الرئيسية / خصوصيات تاريخية / سيدي عبد الله بن انبوجه التيشيتي.. إضافة وتصحيح

سيدي عبد الله بن انبوجه التيشيتي.. إضافة وتصحيح

في مقالتي السابقة تحدثت عن مكتبة الحاج عمر الفريدة أو المكتبة العمرية التي آلت بها المقادير إلى أن أصبحت منذ نهايات القرن التاسع عشر جزءا من المكتبة الوطنية الفرنسية بباريس. وقد أوردت نبذة لا بأس بها عن العالم الأديب والمؤرخ المدقق والمؤلف المستفيض والباحث القدير سيدي عبد الله بن سيدي محمد بن محمد الصغير بن انبوجه التيشيتي العلوي. وقد بدا لي، بعد نشر تلك المقالة، وأنا أتصفح بعض ملفات هذه المكتبة الغنية أن فيها مزيدا من تراث أسرة أهل انبوجه التيشيتية ذات المكانة العلمية الضاربة لم أكن قد اطلعت عليه بعدُ، وأن لسيدي عبد الله منه بشكل خاص مزيدا من التآليف والاهتمامات. وكنت قد استقرأت في مقالتي المذكورة استقراءات واستنتجت استنتاجات هي بحاجة إلى مراجعة واستدراك وهو ما سأفعله هنا

ابن انبوجه.. اهتمام خاص بمؤلفات أحمد البدوي المجلسي

من أبرز اهتمامات سيدي عبد الله بن انبوجه التيشيتي العلوي التأليفية تركيزه على تراث الشيخ أحمد البدوي بن محمدا المجلسي استنساخا وشرحا وتعليقا و”تطريرا”. ولعل حسن وسلاسة أنظام الشيخ البدوي وقوة سبكها وإبداعها الأسلوبي في مجال النظم جعلت ابن انبوجه بل جعلت غيره من المؤلفين في موريتانيا وفي خارجها يُشغفُ بتلك الأنظام، وهذا الإقبال والقبول من ميزات تآليف البدوي حيث لاقت أنظامه في السيرة وأنساب العرب استحسانا منقطع النظير واستجلابا عز وصفه.
نَسَخَ ابن انبوجه بخطه الرائع وحروفه الرائقة نسختين من عمود النسب وهما موجودتان في المكتبة العمرية بباريس إحداهما تامة والأخرى فيها انقطاع. ولا شك أنَّ نَسْخَ نصيْن من كتاب واحد لدليل على العناية والاهتمام.
ويبدو أن ابن انبوجه وضع في البداية احمرارا ومعه طرة خفيفة على عمود النسب قبل أن يشرحه شرحه الواسع المستفيض المعروف بخزانة الأرب في أنساب العرب (أو خزانة الأدب كما كتب مؤلفها تارة). وقد حصلت على نسخة من هذا الاحمرار تبدأ من قول الناظم:
[| [(
عبدُ منافٍ قمرُ البطحاءِ ۞ أربعةٌ بنوهُ هؤلاءِ
)] |] حتى نهاية النظم.
وربما كان وضع ابن انبوجه لهذا الاحمرار وطرته قد شكل بداية اهتمامه بنظم عمود النسب، بل ربما ظهر له بعد ذلك أن يتوسع في شرح هذا النص ويعمق تناوله إياه فجاء تأليفه الموسوعي: “خزانة الأرب في شرح أنساب العرب”، وهو شرح شامل لكتاب عمود النسب. وقد اطلعت –كما ذكرت ذلك في مقالتي السابقة- على بعض أجزاء هذا الكتاب الموسوعي وهي الجزء الثالث وبعض الرابع، والجزء السادس والجزء الثامن وبعض الجزء التاسع.
والملاحظ أن هنالك اضطرابا في تسمية المؤلف لكتابه هذا؛ فقد سماه: خزانة الأرب وكتب هذا العنوان على الجزء الثالث من الخزانة، وهو العنوان الذي اعتمده الدكتور جمال ولد الحسن رحمه الله في مقدمته لضالة الأديب، إلا أن المؤلفَ وفي ثنايا الأوراق التي عندي من الجزء التاسع يسمي نصه: خزانة الأدب. فهل ما ورد في الجزء التاسع سبق قلم وبالتالي يكون عنوان الكتاب هو: خزانة الأرب، خصوصا أن ابن انبوجه قد سبقه البغدادي إلى تسمية كتابه “خزانة الأدب” ولم يرد أن يكرر عنوانًا سبقه إليه غيره؟ هذا ممكن، إلا أننا نعرف أن الموريتانيين لم يكونوا يجدون غضاضة في تكرار نفس العنوان الذي سبقهم له غيرُهم؛ فهذا الشيخ محمد اليدالي رحمه الله يختار لكتابه في الأنساب والسيرة النبوية عنوان: “الحلة السيرا” وهو نفس عنوان كتاب ابن الأبار البلنسي القضاعي الشهير في الأندلس.
لقد كان نظم عمود النسب والاهتمام به جزءًا جوهريا من اهتمامات ابن انبوجه العلمية والتأليفية وكان أيضا نظم البدوي الثاني الشهير للغزوات حاضرا في اهتماماته كما ذكرنا سابقا؛ فله على هذا النظم شرحٌ اسمه: “الجواهر السنية في شرح المغازي البدوية” . يقول عنه في الجزء الثالث من الخزانة: “وقد بسطنا الكلام عليها في شرحنا المسمى بالجواهر السنية في شرح المغازي البدوية” .
وقد رجع ابن انبوجه مرارا إلى شروح حماد بن الأمين المجلسي على أنظام عمه أحمد البدوي، وذكر ذلك في ثنايا كتبه مما يعني أن تآليف المدرسة المجلسية المتعددة في السيرة النبوية وفي أنساب العرب قد انتشرت انتشارا واسعا في أرجاء موريتانيا، وطوفت في مناكبها وسارت بها الركبان في القرن الثالث عشر.

