شهدت الليلة الثانية من أماسي أسبوع انيفرار الثقافي، إلقاء محاضرة الأديب والباحث محمد فال بن محمد محمود بن زياد رصد من خلالها ملمح اعتداد أبي تمام بشعره و المتنبي بنفسه من خلال ديوانيهما، وقد جمع الباحث فأوعى واختار نصوصاً جميلة، واستطاع بحسه البحثي وخبرته النقدية أن يلم بجوانب الموضوع ويسلط الضوء على القواسم المشتركة بين الشاعرين الحكيمين الفحلين، وفيما يلي نص المحاضرة في انتظار نشرها بالصوت والصورة إن شاء الله تعالى:
الحمد لله و الصلاة و السلام الأتمان الأكملان على سيد الكونين و على آله و صحبه و من اقتدى بهم إلى يوم الدين
و بعد:
فإن معظم من يتعاطون دراسة الأدب العربي مجمعون أن أبا تمام حبيب بن أوس الطائي كان أول من كسر عمود الشعر العربي و جاء بأنساق تعبيرية لم يسبق إليها و اختط لشعره أسلوباً جديداً يميزه عن شعر العرب ونمط المولدين، و كان ديوان هذا الشاعر المتوفى سنة 231 مثار جدل واسع بين معجب و منتقد و محلل يستجلي و يستكنه حقيقة حبيب، ولم تمض عشرون سنة على صدور هذا الديوان الذي خرج بخط الشاعر بيمينه حتى صدر له ما يزيد على عشرين شرح أو تعليق من أشهرها شرح التبربزي.
و قد شكل شعر أبي تمام نموجا فريداً في الشعر العربي حسب كثير من الدارسين المتمرسين فلم يلحق به في فنيته و تمكنه و إحاطته و عمقه غير أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي الجعفي الكوفي، ذلك أن التحنث في محرابه و الغوص فيما وراء خياله يجف دونه ثرى التأمل و تقلق رحالته، وقد نسب كثير من الدارسين و المؤرخين أبا الطيب إلى كندة نظراً إلى أن الجعفة كانت محلة كندة قديماً، لكن بعض خبراء الأنساب و مدققي الأخبار نسبوه إلى بني سعد العشيرة من مذحج، ولئن كانت صاعقة المتنبي قد شغلت الناس عن إعصار أبي تمام فإن للطائي فضل السبق، فقد سهل المداخل، و مهد المنافذ، و وطد المسالك، و قد استأنس أبو الطيب بأبي تمام في مواقف كثيرة، و كان المتنبي يحس أنه و أبوتمام من طينة واحد و لذاك قال: “أنا و أبو تمام حكيمان و الشاعر البحتري”، و قد طوف الشاعران في الآفاق و استدرا غمامة الكلمة، و قصدا سوق نَفاقها، و انتهى الأمر بأبي تمام قائماً على بريد الموصل، أما أبو الطيب فقد قتله فاتك بدير العاقول قرب الفرات سنة354 في خبر يطول ذكره.
و قد حظي ديوان أبي الطيب باهتمام الباحثين حتى في حياة الشاعر فأول جامع له هو العبقري ابن جني شرحه بالفسر في مجلدين، وجاء الكعبري و البرقوقي و غير أولئك ممن لهم اهتمام بشعر أبي الطيب وتفضيله على غيره و تحامل بعض من ناوأ الشاعر على ابن جني فقالوا هذا الأحمر الأعور و تحامل بعيداً عن الموضوعية،
و قد سمعت الباحث للغوي ول البان يقول إن شرح ابن جني للديوان إنما هو في الحقيقة شرح المتنبي لديوان المتنبي و هي ملاحظة نفيسة، وقد خص أبو العلاء كلاً من الرجلين بكتاب فسمى الأول ذكرى حبيب، و أطلق على الثاني معجز أحمد تناول فيهما تحليلات لبعض أشعارهما من زاوية عبقريته.
