لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام قدمته المشهورة حيث استلم مفاتيح القدس الشريف وتركها أمانة في يد من يقوم بعده من أمراء المؤمنين إلى يوم الدين ، جلس مرة مع بعض أمراء الأجناد وكبراء المجاهدين يتحدثون فيما بينهم ويشكرون الله تعالى على ما أولاهم من النصر المؤزر، والتمكين في الأرض وعلو كلمة الله الواحد الأحد على كلمات النصارى و المشركين.
فبدا له رضي الله عنه أن يمازحهم وكان – على شدته وجده في الحق- ربما مازح ، قال لهم وقد رأوا بجوارهم دارا كبيرة بها باحة واسعة حديثة عهد بأيدى الروم وما كانوا يشيدون به أبنيتهم من الجص والقرمد والمرمر المسنون ، قال لهم : ليفترض كل واحد منكم أن هذه الدار التى ترون أمامكم ملك له، فبماذا يتمنى أن يملأها؟ فذهب القوم في الأمانى وكانت كلها تصب في وجوه البر و الإحسان فمنهم من قال : أتمنى أن أملأها دراهم ودنانير ثم لا يمضي علي يوم أو يومان حتى أنفقها في سبيل الله و أصلى مكانها ركعتين.
ومنهم من تمنى أن يملأها سيوفا ورماحا وغيرها من الحلقة عدة للمجاهدين في سبيل الله والذابين عن بيضة المسلمين. ومنهم من قال : لو كانت لى هذه الدار لجعلتها مأوى الفقراء و المساكين يغدى فيها عليهم بالجفان ويراح كل يوم تطلع فيه الشمس.ومنهم من قال أتمنى أن أملأها بحلق الذكر… ومنهم من تمنى أن يملأها رجالا مردا وخيلا جردا عدة في سبيل الله ونحو كلهم مثل ذلك المنحى…
فلما نثروا ما بجعابهم التفت إليهم أمير المؤمنين فقال لهم : أما أنا فأتمنى أن أملأها رجالا من أمثال أبى عبيدة بن الجراح . و لا أدرى ما ذا قد يكون ردنا – نحن أهل هذا اليوم- لو طرح علينا نفس الامتحان؟ أ كنا قائلين مثل ما قالوا أو قريبا منه أم ترانا سنذهب إلى تمنى الفضة و المزيد من الذهب حبا منا لهذين الحجرين لذاتهما أو لما يرمز إليهما من كاغد مكتوب أو سطر في حساب أو مكتوب في حاسوب؟ ذلك أنا آمنا إيمانا مطلقا أن تقدم الأمم والشعوب و الأفراد منوط بتراكم الثروات عندها، و رأيناها هي الحقيقة المطلقة التى لا يأتيها باطل من أي جانب.
أما الخليفة المحدث الذى تنطق السكينة على لسانه فقد نبهنا بما قال على أن العنصر البشري هو الذى به ملاك الأمر وهو القطب الذى تدور عليه رحى التقدم ، و أن الثروات في غياب العنصر البشري الصالح هي وبال وخبال وغالبا ما تكون عارا وشنارا..
تمنى رضي الله عنه ملئ الدار من أمثال أبى عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ، فالرجل غني عن التعريف، إنه من الرعيل الأول من السابقين الأولين من المهاجرين ، وله اليد الطولى في لمِّ شمل جماعة المسلمين يوم السقيفة بعد الخطب الجلل، مبارك الطلعة ميمون النقيبة منصورا فتح الكثير من بلاد الشام، ولم تطرف له الدنيا عينا.
و أخرى من خصال القيادة فيه نبهنا عليها عمر رضي الله عنه على وجه التلويح وهي الأمانة وقد لقبه الرسول الأمين بأمين الأمة. و الأمانة هي الركيزة الأولى من الركائز التى عليها المسؤولية تبنى، والثانية هي القوة وقد تحلى أبو عبيدة بنصيب وافر وقوته رضي الله عنه من نوع قوة أبى بكر الصديق لا تبدو إلا في المواقف العظام و أما في الأيام العادية فقد تطغى عليها الرقة ولين العريكة.
والذى ينبغى أن يستخلص من هذه القصة ليس هو أن نطلب من المسؤولين أن يكونوا كبطلها الرئيسي و لا منا نحن أن نكون كأبطالها الثانويين ، فالتكليف – كما يقال- حسب الإمكان وعدول القوم منهم و الأحكام تتبدل بتبدل الزمان والمكان.
كلا بل خير ما نستنتج منها أن العنصر البشري من حيث النوع مقدم على العنصر المادي من حيث الكم و أن الفقراء الأذكياء خير من الأغنياء الأغبياء و أن صلاح العنصر البشري مرهون بتوفر الأمانة والقوة في ربان السفينة وطاقمها و الإخلاص والبر في قادة الرأي فيها و إلا صار راكبوها كنعاج الرجل الإيطالي المعروف المسمى بانرج : أطاعت نعاجه أمر مغويتهن فسقطن في لج البحر فهلكن والله يعصم من ما يصم.