لكل مجتمع وسائله الترفيهية ورياضاته البدنية ، وقد عرفت موريتانيا رياضة بدنية كانت متداولة إلى عهد قريب. وقد اختفت نهائيا من الملاعب إلا أنها بقيت في المجالس من خلال قطع شعرية يتجاذبها السامرون، ويطرب لها متذوقو الأدب الرفيع. وهي ما يعرف محليا ب“التَّــودْ” أو “الغوراف”.
لم يبق من هذه الرياضة اليوم إلا ذكريات لدى الشيوخ أو بعضُ الأمثلة الشعبية تسمعها من حين لآخر في الحديث اليومي مثل : “الكَـزْ وَاعِرْ” و “أَخْــبَارْ التـَّـودْ تـّبكَ في الكَودْ” الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال مع تصحيف بسيط.
وبما أنني انتمى إلى الجيل الذي حرم متعة الفرجة على هذه اللعبة وبالأحرى المشاركة فيها، فقد فكرت في استنطاق بعض النصوص النادرة التي خلد فيها الشعراء لحظات الفوز، كما رسموا من خلالها لوحة لمباريات جمعتهم مع أكفاء أو أنداد لهم. وبعد مطالعتي لعينة من تلك النصوص، لفت انتباهي أن اللعبة كان يمارسها علية القوم، و أن لاعبيها تتراوح أعمارهم عادة ما بين العشرين و الأربعين. يقول الشيخ امحمد بن أحمد يورَ:
نَعْرَفْ عَنْ گـــوْمِ مَا اتْخَــافْ *** مٍنْ حَدْ إِفْـــگزْ الكُـــورَ
أنَعْرَفْ عَنْ حَدْ ا گْبَيلْ شَافْ *** إِعْوَيــناَتْ المَشـْـــعُورَ
مَا يَنـــسَاهُــمْ وِالـگافْ گافْ *** امْـحَمّــَدْ لَحْــمَدْ يُــورَ
تصنع “التـَّـودُ” من نوع من النعل يسمى محليا ب”الكِــرْكْ” فإن لم يوجد فمن جلد البقر ؛ وخصوصا منطقة الجلد المحاذية للرقبة، وتقوم بخياطتها سيدة صناع اليد، ويتم حشوها بالقماش ليسهل رميها ولا يزيد حجمها عن ملإ اليد الواحدة.يقول الشاعر محمذ بن والد البوميجي:
ترن إذا ما أوجع الضرب جلدها *** دوي الغضا أحناه هز الشـــــمائل
وهي تشبه كرة الغولف قليلا من حيث أن اللعب بها عصوي، فلابد لها من مقالى وهراوى . وتصنع تلك الصوالج محليا من الشجر الأخضر وخصوصا من السيال “الطلح” أو من القتاد “أيروار”.
إذا ضربوها بالصوالج حـــــلقت *** كما حلق العصفور خوف الأجادل
والمقالى “غَوْرَافَ”هي عصي تثقف وتعقف رؤوسها وقد تكون على شكل حرف اللام باللغة اللاتينية فتدعى محليا ب “المرفك” لشبهها بمرفق الإنسان. وقد تلون بلي لحائها عليها ليا قطريا ثم تحرق فيسود منها ما عدا ما تحت اللحاء.
وبالقشر منها نمـقت غـــير أنها *** يســـر الفتى إقبـــــــــالها وصدورها
وتجدر الإشارة إلى أن قوة المقلاء (واحدة المقالى) معين على الفوز لأنها قد تنكسر عن طريق ضرب عصي المنافسين،وفي ذلك يقول الشاعر النحرير واللاعب القدير محمد بن أبن الشقروى:
لعمرك ما مِقلاءُ عُوِّدَ عـُـــــودُها *** جِذابَ الكُـــرينَ النور حينَ تعـــــودُها
أقيمتْ ومُـلَّتْ واستُميلَ ثِقافُها *** على وجهة اليـمنى فســـاغ عنودها
تخير من دوح من النبــع غصنها *** فكانت كما يهوى ولا حت سعــوده
وفي كل مــقلاء مـــلاقـــية لها *** كـــــــوادح ضرب ما تـــــخان عهودها
يود المبارى كسرها حسدا لها *** فكل فــــتى يأتى الكرين حســودها
أما الملعب فيكون غير بعيد من البئر على جرعاء سهل ممتد منقطع الرمل ودائما تكون هنالك نقطة انطلاق معروفة يتمايز الفريقان حولها، كما أن للملعب حدود يتم ترسيمها قبل بداية اللعبة ، أما وقتها المختار فبعد صلاة العصر مباشرة؛ يقول الشاعر محمذ بن والد الديماني :
تراهم على ما كان كل عشية *** يخبون نحو القاع حول المناهل
تنطلق المباراة بعدما يأخذ كل لاعب موقعه، حيث تُنزى الكرة بين الفريقين ويتسابقان إلى دهدهتها، وينتج عن ذلك التدافع على الكرة ما يطلقون عليه محليا “غرتل”، ولا يخرج الكرة من ذلك المأزق إلا اللاعب الماهر، يقول الشيخ حمدا بن اتاه في مرثيته للقاضي أحمد سالم بن سيد محمد رحمه الله:
وترى رجال الحـي خلف خيامهم ** كرة تــــــــفرق جمعــهم وتوحد
أنــــت الذي أخـرجتها من بينهم ** وترى إمــــاء الحي وهي تزغرد
ينــدبن فيك فتى العشيرة كلها ** وعلى ابن ديد مـن الـثناء يمجد …
فإذا ما ساعد الحظ “رياظ” أحد الفريقين (وهو المدافع) بأن أوصل الكرة إلى “حواص فريقه” (وهو المهاجم) الذي دائما يكون في موقف التسلل – الذي كان جائزا في شرع من قبلنا- ، فسيحاول الأخير بكل ما أتي من قوة وسرعة أن يصل بها إلى أبعد نقطة في حدود منافسيه، لكن الفريق الخصم لن يبقى متفرجا بل سيحاول صد الهجوم بجميع الطرق . وقد صور اللاعب الشقروي هذه الملحمة بقوله:
إذا احرنجم النادى عليها وقسمت *** وناحت نواحيها وشــــب وقــودها
وجالت بها الفــــتيان شرقا ومغـربا *** وقد خيف فيها أن تــجاز حدودها
وخان مدهــــديها عـــــواص عصيه *** و أيديهم تشكو العـــصي جلودها
ترى الكــــرة انقـــــادت إليها كأنها *** تقـــاد ومــا إن ثم شيء يــقودها
أما إذا فشل الأخير في صد “الحواص” عن طريقه وواصل دهدهة الكرة في نفس الاتجاه فإن الفوز قد تحقق من خلال تسجيل الهدف و عندها تنتهي المباراة عبر إطلاق حناجر الفريق الفائز بعبارة “وَاهَ واغْلبناهَ”
وتختزل المساجلة التالية، التي جرت منتصف القرن الماضي في ابير التورس، مشهد مباراة “الغوراف” كما أنها تتضمن أيضا بعض المصطلحات الهامة المستعملة من طرف اللاعبين يقول الأديب محمد باب ول محمذ باب وهو من عصر أولاد دمب:
بِلْبَرْكَ وِالـشَّرْكَ تِنْعَدْ *** كَزَّازِتْ كَــــوْمِــكْ يَلْنَقْـَصدْ
افلانْ افلانْ أُذَاكْ الحَدْ *** مَا فِــيهُمْ وَاحِــدْ يَخْطـَاهَ
مَا كـَـــامْ ابَيْــبِي وِرَشَّدْ *** وِالكُـــــــفَّهْ تِنْــهَزْ أوَاهَ
فاجابه السيد كراي بن أحمد يوره باسم اولاد صمب قائلا:
لَحَّكْ لِلْعــــَصْرْ الِّ مَرْدُودْ *** زَيْنْ اغْـــنَاهْ الاَهُ مَجْحُوْد
عَنَّ مَا نِبْغُ كَـــــْز الــَّتوْدْ *** كِــن وَكْــتنْ كـَــــــــزيْنَاهَ
يَامِسْ وِصَّــــوَّبْنَ فِالكَوْدْ “*** كـِـــلْنَ وَاهَ وِاغـْــلَــبْنَاهَ
الا رَشـَّـدْ فـِــيهَ مِنَّ حَدْ *** الاَ فـِـــينَ كَـــــَّزازْ اخْطَاهَ
والغـَـــــالِبْ لَكَـامْ ارَشَّدْ *** مَـــاهِ شـَــْيـــنَ وِابـمَعْنَاهَ
ويكثر في هذه اللعبة التدافع ويبدو أن الفريق الأكثر تحملا والأقوى بدنيا هو من يفوز في النهاية خصوصا إذا ما علمنا أن التدافع والعراك مسموح به مع غياب الحكم. يقول القاضى أحمد سالم بن سيد محمد الأبهمي:
أقسمت بالبدل و أم البركا *** وكل غار أدخــلته علكا
بأن دون غلـــــــبنا لَعركا *** نطعنهم مخلوجة وسلكى
ويصف الشيخ باب بن الشيخ سيديا سير المباراة ومسار الكرة في جميع الاتجاهات وحالة التعب والأين التي يصل إليها اللاعبون في آخر المباراة بقوله:
قد أبــصر الناس قـاريها وباديــها *** ورائــــحـــــــوها وغـــاديها وســاريـــها
لما تعطى المقالى بيـــــننا كرة *** إذ أشأمت وهي في أقــصى تدهديها
طورا تسير على الوعساء هاوية *** عـــــن الــــدلاء وخــــانــــتها عـراقيها
وتارة مـثل ما مر الجهــام ضحى *** وعـــــاصف مــــن رياح الصـيف حاديها
وراح أكـثرنا تيــــــــها قبيل وغى *** أقلـــنا بعــــد ما كـــان الوغى تيـــــها
ومل كل فتى مقــــــــلاءه وقلى **** كـــل الكــــــماة على عـجز مقـاليها
أما كيفية تكوين الفرق فتتم من خلال ما يسمى محليا بالأعصار وهم الشباب الذين تجمعهم نفس الفئات العمرية، لكن الفريق الواحد قد يتكون من أكثر من عصر فينضم إلى كل عصر “نعريته” وهم أعضاء العصر غير المواليين له في الترتيب التصاعدي للأعصار.
