عيون سالت بعد فقد عين …

كنت في الأيام الماضية تحت تأثير صدمة الرحيل المفاجئ للعالم المتصوف والسياسي المحنك الداه بن محمد عال –رحمه الله-، وتسبب ذلك في تأخر ظهور هذه السطور إلى الجمهور، ولكنني حمدت الله أن الشارع لم يقيد ذكر محامد الميت بأيام التعزية، فلو سلمنا جدلا بذلك لما استطاعت قرائح الكثير من الشعراء التغلب على مكابح الحزن والأسى، ولما جرت عيون المراثي ولما سالت رسائل الوداع والتأبين.

فالعلم سوف يظل اليوم مكتئباً * ولا يلام إذا ما ظل مكتئبا

كان رحيل الشيخ والعمدة الدَّاه، هو الحدث الأبرز في الأيام الماضية على مستوى مختلف الفضاءات الوطنية عموماً والإيكيدية على وجه الخصوص سواء الواقعية منها أوالافتراضية، ولا غرابة في ذلك فالرجل كان من الطراز الأول، وقد جمع في أديم واحد بين الشريعة والحقيقة، والرواية النقلية والعقلية، والدراية الكسبية والوهبية، والثقافة الموسوعية والمتخصصة، بالإضافة إلى سعة الاطلاع والإحاطة بقضايا الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي في موريتانيا.

من شبَّ في كل الأمور محمداً * وعلا فسموه محمد عال

كان الشيخ العالم الكامل محمدعال وشقيقته خديجة هما ثمرة الزواج المبارك الذي تم بين الشيخ محنض بن محمذن بن الأمين باب بن عبيدي بن محمذن بن حوبك والمرأة الصالحة الشفاء بنت أحمد بن محمذن فال بن عمر، فنشأ الفتى محمدعالي في بيت أبهمي جمع بين ذرية الشيخين عمر وعثمان، بيت من شعَر يقوم على أربع قواعد هي العلم والصلاح وطبع مضغ القتاد والقناعة عما لدى الناس، وقد نهل الفتى وعلَّ – طيلة مكثه بين مضارب أهل أعمر إديقب- من معين الشريعة الزلال وترقى في الحقيقة من الجمال إلى الجلال فالكمال، وسرت طباع أخواله وأخلاقهم في عروقه وخالط حبهم شغاف قلبه. وقد ركز الشيخ الكامل محمد عالي بعد رجوعه إلى مضارب قومه على نشر العلم والعمل به، وكان ابنه البكر الداه أحد مريديه وتلامذته فحول إليه معارفه ومهاراته وخبراته العلمية والعملية المتراكمة، كما ترك الإعجاب بأهل انيفرار وتقديرهم واحترامهم كلمة باقية في عقبه.

والفقه من أسف عليه لقد توى * والنحو فاض بمدمع مهطال
والســــــــــنة الغرا عليها غمة * وعلى بنات الحارث بن هلال

موازاة مع التعليم المحظري اجتهد الفتى الداه في الحصول على أعلى الشهادات في التعليم النظامي، ولا شك أن خلفيته الصوفية وذوقه الأدبي كانا من أهم بواعث اختياره لموضوع الأطروحة التي تخرج بها من المدرسة العليا لتكوين الأساتذة، حيث قرر أن يعمل على تحقيق كتاب “كرامات أولياء تَشُمْشَ” للشيخ العالم الصالح محمد والد بن خالنا رحمه الله. ولا شك أن هذا الاختيار كان محفوفاً بالمخاطر والصعوبات، إذ من المعروف عن الشيخ والد تأثره بالنثر الفني الأندلسي الذي يكثر أصحابه من توظيف النصوص الشعرية والعبارات والأمثال السائرة بالإضافة إلى استطراد القصص والأحداث التاريخية والشخصيات الشهيرة أثناء السرد، وهما سيتطلب من المحقق جهداً كبيراً خاصة إذا علمنا أن الأطروحة نوقشت مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، أيام كان العلم محمولا في صدور الرجال لا في الهواتف والحواسيب المربوطة بالانترنت. ولكن الباحث الشاب قرر شدَّ الرحال إلى انيفرار، وعمل طيلة شهر على مطالعة الكتب والمخطوطات في النهار ومحاورة الشيوخ والفتيان في الليل، وقد استطاع الحصول على نسخة مكتملة ونادرة من المخطوط في مكتبة العلامة عبد الله بن أحمد بن مناح فجعلها معتمده وبدأ مباشرة في تدوين الملاحظات، وقد حدثني الثقة أن الفقيد كان عالي الهمة وقد استطاع تحقيق جميع أهدافه في فترة وجيزة بفضل نباهته وجديته في البحث وحرصه على متطلبات الأمانة العلمية من عزو وتدقيق وإحالة للمصادر.