و قد فتن أبو تمام بشعره و كان يرقص قصائده كما ترقص الولائد، و يعتبرها عرائس تزف إلى الممدوح و مرة يصورها سيارات تحوب الأرض إلى غير ذلك، استمع إليه و هو يمدح أباجعفر محمد بن أبي مروان:
قد نابت الجــزع من أرويـة النوب *** واستحقبت جدة من ربعها الحقب
الوى بصبرك إخلاق اللوى و هفا *** بلبك الشوق لما أقفر اللبب
من كل ممــكورة ذاب النعيم لها *** ذوب الغمام فمنهل و منسكب
أطاعها الحسن و انحط الشباب على *** فؤادها و جرت في روحها النسب
حتى إذا جاء بمراسيم المدح ووقف على تفاصيله و بلغ فيه المقصود، التفت إلى قصيدته قائلاً:
خــذها مغـــربة فــي الأرض آنسة *** بكــل فهم غــــريب حـــين تغـــترب
من كل قـــافـية فيـــها إذا اجـتليت *** من كل ما يجــــتليه المدنف الوصب
الجد و الهزل في توشـــيع لحمتها *** والنبل و السخف و الأشجان و الطرب
لا يستقى من جفير الكتب رونقها *** و لم تزل تســـتقي من بحرها الكتب
حسيبة في صميم المدح منصبها *** إذ أكـــثر الشعر مــلقى ما له حسب
أما كلمته التي يمدح الأمير التغلبي مالك بن المالكين فيقول في مطلعها:
لو أن ربـــعا رد رجـــــع جــــــواب *** أو كف من شأويــه طول عتاب
لعــــذلته في دمـــــنتين بـــرامة *** ممــــحوتين لــــزيــنب و رباب
ثنتان كالـــقمــرين حف سناهما *** بكـــواعب مـــثل الدمى أتراب
من كل ريم لم ترم ســــوءاً و لم *** تخلط صـــبى أيــــامها بتصاب
أذكت عليه شهاب نار في الهوى *** بالعذل وهـنا أخت آل شهاب
عــذلاً مشــــوباً بالجـــنون كأنما *** قرأت به الــــورهاء شطر كتاب
أوما رأت فودي من نسج الصبى *** ورأت خضــاب الله و هو خضاب
لا جود في الأقوام يعرف ما خلا *** جوداً مقـــيماً فـــي بني عتاب
ويتفنن الشاعر في إطراء مالك و تعداد مناقبه و مزاياه و فوائده، وكبير مساعيه فإذا آذنت القصيدة بالرحيل قال:
يا خاطــــــبا مدحــي إليه بجــــــوده *** و لقد خطــبت قيـــليلة الخـــطاب
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى *** و اللــــيل أســــود رقعــة الجلباب
بكـــرا تــورث فـــي الحياة و تنـــثني *** في السلم و هي كثيرة الأسلاب
و يـــزيـــدها مــــر اللــــيالي جـــدة *** وتـــقادم الأيـــام حــــسن شــباب
و انصت إليه في إحدى حولياته يمتح قليب أحد الأمراء فيقول:
لقد أخذت من دار مـــاوية الحــقب *** أنــحل المغـــاني للبلى هي أم نهب
و عهدي بها آذ ناقـض العهد بدرها *** مراح الهــــوى فيها و مسرحه الخصب
مؤزرة من صـــنعة الــــوبل و الندى *** بوشي و لا وشي و عصب و لا عصب
تحـــير في آرامها الحسن فاغتدت *** قــــرارة من يصـــبي و نجعة من يصبو
ســواكن في بر كما سكن الدمى *** نوافـــر من ســــوء كــــــما نفر السرب
كواعــب أتراب لغـــيداء أصــــبحت *** و ليس لها في الحسن شكل و لا ترب
و يمعن الشاعر في مدح الأمير و يفيض في ذكر مآثره و عظيم مساعيه حتى إذا بدأ صحو منهلها داعب قصيدته قائلا
إذا سبب أمسى كهاما لدى امرئ*** أجــــاب رجائي عندك السبب العضب
و سيـــــارة في الأرض ليس بنازح *** على وخدها حزن سحيق و لا سهب
تذر ذرور الشـــــمس في كل بلدة *** و تمضـــي جمــــوحاً ما يرد لها غرب
عذارى قـــواف كنــــــت غير مدافع *** أبا عـــذرها لا ظـــلــم ذاك و لا غصب
