من بين الحدود الكثيرة التي وضعت للثقافة أنها “ما يبقى معنا بعد أن ننسى كل شيئ ” و يبدو التعريف بسيطا و متجاوزا في بدايته لكنه في الأخير يحيل الانتباه إلى بعد عميق يفسر جملة من القدرات الحسية للذهن البشري، مبرزا خلال ذلك السر في تمسك الذهن بالمعارف وضياعها المفاجئ ، وما يهمنا في هذا التعريف هو محاولة رصد تلك العلاقة القائمة بين مصادر معارفنا التي نكتسبها طيلة الحياة ومدى تمسك الذهن بها ومدى ضياعها بسرعة من الذهن؟.من بين الحدود الكثيرة التي وضعت للثقافة أنها “ما يبقى معنا بعد أن ننسى كل شيئ ” و يبدو التعريف بسيطا و متجاوزا في بدايته لكنه في الأخير يحيل الانتباه إلى بعد عميق يفسر جملة من القدرات الحسية للذهن البشري، مبرزا خلال ذلك السر في تمسك الذهن بالمعارف وضياعها المفاجئ ، وما يهمنا في هذا التعريف هو محاولة رصد تلك العلاقة القائمة بين مصادر معارفنا التي نكتسبها طيلة الحياة ومدى تمسك الذهن بها ومدى ضياعها بسرعة من الذهن؟.
يختزن الذهن البشري جملة من المعارف البسيطة و المركبة يتم استحضارها حسب الأهمية والقرب من مصدرها وحسب كثرة الاستخدام، كما يتم ترسخها وعمقها وتوالدها وعكس ذلك تشتتها واضمحلالها و نضوبها في الذهن تبعا للمصدر الذي طبعها فيه يوم انطبعت هناك، ولكل انسان مصادره الخاصة به كما لكل علم جهته التي يستجلب منها كمادة خام، وحين نجلس في هدوء ونتساءل عن مصادر معرفتنا فإننا لن نجدي نفعا بل من المستحيل أن نعيد كل معلومة للحظة محددة، لكن لو لاحظنا أنفسنا ونحن نجيب على سؤال ما على حال غفلة، وحين نحاول تذكر المعلومات التي تعتبر بيّنة في وجهة نظرنا وحسب مقاييسنا الخاصة والتي تفيد الحجة عندنا ونحن نحاول إقناع الخصم، فإننا سنلمس هنالك مرجعا نهائيا بالنسبة لمعارفنا، مرجعا لا نقبل مقارنته بغيره ولا نسمح لأحد بمحاولة التقرب إليه بأي وسيلة شك أو استخفاف، فهو لصيق في الذهن أكثر من غيره.
من خلال هذه المقدمة نريد أن نحفر الذهن لمعرفة المصدر الاساسي الذي يرافقنا طيلة الحياة والذي نتكل عليه حين نسأل ويمثل مخزونا معارفنا الراسخة.
ونعيد السؤال مرة أخرى هل هناك مصادر يثق بها الذهن أكثر من غيرها؟ هل يطمئن الذهن فعلا ويتحمس لبعض المعارف دون غيرها؟ هل هناك مجال للذوق والخوف والمنافسة في تغيير وبناء عملية الاستبطان والنسيان والحفظ والاستحضار داخل الذهن؟ أم أنّ هناك وعي معرفي يحدد مدى قدرتنا على قبول أورفض وضبط أونسيان المعارف عند أول قدم تضعه في السمع؟
أسئلة من بين أخرى زاحمتني وأنا أحدث أحد الزملاء في سمرنا المسائي، حين لاحظت أن هناك معارفا تسبقني للكلام متحسمة للخروج، وأدركت مساءها أن ما نأخذه من هذه الثلة القليلة من المسنين ـ التي تغادرنا بشكل مفاجئ ـ هو خالص معارفنا وأساسها الذي يظل يتوالد في أذهاننا يوما بعد يوما ، ومع مرور الزمن والتقدم في العمر والاصطدام مع جديد اللحظات ينتج لنا عالما من الحلول البسيطة ويفتح أمامنا طريقا ممهدا لا يعثر سالكه .