بمفقد الشيخ أمسى العلم مكتئباً * والجهل من فقده في الناس بسام
تبكي الأصول ويبكيه الوصـــول إلى * فــــــــــــهم الأصول إذا ما عز إفهام

حرص الشيخ الدَّاه على دراسة وفهم المجتمع والواقع الموريتاني ومكنه احتكاكه مع الطلاب المنحدرين من مختلف ولايات الوطن والمنتمين لمختلف التيارات والمشارب أن تكون لديه خلفية حول القضايا السياسية، فأصبح سياسياً محنكاً ووجيهاً معتبراً كما استطاع أن يكسب احترام وتقدير صناع القرار، وقد وظف علاقاته الواسعة بعد انتخابه عمدة لبلدية ابير التورس في سبيل حشد الدعم لبلدية ريفية تابعة لوصاية إدارة مركزية لا ترغب في دعم اللامركزية الوليدة.

من هو حاتم دهره وإياسه * من هو قطب رحا بني ديمان
واها له مهما تلم مسائل * في دوهــــــــا يتشابه الضدان

من ناحية أخرى، فقد أمسك الفقيد بناصية الفتوة وزمامها فأكمل شروطها وأصبح يشار إليه بالبنان في دسوت نوادي بني ديمان، ويتفق الجميع على أن حديث الداه بن محمد عالي لا يمل لأنه يأخذ فيه من كل فن بطرف، جامعاً بين الأشباه والنظائر والنكت واللطائف والملح والأشعار والفوائد والأخبار بالإضافة إلى عضه بالنواجذ على أخلاق القوم وتشبثه بسمتهم وحفظه لشعرهم وقصصهم ونوادرهم.

وإذا تكلم في مجال لم يـــــــكن * مـــتعقبا في ذا المجال بحال
وإذا الرجال تقاعسوا عن مشكل * أبدى الصواب لهم بلا إشكال

يعتبر الداه أحد الشعراء المجيدين المطبوعين ولكنه مقل ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، وقد تناولت مقطعاته أغلب الأغراض الشعرية الشريفة فمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم وعترته الطاهرة، ورثى أعيان قومه، وتوسل إلى الله في أوقات وأماكن استجابة الدعوة، وأرشد ونصح واعتبر من صروف الدهر، وقد لفتت انتباهي رسائل مشفرة اشتملت عليها قطع وقصائد للفقيد نشرها مؤخرا خليلي وصديقي محمدن بن امد عبر صفحته الثرية، حاول الفقيد من خلالها تنبيه المقربين منه إلى قرب رحيله، ولا غرابة إذا نظر العارف بالله إلى الغيب من ستر رقيق، فمن يتأمل في قطعته الجميلة التي يخاطب بها لداته “عصر أولاد جعفر” يتبين من بين السطور ان الداه يعزي أصحابه في نفسه ويهيئهم لرحيله ويتجلى ذلك من قوله:

قد جاءك النذير مذ فترة * ولم تــــصخ للمنذر المعذر
أما ترى الأتراب في قلة * فكم تبقى من بني جعفر

أما اللامية التي عقد من خلالها أسماء أشياخه مواصلا بذلك نظم أشياخ الطريقة القادرية، فتحمل رسالة ضمنية تشي بانتهاء مهمته وأنه لاحق بأشياخه قريباً وعلى خليفته أن يستعد لتولي المهام وينوء بالعبء ويهتم بتدريس الأشباح وتربية الأرواح انطلاقاً من معين التصوف الصافي المعتمد على الورد القادري الذي أخذه عن شيخه ووالده “مزال احليبْ” خالياً من الشوائب والبدع.

تزود في الشباب الزهــــد زاداً ** ونـــعم الزهد بعد الموت زادا
فسل طلاب من يدري أشيخ؟ ** وسل طلاب من يعطي أجادا؟

أما الشهادة والإشادة بخصال الفقيد من علم وعمل وورع وتقى وزهد وصلة رحم فقد كفاني الشعراء مؤونتها، حيث حاولت عشرات المراثي الجميلة التعبير عن حجم الخسارة ووصف الفراغ الذي سببه غياب الفقيد عن المشهدين المحلي والوطني … رحم الله الشيخ العالم والعمدة المحترم الداه بن محمد عالي وجعل قبره روضة من رياض الجنة.

وإن يك قبره قد خص أرضا * فهذا ذكره عم البلادا

 

يعقوب بن اليدالي

اترك رد