نفتح اليوم نافذة على أدب المراثي (التآبين) ونبدؤها بما ورد عن الكلبي قال عاش عبيد بن شرية الجرهمي ثلاثمائة سنة وأدرك الإسلام ودخل على معاوية ابن أبي سفيان رضي الله وهو خليفة فقال له معاوية حدثني بأعجب ما رأيت قال مررت بقوم يدفنون ميتا لهم فلما انتهيت إليهم دمعت عيناي فتمثلت بقول الشاعر:
يا قلب إنك من أسـماء مـــــغرور*** فاذكر وهل ينفعــــــــنك اليوم تذكير
قد بحت بالحب ما تخفيه من أحد *** حتى جرت بك إطــــــلاقا محاضير
تبغي الأمور ومـا تدري أعاجلها *** أدنى لرشـــــــــــدك أم ما فيه تأخير
فاستقدر الله خـيرا وارضـــين به *** فبينما العسر إذ دارت ميــــــــــاسير
وبينما المرء في الأحباب مغتبطا *** إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
يبكي الغريب عليه ليــس يعرفه *** وذو قرابتــــــــــه في الحي مسرور
فقال لي رجل إن هذا الشعر للرجل الذي كنا ندفنه حالا وأنت الغريب تبكي عليه لست تعرفه وهذا الذي خرج من قبره وهو أمس الناس به رحما وأسرهم بموته فقال له معاوية لقد رأيت عجبا.
والميت هو حنظلة بن نهد بن زيد لم يدفن ثلاثة أيام حتى أتاه من كل أوب ومن كل حي وجوههم فقامت الخطباء بالتعزية وقيلت فيه الأشعار حتى عد ذلك اليوم من مواسم العرب.
فلما وري في حفرته قام جديلة بن أسد بن ربيعة فقال: أيها الناس هذا حنظلة بن نهد فكاك الأسير وطارد العسير فهل فيكم اليوم مجاز بفعله أو حامل عنه من ثقله كلا وأجل إن مع كل جرعة منكم شرقا وفي كل أكلة لكم غصصا لا تنالون نعمة إلا بفراق أخرى ولا يستقبل معمر يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله ولا يجد لذة زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبله من رزقه ولا يحيى له أثر إلا مات أثر إن في هذا لعبرا ومزدجرا لمن نظر لو كان يصيب أحد إلى البقاء سلما أو يجد إلى البعد عن الفناء سبيلا لكان ابن داوود المقرون له بالنبوة ملك الإنس والجن ثم أنشأ يقول:
وهذا صاحب الملكين أ ضحـى*** تخرق في مصـانعــه المـــــــنون
فكان عـــــــــــــليه للأيام دين*** فقد قضيت عن المرء الديـــــــون
وخانته العصا من بعدمــــــا قد*** أتى ميـــــــتا له حــــين فحــــين
على الكرسي معتـــمــــداعليه *** يرق المـــــــــــد فــيه والجــبين
يسير بمـــــرتع لا فـــــيء فيه *** تحارالشــــــــمس فيه والعيـــون
وتضحى الجن عاكــــفةعلــيه *** كماعكـــــفت على الأسـد العرين
وسخرت العــــيون له جمـيعا *** علـــــــــــيه الطيرعاكـــفة تدين
فلم أرمثـــــــــــله حيـــا وميتا *** على الأيــــــــــام كان ولايكـون
إلى أن قال:
وقدملك الملوك وكل شــــــيء *** تدين له الســهولة والحــــــزون
فأفنى ملكــــه مرالــــــــــليالي *** وخون الدهرفــي ما قـــــد يخون
وكل أخــي مكاثــــــــرة وعز *** إلى ريـب الحوادث مستــــــــكين
كذاك الدهريفــــــني كـــل حي *** ويعقب بعد قوته اليقـــــــــــــين
ثم قام ابن كثير بن عذرة بن سعد بن تميم فقال:
أيهاالناس هذاحنظلة بن نهد معدن الحكماء،وعزالضعفاء،ومعطي اليانع،ومطعم الجائع،فهل منكم له مانع؟أولما حل به دافع!.
أيهاالناس،إنماالبقاء بعدالفناء،وقد خلقنا ولم نك شيئا،وسنعود إلى ذلك. وإن العواري اليوم والهبات غدا، ورثنا من قبلنا ولنا وارثون،ولابد من رحيل من محل نازل،لايستتب به سروربيسرإلاعقبه حصيرعسر. ولاتطول فيه حياة مرجوة إلااخترمها موت مخوف،ولايوثق فيه بمخلف باق إلايستتبعه سابق ماض،فأنتم أعوان للحتوف على أنفسكم،لها بكل سبب محتزر،ومعازبمنتظر،فهذه أنفسكم تسوقكم إلى الفناء،فلم تطلبون البقاء! اطلبوالخيرووليه،واحذرواالشروموليه،واعلموا أن خيرا من الخيرمعطيه،وإن شرامن الشرفاعله،ثم أنشأ يقول:
ياقلب أنك من أسماء مغرور الخ الرائية السابقة الذكر.
تعليق: هذه الخطب أصحابها حكماء حنفيون من سادات العرب وقد أورد أصحابها فيها معاني صريحة على ذلك منها (وإن العواري اليوم والعطايا غدا) وفيه إشارة لإيمانهم باليوم الآخر وفي قول أحدهم (ولا يستقبل معمر يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله) .
ذو الملكين هو سليمان بن داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام قال تعالى وورث سليمان داوودعليهما وعلي نبينا السلام وقدجاء في القرآن الكريم) وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين الآيات من سورة النمل.
(يتواصل بإذن الله)
الحمد لله
الحمد لله على عودة الموقع وكتّابه من إجازاتهم الصيفية فقد اشتقنا كثيرا إلى مواضيعكم الشيقة فلا تحرمونا منها بارك الله فيكم