنا على باقي البيئات والمجتمعات، فرغم أنه لكل لغة بلاغتها وكثيرا ما تبرز البلاغة في جمالية اللغة وتناسق العبارات، وانتقاء المفردات وما تحمل من شحنة معنوية بعيدا عن السياق البلاغي أوتبرز بلاغتها في عمقها الدلالي، إلا أننا نملك بلاغة راقية حيث أن المدار الذي ترتكز عليه بلاغتنا ليس في ما ينطق ” لخبار ماه في اللغة” وإنما في الفهم، وصراحة نحن نتفوق في الفهم، حيث أننا ننطق شيئا ونضحك من شيئ آخر وما يربك المستمع هنا هو جهله بالسياق وتعدد السياقات الممكنة في ذهن المتلقي حيث أن البلاغة في بيئتنا ومجتمعنا ليست بلاغة كلمة ولا بلاغة جمالية في المفردات، فقد تجاوزنا الكناية والاستعارة على مستوى الجملة، وأصبحت لدينا كنايات واستعارات سياقية تثار في تعاليق فوضوية الطرح … إنها بلاغة أعقد وأعمق دلالة من المقصود والسر في ذلك أننا نمنح السياق للمستمع ، ونترك لأذن السامع الخيار التام في انتقاء المغزى ونلصق كلماتنا بسخرية خفية ونتبعها بضحك يفقده السيطرة على ترتيب أوراق عقله وفهمه وهنا تتصارع الأذن الاجتماعية مع اللسان الاجتماعي وذلك الصراع هو ما يميزنا. ورغم ماتعني هذه البلاغة من سرعة بديهة أصحابها و وقوة فهمهم إلا أنها تركز كذلك على بعد مزاجي نفسي عميق ،حيث أننا نختبر الحالة النفسية للمستمع أثناء كلامنا دون أن يشعر بذلك ونختبر عقله وصبره وحنكته البلاغية فهي تدور على ثلاثية “الفهم ـ الوعي الاجتماعي ـ الحالة النفسية” وفي الأخير نتملص من السياق ونترك للمستمع ثقل التلقي وردة الفعل، إن مجرد مجالسة أمثال هؤلاء من الناس يتطلب مستوى من الحضور لا يحصل بالصدفة فعلى صاحبه أن يجمع بين الحذق والصبر والتماسك والتفاعل حتى “لا ايحوز اعظام اجماعه” ولا “ينشرب اعليه اتاي”….فعلا لقد كان مقيلا جميلا جمع بين الترف والراحة والتعلم درسنا به جملة من أفانين البلاغة المحلية و”التهين املي ” وضحكنا ……اكيلن…!
الأستاذ ديدي أجدتم وأفدتم .. فقد تناولتم الموضوع بحس سوسيولغوي مرهف ..”ننطق شيئا ونضحك من شيىء آخر” : رائع .. والبقية أروع .. بارك الله فيكم.