إذا أنـــشدت في القوم ظلت كأنها *** مســـرة كــــبر أو تــــداخلها عــــجب
مفصــــلة باللــــؤلؤ المنــــتقى لها *** من الشــــعر إلا أنــــه اللـــؤلؤ الرطب
أما كلمته التي يمدح فيها أحد الأمراء التي يقول في مطلعها:
على مثــــلها من أربع و ملاعب *** أذيلت مــصونات الـــدموع الســـــواكب
أقول لقرحان من البين لم يضف *** رسيس الهوى تحت الحشى و الترائب
أعني أفرق شـمل دمعي إنني *** أرى الشــــمل مــــنه لــيس بالمتقارب
فإنه يصور الشعر تصويراَ غريباَ حيث يجعله كالنعم المراح على الممدوح:
إليك أرحــــنا عازب الشـــــعر بعدما *** تمهل في روض المعاني العجائب
غرائب لاقــــــت في فنائك نسجها *** من المـــجد فهي الآن غير غرائب
و لو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت *** حياضك مــنه في العصور الذواهب
و لكنه فيض العـــقول إذا تــــــجلت *** سحائـــب منـــه أعقبت بسحائب
أما داليته التي يمدح بها نجل يزيد بن مزيد فصرح أن ذكر الشرف إذا لم يكن شعرا فهو غير معتبر عند العرب
فما لم تسر به الركبان شعراً يعد شرفا محدوداً فيقول:
طلل الجميع لقد عفوت حمـيداً *** وكفى على رزئي بذاك شهيدا
دمـــن كـــأن البين أصبح طالباً *** دمـــناً لــــدى آرامــــها و حقودا
قربت نازحة القلوب من الجوى *** وتركت شـــــأو الدمع فيك بعيدا
إلى أن يقول:
أبقى يـــزيد و مــزيد و أبـــــوهما *** وأبوك ركنك في الفخار شديدا
سلفوا يرون الذكر عــــقباً صالحاً *** و مضــــوا يعـــدون الثناء خلودا
إن القوافي و المسـاعي لم تزل *** مثل النظــــام إذا أصــاب فريدا
هي جـــوهر فــــرد فــــإن ألفته *** بالشعـــر صــــار قلائدا و عقودا
في كل معـــترك و كـــــل مقامة *** يأخــــذن مــــنه ذمــة و عهودا
و إذا القصائد لم تكــــن خفراؤها *** لم ترض منها مشخدا مشهودا
من أجل ذلك كانت العـرب الألى *** يدعـــون هذا السؤدد المحدودا
و تند عندهم العلى إلا عــــلى *** جـــعلت لها مـــرر القصيد قيودا
أما البائية الأخرى فيقيم فيها تناسبا بين جود الممدوح و جودة القصيدة و أن الغريب يستحق الأغرب فيقول:
أحبب بأيام العــقيق و أطيب *** والعيش في أظلالهن المعجب
و مصيفهن المستظل بظله *** سرب المــهى وربيعهن الطيب
أصل كبرد العصب نيط إلى ضحى *** عبق بريحان الرياض مطيب
فإذا اكتملت مراسيم المدح في أبهى صوره تكلم عن بواعثه فقال:
نفق المديح ببابه فكــــسوته *** عقــداً من الياقوت غير مثقب
أولى المديح أن يكــون مهذبا *** مــــا كان منه في أغر مهذب
غربت خــلائقه و أغرب شاعر *** فيه فأحسن مغرب في مغرب
لما كرمت نطقت فيك بمنطق *** حـــق فلــــم آثم ولــم أتحوب
و متى امتدحت سواك كنت متى يضق *** عني به صدق المقالة أكذب
و عندما حصلت بينه جفوة مع قاضي الجند الفاتك الشهير صاحب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أحمد بن أبي دؤاد لم يجد من شفيع و وسيط إلا الشعر فقال:
سقى عهد الحمى سبل العهاد *** و روض حــــاضر منه و باد
نزحـــت به ركــــي الـــــدمع لما *** رأيت الدمع من خير العتاد
و يستنفد مقومات الإشادة و الاستعطاف و يستنزف معاني المدح المأثور و عير المأثور بعد ذلك يدل بقصيدته فيقول
إليــك بعـــثت أبــكار المــــعاني *** يلـــــيها سائــــق عجل و حاد
جوائر عن ذنابـى القـــوم حيرى *** هوادي للجــــماجم و الهوادي