لهم كرة فيها التنازع بينهم *** وكل لمولى نصره غير خاذل
ودائما يكون فوز بعض الأعصار في نهاية المباريات مناسبة شعرية يفتخر فيها الغالبون ويعتذر فبها المغلوبون ويتوعدون بعقاب يوم مفسد. يقول ول أبنو أيضا:
قد شاع في الناس بل في الصحف قد كتبا *** أن “المغافر” و “الأجواد” قد غلبا
ومـــن على غلـــبه الأقــــوام قـد شـــهدت *** لم يستطع – أبدا- لهوا ولا لـــعبا
ومن أطرف تلك السجالات ما جمع الأديب الشاعر محمد بن امو مع القاضي أحمد سالم بن سيد محمد في نهاية مباراة جمعت عصري الوسط و الهمال في انيفرار. و رغم ما لهذه النصوص من قيمة فنية و أدبية فقد صورت لنا وبلغة مفهومة مجريات المباريات وكيفية اختيار اللاعبين وحتى طريقة لعب كل عضو في الفريق.
وقد كان السبب المباشر لهذا “لكطاع” كاف للأديب ول ألما بن امَّــنِّ لم نتمكن من العثور عليه إلا أنه انتصر فيه لعصر الوسط الشيء الذي لم يرق لعصر الهمال وهو ما عبر عنه الأديب محمد بن امو بقوله:
الْكَزْ الِّ مِــــــنُّ مَعْــهُودْ *** أَمْــــــــنَادمْ يَجْبَ شُورْ الْكَودْ
إِبْعَجـِــــلْتُ وِعُــودْ التَّودْ *** يَغْلَبهَ وِامْكَــــــــــصَّفْ لِكْلامْ
ِولِّ خَــاطِيهْ إدورْ إِكُــودْ *** إِلْ شِ شَيْنْ أُكِشــــفَ وِحْرامْ
وَمَّّ هُوَّ يَمْ اتْسَـــــــوْحِيلْ *** وِتْكَــــــــــافِ هُوَّ وِا سْتَكْبيلْ
فِاتَّودْ أُعِزِّتْ شِ ثَــــقِيلْ *** وِتْمَـــــجْدِيلْ الزَّينْ ابْلِـــحْزَامْ
أُتِطْرَاكْ اللِّسْنَ وِاسْــبِيلْ *** اللِّسْـــــنَ وِاخْـصَارِتْ لِكــْلامْ
فِتْنَ طَينَاهُمْ دَهْرْ اطْويلْ *** أُلاَ رَيْنَ فِيـــــــــهُمْ كـَاعْ الهَامْ
أّمَّانَ يَكَــــــــــومْ الْفُتيانْ *** لُلالِ عَنْ فِيـــــــكُمْ لَـعْـــظَامْ
انْكُولِلــْــكُمْ شِمْنْ الكِفَانْ *** إِنَـــــــسُّ فِاتـــَّودْ أُلِخْــــــيَامْ
فأجابه الشاعر أحمد سالم بن سيد محمد عن عصر الوسط بقوله:
لاَ يِنفِشْـــــــــنَ فِاتَّودْ إِحْنَ *** كِلْ اعْشـِـــــــــيَّ بِيهَ رِحْنَ
أُهَاذِى عَادِتْنَ كِــــلْ إِسْنَ *** آلا نَعِــــــــرْفُ شِـــنْهِ عِلِّتهُمْ
يَكَــــــانْ الــــعِلَّ كِـــــثْرِتْنَ *** وَللَّ عـِــــــــــــــلِّتهُمْ كِلِّتهُمْ
يَكُونْ الِّ لَجَــــــــاوْ أَثْــــنينْ *** مِنَّ وِعُـــودُ مِجْـــــــــــتَمْعِينْ
كَمْ أَهــــيهْ إِصَّ مِنْـــعكدينْ *** يَكِـــــــــــــبْظُوهَ مِنْ كِبْلتهُمْ
أُيـِــــــــمْشُ بِـــــيهَ زَادْ إِلَينْ *** تَلْ الكَــــــــودْ إِعْلَ عَجْلِتهُمْ
أُهَاذِى لِمـْــــــــسَالَ دَلتنَ *** عَنْ عِلـِّــــــــتْهُم مِنْ فَعْلِتهُمْ
مَا عِلُّتـــــــهُمْ مِـــنْ كِثرِتْنَ *** ألَاَعِلـِّــــــــــــتْهُمْ مِنْ كِلِّتهُمْ
بقلم الباحث: يعقوب بن عبدالله بن أبن