أنا شخصيا شعرت بأن لي مصدرا معرفيا مبرزا في جملة المعارفة التي يكثر تعاطيها في محيطنا، وأكتفي به حدا للمعرفة ويشفي غليلي في الغالب، وتصل كلماته الهادئة مبلغا عظيما في ذهني بعد حين من السماع، وحين أسأل فجأة فإن أول ما يتبادر لذهني هو ما حدثني به ذلك المصدر، وأصبحت أدرك حضوره في ذهني وحفظي لمعارفه كل ما أحترت ووقفت فلسفتي عند حدها الأقصى.
إن أحاديث الجدة التي كنا نتناولها قبل النوم كمهدئ فعال، ونصائح الأم المخلصة في تقويمها اليومي وآراء الصديق التي ينفذها في آذاننا في وحدتنا هي معدن من المعارف سيثمر مع مرور الزمن وينتج تصورات دقيقة عن العالم وعن العلم وكلما يحتاج للرأي، ما جعل الذهن في حالة تأهب واستحضار تبعا لتلقيه الأول وشغله الأكثر، إنه لا يغادر صغيرة ولاكبيرة من تلك الكلمات البسيطة ولا من تلك العبارات المشحونة المركبة …إلاّ و حفظها باتقان كلها ويعيد ترتيبها بأساليب مختلفة بعد أن أختلطت بفهمه وقدرته على التصور وبناء الأفكار.
وحين تلاحظ ذلك السيل الجارف ـ من الأسئلة العنيدة ـ الذي يتردد على ألسنة الأطفال الصغار فإننا نصل لنقطة الحسم فلكل ذهن اضطراراته المعرفية وقابليته وقدراته على الاكتساب ـ هذا قبل أن يصبح متعلما مطالعا قارئا مثقفا ـ يقول “البيرت انشتاين ” حين سئل عن سر عبقريته : لم أفعل شيئا سوى أنني احتفظت بأسئلة الطفولة وحاولت إجابتها بعد البلوغ ….ما يفيد أن مرحلة الطفولة من المناطقة الحاسمة في رحلتنا العلمية وبنائنا المعرفي، كما أن تلك المصادر التي أملت علينا تلك المعارف وجعلت من كلماتها البسيطة التي نلتقفها بكل قبول وقناعة حدا لحيرتنا ونهاية لإدراكنا المؤقت.
وخلاصة القول أن أحاديث الأم والجدة والأب والصديق، وأحاديث الوحدة هي أرسخ في ذهن الانسان من غيرها لما تتركه من وقع بالغ في قبوله، حيث يقبلها على أنها قمة ما يمكن الوصول إليه من العلم، و تأخذ المعلومات مكانها في ذهن الانسان تبعا للقناعة والثقة التي يكنها للملقي، وكلما زادت تلك الثقة وذلك الاعتبار كلما زاد لصوق الافكار بالذهن، وعلى العكس كلما كان المتلقي أقل ثقة واعتبارا للملقي كانت الاستفادة أقل، فالذهن يتعامل مع المعلومات تبعا للقبول و للعاطفة والرغبة المرافقة لها.
ديدي نجيب
أحسنت ديدى و أجدت
أشاطرك الرأي في أن مرحلة الطفولة تعتبر حاسمة في تحديد مستقبل الشخص المعرفي ولذلك قالوا إن الشوكة من سغرها امحدّ÷ و التعلم في الصغر كالنقش في الحجر …… ، لكن مالفت انتباهي في ما كتبت هو العلاقة النسبية بين حفظ ووعي المعلومات والثقة التى تكنها للشخص الذى تتلقى عنه فهي ملاحظة واردة وصحيحة و هامة.
أشكرك مجددا و أتمنى لك المزيد من التألق و إلى الأمام