البنية التصوية هي المحطة الأولى من محطات المعرفة لمن أراد أن يبنى تصورا دقيقا عن الصفة التي يكتسب بها الانسان معرفته من الجهل إلى المألوف إلى المعرفة التامة.
وحيث أنه يستحيل أن نبني تصورا خارج اللغة وأنه لا يمكن تصور اللغة خارج مقولتي الزمان والمكان ،نقسم البنية التصورية عند الانسان إلى بنية مكانية وبنية زمانية تجمعهما اللغة ويحويهما الذهن البشري بسهولة فائقة لسعة القابلية المعرفية والفراغ الذهني اللذين نتمتع بهما عند قدومنا للعالم. ويجتمع البشر جميعا في البنية التصوية مهما اختلفت ألسنتهم، حيث أنها خاصية إنسانية تأتي مع الجنس البشري عند ميلاده.
إنك حين تقدم إلى مكان لم تأته من قبل فإن الأشياء تتبادر لذهنك في أبنية وأشكال سبق وأن ألفتها وعرفتها في بيئتك ويقوم تصورك بتشبيه الاشياء الغريبة والجديدة علي ذهنك بأقرب ما يشبهها مما ألفت في الواقع، لبناء انطباع عما تدرك.
و لأننا لا ندرك إلا ما نعرف إلا أن الانسان يملك قابلية لنقل الأشياء المجهولة والغريبة إلى معرفة عن طريق البنية التصورية. والذي لا يبدو جليا في هذا أن هذه العملية التي تتم بدقة وبسرعة كبيرة تجعلنا نعتبر أن الوقوف عند طريق ادراكنا للأشياء مجرد عبث فكري؛ لكنها عملية معقدة تحدث في جزء من الثانية لذلك استحال علينا أن نتابعها أو حتى أن نقبل أنها كذلك. هذا ويمر الذهن البشري خلال اكتسابه للمعرفة أو تحويله للأشياء من الوجود المجهول إلى الوجود المعرفي بمرحلتين قبل أن تصبح معرفة؛ حيث يقوم الذهن أولا بادراك الأشياء عن طريق التصور على أنها تشبه شيئا مألوفا وبعد ذلك تتم إحالتها من مألوف يمكن أن نعبر عنه في غيابه ويمكن أن نصفه لمن لا يعرفه؛ وفي المرحلة الأخيرة ينتقل إلى شيئ مستقل عن الذهن ويصبح معرفة تامة.
والذي يهمنا في كل هذا أن الطريقة التي نبني بها أفكارنا وندرك من خلالها العالم وينظر بها الرجل والصبي والمرأة والعالم والجاهل إلى أية بنية وحتى إلى شاشة التلفاز خاضعة لبنية مكانية زرعها فينا التصور عند أول لقاء جمع بين حواسنا والطبيعة، والأمر بسيط فلكل منا الجهات التي يعتمد عليها في تصور المكان، فما نطلق عليه “اربيط الراص” بالحسانية عند مجيئنا لمكان نحضره لأول مرة؛ ليس نفاقا معرفيا ولا جهلا مركبا وإنما هو تجسد واضح لخضوعنا لتوجيهات البنية التصورية، ودليل على أننا ندرك الأشياء بانطباع معرفي سابق على معرفتنا لها، ويحدث هذا حتى مع الوجوه الجديدة علينا حيث لا يمكن أن نلتقي بأحد لأول مرة إلا وقمنا بتشبيهه بما نعرف لكن لماذا؟.. يقوم الذهن بذلك رغما عنا لكي يتمكن من نقل الأشياء من المجهول إلى المألوف ومن ثم إلى معرفة، وهكذا تقوم البنية التصورية ببناء معرفتنا في غياب تام منا. وحيث أن مصدر جميع معرفتنا الممكنة هو اللغة وحيث لا يمكن وجود اللغة خارج مقولتي الزمان والمكان ولا يمكن تصور أحد الظرفين بعيدا عن الآخر؛ أصبحت قيمة المكان عظيمة في أذهاننا حيث أنه هو أهم مكون من مكونات معرفتنا، ولأن إدراكنا للمكان مستمر وراسخ وظرفي ، أما الزمن فلا ندركه بالتطابق وإنما بانطباعات تتجسد في أحداث وذكريات وآمال تسبقنا وتعقبنا، وله كذلك حظه الكبير من بناء بنيتنا التصورية.