أسهب باحثو الأدب القدماء منهم و المحدثون في المفاضلة بين أبي تمام حـبيب بن أوس الطائي، و أبي الطيب المتنبي الجعفي – و الجعفة محلة بالكوفة- و قد روي أن المتنبي من سعد العشيرة و الله أعلم. و قد نشرت مقالات، و عقدت ندوات، و نظمت محاضرات، و ألفت كتب؛ في المفاضلة و المقارنة بين الشاعرين. و كان و ما زال لكل أشياعه و أنصاره و جمهوره؛ الذي لا يبغي به بدلا تماما مثل الفرزدق و جرير .و لئن كان إعصار أبي الطيب قد ملأ الدنيا و شغل الناس عن صاعقة أبي تمام، فإن للطائي فضل السبق و لكل منهما ما يذكر به.
و قد لفت انتباهي – و أنا أطالع الديوانين في سياحة هذه العطلة الصيفية بين الدواوين-، أن أبا تمام كان مفتونا بشعره يطري قصائده و يرقصها و “يماريها “- كما نقول في الحسانية-، أما أبو الطيب فقد كان مفتونا بنفسه، تدور الدنيا حول جلالة شخصه الفائق و المتميز في كل فن و بالأخص في الشعر .
استمع إلى الطائي و هو يطري كلمته التي يمدح بها مالك بن طوق :
يا خاطبا مدحي إليه بجوده
ولقد خطبت قليلة الخطاب
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى
و الليل أسود رقعة الجلباب
بكرا تورث في الحياة و تنثني
في السلم و هي كثيرة الأسلاب
و يزيدها مر الليالي جدة
و تطاول الأيام حسن شباب
و أصخ إليه حين يقول في قصيدته الطويلة الفائقة التي يمدح بها يزيد بن مزيد الشيباني:
إذا سبب أمسى كهاما لدى امرئ
أجاب رجائي عندك السبب العضب
و سيارة في الأرض ليس بنازح
على وخدها حزن سحيق و لا سهب
تذر ذرور الشمس في كل بلدة
و تمضي جموحا ما يرد لها غرب
عذارى قواف كنت غير منازع
أبا عذرها لا ظلم ذاك و لا غصب
إذا أنشدت في القوم ظلت كأنها
مسرة كبر أو تداخلها عجب
مفصلة باللؤلؤ المنتقى لها
من الشعر إلا أنه اللؤلؤ الرطب
و اصغ إليه حين يخاطب الفارس أبادلف العجلي في قصيدته المشهورة التي يمدحه بها:
إليـك أرحنا عازب الشعر بعدما
تمهل في روض المعاني العجائب
غرائب لاقت في فنائك أنسها
من المجد فهي الآن غير غرائب
و لو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت
حياضك منه في العصور الذواهب
و لكنه صوب العقول إذا انجلت
سحائب منه أعقبت بسحائب
أما في مطولته التي يمدح فيها محمد بن عبد الملك الزيات فقد أبان عمَّا يرمي إليه في صميم المدح:
أما القوافي فقد حصنت عذرتها
فما يصاب دم منها و لا سلب
منعت إلا من الأكفاء ناكحها
و كان منك عليها العطف و الحدب
و لو عضلت عن الأكفاء أيمها
و لم يكن لك في أطهارها أرب
كانت بنات نصيب حين ضن بها
على الموالي ولم تحفل بها العرب
و نصيب هو الشاعر الأموي المشهور و قصته متداولة في كتب الأدب . و يقول كعادته في ٱخر القصيدة:
خذها مغربة في الأرض ٱنسة
بكل فهم غريب حين تغترب
من قافية فيها إذا اجتنيت
من كل ما يجتنيه المدنف الوصب
الجد و الهزل في توشيع لحمتها
و النبل و السخف و الأشجان و الطرب
لا يشتقى من جفير الكتب رونقها
و لم تزل تستقي من بحرها الكتب
حسيبة في صميم المدح منصبها
إذ أكثر الشعر ملقى ما له حسب
و غير هذا في شعر الطائي كثير و هذا منهجٌ قد عبده، و إنما ٱثرت البائيات ؛لأن أبا العلاء ذكر فيما ذكر في رسالة الغفران أن البائيات ستبكي حبيبا بكاء خاصا ؛ فأنت تراه مرةً يجعل قصيدته فتاة فاتنة، و مرة سيارة فارهة تجوب الأرض، و هو وإن كان قد سُبق إلى هذا، إلا أنه جوده و أستبد به ، و تارة يجعل قصائده بنات مدللات يسرن مغربات آنسات بكل فهم غريب ثيبات في صميم المدح، و هذا قريب مما نسميه في الحسانية ب: “اتْْحَجْلِيبْ أو اتْمَارِي”
أما أبو الطيب فلم يكن يماري و لا يشاري، فقد روي أنه قال أنا و أبو تمام حكيمان و الشاعر البحتري. وقد كان هذا الرجل مفتونا بنفسه ، فلابد أن يشرك نفسه في المديح؛ بل قد يبدأ بها و يحط لها “مِرْغَايَةً” لا بأس بها، بعد ذلك ينزل إلى ممدوحه و له في ذلك مذاهب قد نفصلها في مقام ٱخر إن شا ء الله.
استمع إليه في عز مدحه لسيف الدولة يقول:
أنا السابق الهادي إلى ما أقوله
إذ القول قبل القائلين مقول
و ما في كلام. الناس مما يعيرني
أصول و لا للقائلين أصول
ألام على ما يوجب الحب للفتى
و أهدأ و الأفكار في تجول
سوي حسد الحساد داو فإنه
إذا حل في قلب فليس يزول
و لا تطمعن من حاسد في مودة
و إن كنت تبديها له و تنيل
أليس هو القائل:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
و أسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها
و يسهر الخلق جراها و يختصم
و جاهل مده في جهله ضحكي
حتى أتته يد فراسة و فم
إذا رأيت نيوب الليث بارزة
فلا تظنن أن الليث يبتسم
إلى ٱخر القصيدة التي يمكن أن تعتبر وثيقة استقالة شعرية من مهمة مدح سيف الدولة
ألم يكن المتنبي هو القائل:
أجزني إذا أنشدت شعرا فإنما
بشعري أتاك المادحون مرددا
ودع كل صوت غير صوتي فإنما
أنا الطائر المحكي و الآخر الصدى
و المتنبي هو القائل:
فخبر حاسدي لديك أني
كبابرق يحاول بي اللحاقا
فأبو الطيب أسرع من الضوء و بذلك تدرك أن إدراكه. مستحيل و أن التحنث في محرابه و الأخذ بطريقته أمر يجف دونه ثرى التأمل و تقلق رحالته.
و بهذه الملاحظات السريعة ترى أن لكل شرعته و منهاجه و طريقته و قد علم كل أناس مشربهم ،و قد وجدت طريقة أبي تمام عند شيخنا الشيخ سيدي محمد ول الشيخ سيدي الكبير في رائيته الشهيرة حيث يقول:
خذوها من بنات الفكر بكرا
تغير الغانيات و لن تغارى
و كذلك في المديحية الواوية
أما طريقة المتنبي فقد لمست منها عند ول ابنُ علما في مجمل قصائده و منه قوله:
تود اواهي أن تضعضعه و هل
لريح الصبى أن تستخف يلملما
هذا و إني إنما أردت أن أشير إلى هذا الموضوع و أثيره؛ لعل أصحاب الخبرات العالية من أهل الاختصاص، و ذوي المعرفة من أهل الفن أن يتناولوه بشكل أعمق و أدق و الله من وراء القصد.
بقلم الأستاذ: محمدفال بن زياد