كتب أخرى لابن انبوجه لم يتم التطرق لها

ألف ابن انبوجه وهو الموسوعي في تناوله والمتشعب في معارفه نظما طويلا وجزيلا عقد فيه كتاب ابن عزيز السجستاني: نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن ، وقد سمى نظمه: “كوكب الهداية إلى تفاسير أولي الدرايه” ، وله عليه طرة.

وفي مجال الحديث النبوي لابن انبوجه نظم جزيل في: المؤتلف والمختلف في الاسم مما ذكر البخاري ومسلم، يقول في بدايته:
[| [(
بدأت باسم الله والصلاةِ ۞ على النبيِّ صاحبِ الآياتِ
وآله وصحبِهِ جميعَا ۞ ومن سعى لربنا مطيعَا
وبعد فالقصد بهذا النظمِ ۞ من يأتلفْ ويختلفْ في الاسمِ
من الذين ذكر البخاري ۞ ومسلمٌ في مسند الآثار
لأنه من راجحِ الأعمالِ ۞ معرفةَ الأسماء للرجالِ
إذ ضبطها بالنقط والتشكيلِ ۞ مرجِعُهُ للجرح والتعديل
فصل
أبَيُّ كلهُ بفتح الباءِ ۞ وضمِّ همزةٍ بلا امتراءِ
إلا المقول فيه آبي اللحم ۞ في بائه الكسر لأهل العلم

)] |] إلى آخر النظم الذي عندي منه صورة تامة بخط المؤلف نفسه ويقع في 138 بيتا.

كما ألف ابن انبوجه في التاريخ كتابه: “الأخبار المهمة في تراجيم خلفاء الأمه” ، وهو كتاب عثرت على الإشارة إليه بعد نشري لمقالتي الأولى. يقول ابن انبوجه متحدثا عن هذا الكتاب: “وبعد فلما من الله علي بتأليف صحيح الأخبار في سيرة المشفع المختار، وكان شرحا جيدا لا يوجد مثله في الحسو ولا في الاختصار في كتب السيرة، كشمس النهار حاويا زبدها ومهمها مجتمع من خمسة وعشرين كتابا صحاح كلها، وكان الشرح على نظم قرة الأبصار يجمع نبذة كافية من خبره عليه الصلاة والسلام ولم أزده شيئا من خبر الخلفاء الأعلام رجوت أن أضع كتابا صغيرا في قدره، كبيرا في خلفاء هذه الأمة المكرمة، اختصرته غاية الاختصار، وأودعته فوائد مهمة فأسميته بالأخبار المهمة في ذكر تراجيم خلفاء الأمة، معتمدا فيه على كتاب السيوطي الكبير في أخبارهم وزائدا له من كتاب الدياربكري في معرفتهم وتراجمهم”.

وعلى ذكر تآليف ابن انبوجه في التاريخ فقد تبين لي بعدما أثرت في مقالتي السابقة من نقاش حول نسبة كتاب “فتح الرب الغفور في تواريخ الدهور” ، هل هو لسيدي عبد الله أم لأخيه أحمد بن سيدي محمد بن محمد الصغير انبوجه، أن الكتاب لسيدي عبد الله، فنسبته له موجودة بخطه في النسخة المخطوطة المودعة في المكتبة العمرية في باريس وقد تم تحقيقه تحقيقا جيدا وجادا في قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة نواكشوط. وكنت قد أشكل علي أنَّ ابنَ انبوجه ذكر في كتاب فتح الرب الغفور أنه ولد سنة 1247هـ، فكيف نوفق بين هذا وبين ما ذكر في نهاية مؤلفه في البلاغة “التحفة الوجيزة” حين قال:

أبياتُها أربعة وتسعونْ ۞ وعامُهُ ألفٌ ورَا وستون

وهذا البيت –كما فهمت في مقالتي السابقة- يجعل تاريخ تأليف الوجيزة سنة 1260هـ، أي أن له 13 سنة حين ألف هذا النص وهو أمر مستغرب. غير أنه بعد إعادة النظر، وبعد التأكد من أن كتاب فتح الرب الغفور لسيدي عبد الله فقد تبين بالاستقراء الواضح أن تأليف الوجيزة كان سنة 1267هـ وليس 1260هـ؛ فقوله: “ورا” تعني 207 بحساب الجمل تضاف إلى ألف وستين فتكون النتيجة 1267، وقد كنت حسبت حرف الراء فقط دون حرفي الألف والواو، من هنا كان استنتاجي السابق غير دقيق.
وعلى هذا الأساس يكون ابن انبوجه قد ألف الوجيزة وله عشرون سنة على الأقل وهو أمر طبيعي خصوصا مع شخص مشهود له بالنبوغ الباهر والاطلاع الواسع والتميز الظاهر.
ولعلي هنا أكون مشمولا بمعنى أبيات العالم الجليل والقاضي الشهير محنض بابه بن اعبيد الديماني :

[| [(

وَضَحَ الحَقُّ يا لبيبُ فسَلِّمْ ۞ إنَّ تسليمَ الحقِّ فيهَ سلامَهْ
ليسَ من أخْطَأ الصوابَ بمخطٍ ۞ إنْ يؤبْ لاَ ولاَ عليْهِ ملامَهْ
حسناتُ الرجوعِ تُذْهبُ عنهُ ۞ سيئاتِ الخطَا وتنفي الملامَهْ
إنما المخطئُ المسِي من إذا مَا ۞ وضحَ الحقُّ لجَّ يحمِي كلامَهْ
)] |]

ومن تآليف ابن انبوجه رحمه الله “طرة على عُقُود الْجُمَانِ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي وَاْلبَيَانِ للسيوطي” ولم يتمها، وهي موجودة بخطه.

ولابن انبوجه كذلك رسالة بعنوان: “التنبيهات الواضحات فيما جاء في الباقيات الصالحات” ، وقد عثرنا على بدايته التي يقول فيها: “أما بعد فهذا كتاب سميناه بالتنبيهات الواضحات فيما جاء في الباقيات الصالحات، جعله الله خالصا لوجهه الكريم ونافعا لمن عوَّل عليه في التعلم أو التعليم..” إلخ

ولابن انبوجه رسالة في شرح صيغة من صيغ الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، يقول بعدما أتمها: “وقال الجامع له: انقضى يوم السبت السادس من شوال سنة خمس وستين ومائتين وألف عرفنا الله خيرها ووقانا شرها، على يد ناقله عبد الله بن محمد بن محمد الصغير بن انبوجه غفر الله له ذنوبه وستر عيوبه آمين”.

ولابن انبوجه تعاليق وإشارات تدل على التحقيق والتدقيق والضبط ويضعها غالبا على الكتب التي طالعها، فتارة تتعدد تلك الإشارات مثل تعليقاته على نسخته من معاهد التنصيص لعبد الرحيم العباسي، فقد وضع عليها هوامش كثيرة وتارة تكون موجزة. ونجده يضع على نسخة كانت بين يديه من الكتاب لسيبويه ملاحظة دقيقة هذا نصها: “فائدة: كلّما رأيت في هذا الكتاب لفظَ: قال أبو الحسن، فاعلم أنها زيادة ملحقة ليست من الأصل ألحقها أبو الحسن الأخفش في نسخته وهو تلميذ المصنف رحمه الله تعالى بمنه آمين. وكذلك كل نقل رايتَه في المتن عن أبي عثمان المازني فهو ملحق أيضا لأنه تلميذ الأخفش والحرمي وهما تلميذا سيبويه رحمهم الله”.

وفي الختام فإن المكتبة العمرية تضع بين يدي الباحثين في التاريخ والثقافة الموريتانية وثائق ونصوصا عديدة، فقد كانت سلطنة الحاج عمر الفوتي ومن بعده ابنه أحمدو المدني مثابة للموريتانيين ومَرَادًا لأعيانهم وتجارهم، فجاءوا إليها بتجارتهم ومخطوطاتهم وأشعارهم وتصوفهم. وعلى العموم ظلت مناطق الحوض وأفلة وتيشيت على علاقة وطيدة بالحاج عمر وبابنه، وهي علاقة طبعها التحالف والتخالف، والتناصر والقتال، فكان بعض المجموعات الحوضية والأفلية والتيشيتية تناصر الحاج عمر بينما حاربه البعض وقاوم توسعه وهيمنته. ومن أبرز المواضيع التي يمكن للباحثين أن يعمقوها في هذا المجال ويحفروا فيها علاقة إمارة أولاد امبارك وخصوصا سلطنة أهل بهدل التي أطاحت بها جحافل الحاج عمر الفوتي، وأزاحتها نهائيا من منطقة باغنة، من جهة وتحالف إمارة مشظوف الناشئة مع سلطنة الحاج عمر.

سيدي أحمد ولد الأمير
باحث موريتاني مقيم في قطر
للاتصال بسيدي أحمد ولد الأمير:
ahmeds@aljazeera.net
ouldlemir63@gmail.com

اترك رد