شداد الأسر سالمـة النــواحي *** من الإقــــواء فــــيها و السناد
يذللـــها بــــذكرك قــــرن فـــكر *** إذا حرنت فتسلس في القياد
لها في الهاجس القدح المعلى *** و في نظم القــوافي و العماد
منزهة عن الســـرق المــــوري *** مكرمة عن المـــعنى المــعاد
تنصــــل ربـــها مــــن غير جرم *** إليـــك مـــــن النصيحة و الوداد
و من يأذن إلى الواشين تسلق **** مسامــــعه بألــــسنـة حداد
أما رائعته الدالية المثقفة فهي الدر و المرجان و السابقة الحذاء و الطعنة النجلاء و الضربة الأخدود و البشرى و الرقية
يقول في مستهلها:
أرايــــت أي ســــوالـــــف و خدود *** عــنت لنا بين اللــــوى و زرود
أتراب غافــــلة اللـــيالي ألــــــفت *** عقــد الهوى في يارق و عقود
بيضاء يصرعــــها الصبا عبث الصبا *** أصـــلاً بخــــوط الــبانة الأملود
وحشية ترمي القلوب إذا اغتدت *** وسنــــى فما تصطاد غير الصيد
لا حـــزم عنــــد مجرب فيها و لا *** جبــــار قـــــوم عـــــندها بعـنيد
فإذا بلغ المقصود في غرائب المدح و شوارد المآثر هالته قصيدته قال:
خذهــــا مثقــــفة القــــوافــي ربها *** لســــوابغ النعـــماء غير كنود
حــــذاء تمــــلأ كــــل أذن حــــكمة *** و بلاغـــة و تــــدر كـــل و ريد
كالطـــعنة النــــجلاء مــــن يـــد ثائر **** بأخـــيه أو كالضربة الأخدود
كالدر و المـــرجــــان ألـــف نظـــمه *** بالشــذرفي عنق الفتاة الرود
كشـــقيقة البرد المنــــمنم و شيه *** في أرض مـــــهرة أو بلاد تزيد
يعطى بها البشرى الكريم و بحتبي *** بردائها في المحفل المشهود
بشرى الغـــني أبي البنات تتابعت *** بشــــراؤه بالفـــــارس المولود
كرقى الأســاود و الأراقــــم طالما **** نزعت حــماة سخائم و حقود
أما كلمته بالأجرع الفرد فيصورها عقدا من الشعر يهان لها ما في البدور و تكرم إكرام الوفد حيث يقول:
تجرع أسى قد أقفر الأجرع الفرد *** و دع جفن عين بحتلب مائها الوجد
إذا انصرف المحزون قد قل صبره *** ســـؤال المـــــغاني فالـــبكاء له رد
و هي على كثافتها و تفننها و غوصها في قيعان المعاني تعكس تمكن الشاعر و إحاطته بقاموس الشعر و المدح على الخصوص، فإذا آذن بالانصراف توجه إلى القصيدة فقال:
و مثلك قد خـــولته المــدح جازيا *** و إن كـــنت لا مثــــل لــديك و لا ند
نظمت له عقدا من الشعر تنضب *** البحــــــار و ما دا ناه من خليها عقد
تسير مسير الشمس مــطرقاتها *** و ما السير منها لا العنيق و لا الوخد
تروح و تغـــدو بــــل يراح و يغتدى *** بها و هــــي حيرى لا تروح و لا تغدو
تقطـــع آفـــاق البــــــلاد سوابقا *** و ابـــــــتل منــــها لا عـــــذار و لا خد
غـــرائب مـــا تنـــــفك فيها لبانة *** لمرتـــــجز يحــــــدو ومــــرتحل يحدو
إذا حضـــرت ساح الملوك تخيلت *** عقــــائل منــــها غـــير ملموسة ملد
أهين لها ما في البدور و أكرمت *** لــــديهم قـــــوافيها كـــما يكرم الوفد
و الأمثلة أكثر من ذلك و لكن نقتصر على هذا القدر
أما أبو الطيب فقد فتن بنفسه و أفتخر بتميزه و تمكنه أليس هو القائل في كلمته الشهيرة:
لك يا منازل في القلوب منازل *** أقفرت أنت و هن منك أواهل
يعلمن ذاك و ما علمت و إنما *** أولاكـــــما يبكي عليها العاقل
إلى أن يقول:
لا تجسر الفصحاء تنشد هاهنا *** بيــــتا و لكــــني الهــــزبر الباسل
