ما زال هذا العالم الجميل الذي منحنا الطفل الامريكي مارك زوكربيرج يحبط جميع محاولاتنا التملص من قبضة الحيرة والتعجب ويعيدنا لدربه بعد كل عزيمة على مقاطعته والابتعاد عنه، حتى وصل به الأمر اليوم أن فرض علينا وضع حدود سميكة وحادة بين خريطته الساحرة وفضولنا وغبائنا المتناثر في جميع الأنحاء المغتر بكل جديد، من خلال هذه الاسطر المرتجلة نريد تدوين فكرة عن الشخصية بين الافتراض والواقع وما تسلكه خلال ذلك من تموجات نتجاوزها إرضاء للآخر ونبحر فيها على جهلنا بما تحيل إليه وما يمنحنا ذلك من خبرة في معرفة ذواتنا في ما بعد.
الشخصية بناء معقد وغامض أرهق علماء النفس وأربك الاجتماعيين وشتت الفلاسفة أشتاتا، وليس حدها قابل للحصر، إنها زبدة الخلط بين جملة من المتناقضات تحيل جميعها لعالم متماسك يشعر الانسان خلال صعود أول عتبة منه أنه وصل القمة، وهو في الحقيقة لا يدري أي جهة يتجه، ولا من أي باب سيخرج؟
هذا ولما أدرك الغرب على خبثه ما للتواصل الافتراضي من قيمة في حياة إنسان اليوم، وما يمكن أن ينفذ من خلاله من سموم داكنة قاموا بإنشاء هذا العالم الافترضي العظيم الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وجعلنا نصطدم بذواتنا لأكثر من مرة في اليوم بل في اللحظة الواحدة، إنه من أعظم الاشكاليات التي طرحها الفيس بوك هو إشكالية توزيع الشخصية بين الواقع والافتراض واضطرار الانسان بكل جهوده على مقارنة بين شخصيته التي يقبله المجتمع بها كحدود لوجوده، وبين تفاعله مع هذا الكم الهائل من الحرية والتعبير واستجابته للتحفيزات التي يطلقها مصمموا هذه الصفحة، ودعني من الانتحال والتقمص،فأنا هنا لا أكتب عن غير الشخصية التي يتطابق علمها في الافتراض مع علمها وطبيعتها وصورتها في الواقع.
إننا نستثني من حديثنا هذا الانسان الذي يتقمص شخصية افتراضية لا علاقة تربطها بطبيعة شخصيته الواقعية، ونركز على من يحاول الجمع أو التوفيق بين الشخصية الافتراضية والواقعية، إنه تحد كبير فعلا فأنت تبحر هنا في الافتراض على أساس أمواج لا يعترف واضعوها بأي أعراف ولا عادات وإنما في نظرهم أن الانسان يعيش حياته كما يحب وكما يرى هو فلا دخل لغيره في ما يفعل ببدنه وجسمه وعقله إنه يعيش حرية الاعتقاد وحرية الرأي والتفوه، وهذا ما يتنافى مع مبادء مجتمعات أخرى دخل أبناءها هذا المعترك وفرضوا على أنفسهم التقيد بما يألف مجتمعهم هناك بين الكثبان وتطبيقه بالحرف هنا في عالم مارك الطفل الأمريكي الذي يحلم بالثروة والشهرة والتواصل ولا شغل له بالاخلاق ولا بالعادات ولا بالتقاليد، وليس الهدف من هذه التوضيحات فتح باب نحو ارتجال موقف جديد من الصراع الذي نعيشه هنا بين الشخصية الافتراضية والواقعية، فذلك أم يفرضه الوقع، ولكنه إبراز لإشكال وتبرير لمواقف كان حظنا منه التعليق والاعجاب.
ويعود بنا الحديث هتا إلى المجتمع فلانسان ابن بيئته وممثلها في صمته وناقل عنها ببلاغته، إنه يتفنن لا وعيا بترسم خطى الأجداد ووصايا الأم والجدة، إن شعور الانسان وتصوره ورأيه هي قوالب ملأها المجتمع وصاغها على أشكال تناسب العقل والعادة، إن الانسان أين ما كان من المكان والزمان يستحضر شخصية مجتمعه الأصلي بكل عاداته وتقاليده، وأوامره ونواهيه ولا يتجاوز من ذلك خطوة إلا واستوقفته نفسه وصرخت في صمته بكل جهدها أن يستقم، من هنا تبدء المعركة، ويبدء صراع إنسان اليوم مع ذاته عند أول خروج له على إملاءات المجتمع وحين يستجيب لعالم التواصل ويتقنع بشخصية جديدة تحاكي وتصارع ذاته، رغم أن إحدى شخصيتيه تسير في خطى الأخرى بل وتماشيها مماشاة الظل للجسم، وهنا نتساءل أيهما تسيطر أكثر على الانسان؟ وما هي شخصية الانسان الذي تسيطر عليه الشخصية الافتراضية؟ وما طبيعة شخصية الانسان الي تغلب عليه شخصيته الواقعية؟
ورغم أنني لم أك من الجيل الأول الذي سباه هذا الساحر فقد كنت أرى أن صفحة الفيس بوك ليست صفحة للتواصل الاجتماعي كما يطلق عليها منشئوها، لكنها تحدي جديد لشخصية وعقل إنسان اليوم ومقارنة بين جهازه العصبي وتركيببة الكترونية من المعلومات التي تتفاعل وتستجيب بالتلقائية، لاخراج مكامن المخ وكل نفايات المكبوتات، وهي إلى جانب ذلك إحراج للضمير الاجتماعي والبصيرة، وصراع مع جميع المسلمات التي أودعها المجتمع في دماغ الطفل وأعلقها براءته أيام كان يلتقف اليابس والاخضر،إن صفحة الفيس بوك كغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي بلغة أهل اليوم ليس لعبة للصغار ولا اختبارا لذهن البشر بل هي دفعة مركوزة من التحديات، جاءت نتيجة دراسات نفسية واجتماعية وثقافية تستهدف ثغرات خفية في صميم النفس البشرية.
وفي عالم الشخصية الافتراضية تبرز الأبعاد الخفية في الشخصية الواقعية وتظهر مكامنها الوراثية، وما يصفها به الآخر في الغياب، فيمكن للانسان أن يقرء نفسه من خلال صفحته التواصلية ومساحة تفاعله وتدوينه لكل ما يعجبه أو يثير حفيظته، وبذلك يتم اكتشاف الانسان الآخر في الانسان وعلى ذلك الأساس يتم تصنيف الأولوية بين الشخصيتين، بعض الناس وهي الحالة الغالبة تغلب شخصيته الافتراضية على واقعه الاخلاقي وعلى سمته المألوف ويولي قفاه للمجتمع ويتناسى فرضياته ويرتجل طريقا جديدة للتفاعل مع عالم مارك، كما من الناس من يظل هنا في عالم التوصل مشبثا بمبادئه الأخلاقية ومراعاة الآخر، وليس صراع الشخصيتين في حقيقته الأمر سوى صراع بين الإنسان وذاته فالآخر الذي يتمثل له الانسان مبادئ أخلاقية لا يشعرها ليس سوى ما تحمل ذاته من قيمة المجتمع.
وخلاصة القول أن جميع الصراعات التي تحدث بين الشخصية في الواقع والافتراض لا تعدو عدة اصطدامات بسيطة بين الانسان ومجتمعه بل وبين الانسان وذاته، فالانسان في جميع لحظاته يصارع ذاته ويشعر خلاف ما يعمل هو يمثل في كل ذلك صوت المجتمع، فهو إنسان بالآخر وليس بذاته ولكنه يتأثر بالظروف ويجهلها وتضيع عليه فهمه وتفاعله مع مستجدات الظروف، ولكنه وبفضل عقله يستطيع ارتجال مواقف مخالفة لما تراه جماعته، فالانسان قابل كذلك للتآلف مع مختلف البيئات، ومختلف العوالم، ولأنه قابل كذلك للتغيير فيمكن أن ينسجم مع جميع الظروف، ولكن تغيير شخصيته يتطلب وقتا أطول للتغلب على الديدن وتغيير المألوف فالشخصية صفات وطباع لصيقة وقابلة للتغيير.
شكرا لكم على هذا الموضوع القيم
موضوع قيم يستحق كاتبه الشكروالتشجيع فصراحة العالم الافتراضي هو اختبارحقيقي للانسان ومدى تمسكه بمبادئه وتوابثه التي اكتسبها داخل مجتمعه ومن خلال علمه ودراسته فهناك من يقع في تناقض بين العالم الافتراضي والواقعي وهناك من يستطيع التوفيق بينهما.
Te7liloun jeyid baraka ellahou vika we 3eleyka
Te7liloun jeyid baraka ellahou vika we 3eleyka
ما كتبه ذ ديدي *الشخصية بين الافتراض والواقع*أعجبني وشكرا لك يا ديدي علي ما كتبت ؟ متصفح فقط
ما كتبه ذ ديدي *الشخصية بين الافتراض والواقع*أعجبني وشكرا لك يا ديدي علي ما كتبت ؟ متصفح فقط