ما نال أهــل الجـــاهلية كـلهم *** شعري و لا سمعت بسحري بابل
و إذا أتــــتك مذمتي من ناقص *** فـــهي الشـــهادة لي بأني كامل
و المتنبي هو القائل في ملحمته الخالدة:
ليالي بعد الظاعنين شكول *** طوال و ليل العاشقين طويل
يبن لي البدر الذي لا أريده *** و يخفين بدراً ما إلـــيه سبيل
حتى إذا بلغ بسيف الدولة ما لم يبلغه ممدوح و خلع عليه من جميل الأوصاف و كامل السمات ما لم ينله أحد تذكر نرجسيته فقال:
أنا السابق الهادي إلى ما أقـوله *** إذ القول قبل القائلين مقول
و ما فــــي كلام ممـــا يـــريبني *** أصـــول و لا للــقائليه أصول
ألام على ما يوجب الحب للفتى *** و أهـــدأ و الأفكار في تجول
و في قافيته الشهيرة تراه يقارن نفسه بالممدوح مقارنة طريفة فيقول:
أتراها لكثرة العشاق *** تحسب الدمع خلقة في المآق
حتى يقول:
ليس قولي في شمس فعلك كالشمس *** ولكن كالشمس في الإشراق
شــــاعر المــــجد خــــدنه شاعر اللفظ *** كــــلانا بــــر المــــعاني الدقاق
لم تـــــزل تســــمع المـــــديح و لــــكن *** صهـــــيل الـــــجياد غير النهاق
و المتنبي صخرة الوادي و هو الجوزاء لا تطاله أيدي المتناولين إنه أسمى و أعز:
أمن ازديارك فـــــي الدجى الرقباء *** إذ حـــــيث أنت من الظلام ضياء
قلق المليحة و هي مسك هتكها *** و مسيرها في الليل و هي ذكاء
فإذا قذف ببليغ المديح و جزيل الثناء و فاخر الإطراء ممدوحه و نزهه أن يبلغ مداه تذكر نفسه فقال:
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت **** و إذا نطقت فإنني الجوزاء
و إذا خفيت على الغبي فعاذر *** أن لا تـــــــراني مقلة عمياء
و في مقصورته التي قرض منصرفه من مصر:
ألا كل ماشية الخيزلى *** فــــدا كــــــل ماشية الهيدبى
و كل نــــــــجاة بجاوية *** خنوف و ما بي حسن المشى
و لكنـــهن حبال الحياة *** و كيــــد العــــداة و مـيط الأذى
فإذا أبرمه هجاء غريمه تنقصاً و تفكها ثارت فيه حميا الكبرياء فقال:
و بتـــنا نقــــــبل أسيافنا *** و نمسحها من دماء العدى
لتعلم مصر و من بالعراق *** و من بالعواصم أني الفتى
و أني وفيت و أني أبيت *** و أني عـتوت على من عتا
و في مديحه لبني عمران في قصيدته التي مطلعها:
سرب محاسنه حرمت ذواتها *** دان الصـــــــفات بعيد موصوفاتها
أوفى فكنت إذا رميت بمقلتي *** بشــــــراً رأيت أرق من عبراتها
و كأنــــها شــــــجر بدت لكنها *** شجر جنيت الموت من ثمراتها
إني على شغفي بما في خمرها *** لأعـــف عما في سرابيلاتها
و ترى المروة و الفتوة و الأبوة *** فــي كــــل ملــــيحة ضــــــراتها
هــــن الثلاث المنعاتي لذتي *** في خـلوتي لا الخوف من تبعاتها
و مطـــالب فيها الهلاك أتيتها *** ثبــــت الجــــنان كــــأني لم آتها
و مــــــقانب بمقانب غادرتها *** أقــــوات وحــــش كـن من أقواتها
و استمع إليه يخاطب الأمير الشاعر المحبوب و المبجل سيف الدولة في رائعته الدالية التي لم يخل حتى غزلها من شحنة الفخر و التميز:
عواذل ذات الخال في حواسد *** و إن ضجيــــع الخود مـــــــني لماجد
يرد يدا عــــــن ثوبها و هو قدر *** و يعصي الهوى في طيفها و هو راقد
و يتنامى هذا الهاجس حتى يتجسد في قوله:
أهم بشـــــيئ و الليالي كـــأنها *** تطـــاردني عــــن كــــونه و أطارد
وحيد من الخـــلان في كل بلدة *** إذا عظم المطــــلوب قل المساعد
و تسعدني في غمرة بعد غمرة *** ســــبوح لها مـــنها علبها شواهد
و أورد نفسي و المهند في يدي *** مــــوارد لا يصـــــدرن من لا يجالد
خليلي إني لا أرى غيــــر شاعر *** فلم منهم الدعوى و مني القصائد
و في الدالية الأخرى التي مطلعها:
لكل امرئ من دهره ما تعودا *** و عادة سيف الدولة الطعن في العدى
فقد بلغ به الفخر مبلغا عظيما حتى قال:
وما الدهــــر إلا من رواة قصائدي *** إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يـــــسير مشمرا *** و غــــنى به مــــن لا يغني مغردا
أجزني إذا أنـــشدت شعرا فإنما *** بشــــعري أتاك الــــمادحون مرددا
و دع كل صوت غير صوتي فإنما *** أنا الطــائر المحكي و الآخر الصدى
و قد صرح أبو الطيب في قصيدته المشهورة التي مطلعها:
وا حر قلـــــباه مــــمن قلبه شبم *** ومن بجسمي و حالي عنده سقم
ما لي أكتم حبا قد برى جسدي *** وتدعـــي حب ســــيف الدولة الأمم
حتى إذا أتم مراسيم المدح و بروتوكولات الثناء أعرب عما في فؤاده فقال:
أنا الذي نظــــر الأعمى إلى أدبي *** وأسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جـــــفوني عن شواردها *** و يسهر الخلق جراها و يختصم
و جاهـــل مــده في جهله ضحكي *** حـــتى أتــــته يد فراسة و فم
إذا رأيـــت نيـــــوب اللـــــيث بارزة *** فلا تظــــنن أن اللــــيث يبتسم
و مهجة مهجتي من هم صاحبها *** أدركـــــتها بجــــــواد ظهره حرم
رجلاه في الركض رجل و اليدان يد *** و فـــــعله ما تريد الكف و القدم
و مرهف سرت بين الجحفلين به **** حتى ضربت و موج الموت يلتطم
الخيل و الليل و البيداء تعـــرفني *** و السيف و الرمح و القرطاس و القلم
و القصيدة مليئة بالفخر و الإعتداد بالنفس، انظر إلى قوله:
ما أبعد العيب و النقصان من شرفي *** أنا الثريا و ذان الشيب و الهرم
و في آخرها يتهم سيف الدولة اتهاما خطيرا مليئ بالسخرية و التألم و الندم و الحسرة:
شر البلاد بلاد لا صــديق بها *** و شر ما يكسب الإنسان ما يصم
و شر ما قنصته راحتي قنص *** شهب البزاة ســــواء فيه و الرخم
بأي لفظ تقول الشعر زعنفة *** تجوز عنــــدك لا عــــرب و لا عجم
هذا عـــتابك إلا إنــــــه مقة *** قـــد ضمــــن الـــــدر إلا أنـــه كلم
و يذكرنا هذا البيت بقول الطائي السابق إلا انه اللؤلؤ الرطب، و نكتفي بهذا القدر و إلا فإن الديوان يعج بأمثاله فلا تكاد تخلو قصيدة لأبي الطيب من هذا الملمح فهو صفة كاشفة في شعره.
و فد طالعت بعض أشعار الشناقطة مما دون في الدواوين فوجت الشيخ سيدي محمد ول الشيخ سيديا سيدنا علماً، نحا منحى أبي تمام في قصيدتين من شعره الرائق فقد قال في الرائية الرائقة:
رويدك آنني شبهت دار *** على أمثالها تقف المهارى
فقد قال في آخرها:
خذوها من بنات الفكر بكراً *** تغير الغانيات و لن تغارا
إلى آخر القصيدة و يقول في مديحيته الشهيرة:
أهلا بمقدم هذا المولد النبوي **** مظاهر الشرف الأمي و الأبوي
إلى أن يقول في آخرها خذها إليك ربيع بنت ليلتها إلى آخر البيت
و بعد فهذه إثارة لهذا الملمح لا ندعي إحاطة و لا استيفاء بل هي استنهاض لهمم الخبراء من أصحاب الفن و المعرفة حتى يسبروا أغوار الموضوع بالبسط و التوسع ممن لهم آلة ذلك و مكنته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين.