كنت صحبة يعقوب ولد السالك والمختار ولد الكوري (أو مخترْ كما ندعوه حميميا).
غادرنا تكنت في ضحى يوم صائف (كانت تكنت القديمة، قبل تكنت الجديدة، على شكل همزة لذلك سميت “تكنت” أي “الهمزة” بالأمازيغية المحلية). توجهنا صوب النمجاط بحثا عن “لمْناحرْ”. تجاوزنا مدينة الشيخ سعد بوه.. عن بُعد، تراءت لنا دار “يتيمة” من حجر. إنها مُغـْـيَه: “دارْ العَرّادْ” كما يُعَرّفها العلامة الشاعر امحمد ولد أحمد يوره. لم يكن امحمد يعني هذه الدار بالذات لأنها في زمن التصابي والأتراب واللواعج والحب اللاهب لم تكن موجودة أبدا، وإنما يعني ربعا من ربوع ذلك المكان.
تركتُ صحبتي في جدلهم حول أفضل المسالك وأوضح المعالم الموصلة إلى “لعْزَيـّبْ” حيث الأغنام وراعيها في انتظارنا. وانشغلت بطيف ولد أحمد يوره.. لقد اخترته “صاحبا ونديمَا”.. هذا السهب، ذلك الغور، تلك الربوة، ودورٌ أخريات من مضارب البدو عفت واندرست رسومها في شعاب مُغـْـيَه هي ما تـَغـَـنـّى بها الشاعر العلامة في قوله:
يَـ عكلِ ذاكْ احْــــدَادْ * مُغـْيـَـــه دارْ العَرّادْ
ؤ ذاكْ احْقفْ تنّصْطادْ * المسْتَطْـــوَلْ لبْيَظْ
ؤ ذاكْ المسْتَعْرَظْ زادْ *اعْلَـيْبْ المسْتَعْرَظْ
“لا حيّة بالوادي”: بعد الأنس واللهو ولجبة الناس والماشية، صمتٌ رهيبٌ وفلاة بلقع “كأنْ لم تغنَ بالأمس”.
أمضينا يوما بجوار الغنم تحت خُيَيْمَة مُشْمِسَة.. ثم عدنا أدراجنا.
***
بعد شهرين، ألح عليّ يعقوب أن نذهب معا إلى نفس المكان.. هذه المرة سلكنا الطريق الجنوبي. عرجنا من ناحية “الصدره البيظه” متجهين شمالا.. مررنا بـ”تندَيْجـِنَاجْ”، ومن ثم انيارْكَنْ (“ذات العجول” بالبربرية).. البئران كانتا في الزمن الغابر مأوى وموطن البَهَنّاويين.. علماؤهم وصلحاؤهم، من عهد محمد فدّل، مرورا بالبشير ولد امباريكي وأحمد ولد احبيّب، إلى عهد محمودًا ولد أيّاه والصوفي ولد محمد الأمين، مروا من هنا..
تابعنا شمالا حتى وصلنا “المَنَارْ” فـ”المَحْرَدْ”: أرض الألفغيين.. قلت لـ”صاحبي وعَيْبَة سري”: يبدو أن امحمد يرفض إلا أن يشاركنا سفرنا، فهذا المكان أحبه لسبب لم يجد حرجا في البوح به:
المَحْرَدْ تَعْرَفْ لمْغَــــــلّيهْ * اعْليّ وامْرَغّـــــــبْنِ فيهْ
خاطرْ رَيْتُ سَلّمْتْ اعْليهْ * كَايمْ منْ بَلْ المَحْــرَدْ رَدْ
مَنْزَلُّ ذَ الِّ مُــــــــولعْ بيهْ * وَانَ كَبْــلُ كـــنْتْ المَحْرَدْ
ما نبْغيهْ ؤ لا ما نبْــــغيهْ: * ألاّ حَـــــدُّ عَنْدِ مَــــــحْرَدْ
عند “المنارْ”، كما عند “المَحْرَدْ”، لا شيء غير بقايا بيوت تهدمت بفعل عاديات الزمن، فمنازلُ من حرّكتْ سواكنَ امحمد قفرٌ يباب. ولا أحد، لا أحد على الإطلاق، يحكي لامحمد عن “خُيَيْماتِ عالج” لأن عهد الكل بالخيام بعيد. ولم يبق غير ملعب لعبت هوج الرياح به “كأنهم فيه ما ظلوا ولا باتوا”.
***
قبل سنوات، طلب مني الصديق مختر أن أقضي معه عطلة الأسبوع عند غنمه غربي النيفرار: موطن أهل أعمر إديقب ومسقط رأس أكبر أئمة المذرذره على مر العصور: ألعلامة أحمد سالم ولد بيـبّاهْ (حَحّامْ). كانت الأرض في ذلك الخريف الزاهي معشوشبة نضرة. وبعفوية، قال نظير الغنم انه وجد ضالته عند تل “أكَنـْـكـَانْ”. قلت: وأين أكَنْكاَنْ؟ قال: إنه ذلك التل الكبير الذي يتراءى إلى الغرب منا. آه، لو علم النظير كم على هذا التل وتخومه بكى الشاعر الكبير أحمدو بمبه ولد لبّات! وكم عبّر عن حزنه الشديد على خلوه من أية أمارة للحياة بعد أن كان آهلا معمورا!:
كلّتْ فالِّ بَـــــيْنْ انْبَيْكَـــانْ * للمَــيّاحْ اْلعلْبْ أكَنْكَـانْ
للبَـــــكْصْ اْلويدَانْ انْـــتُرَانْ * حَيّ فـَ اوْهَامْ ابْلحْنُوشَ
عاكبْ هَاذَ منْ بَكْرَ كـــــانْ * واجْمَلْ يسّدّرْ كانْ ؤُ شَ (تدغم: كانـُوشَ)
عَرّفْنِ ذ الوَحْشْ اتْعَاكِـــيبْ ^ أثـْـــرُ وَ ثارِ لمْــــــشُوشَ
ؤ حسْ اطْبَلْ لحْبَارَ والذيبْ * عَنْ طَبْعْ الدّنـْيَ مَنْفُوشَ
***
وبدون أي ترتيب زمني، أعود إلى السنة الفارطة عندما سافرت مع الشيخ ولد اعلَيّ والمشاغبيْن بونا ولد اعليّ وأحمد سالم ولد همّت في زيارة لـ”ادخلْ”: تلك الجزر الصغيرة التي تتشكل في شمامه في فترة السيول. كنا نمضي بعض يومنا عند إحدى تعرجات بحيرة الليّاتْ، ومن ثم جداول اكْدرْ أو اطويمصَه أو شعبانَه، ثم نمضي ليلتنا عند “حاشيتْ لعْوَيْجَه”: وهي رافد من النهر ينبع من حدود كاني ويصب في بحيرة اركيز. كان المشهد سرياليا، فصريرُ المياه المتدفقة مع ثنايا جدول الليّاتْ، وزقزقة الطيور من كل الألوان، وألاعيب القردة، وعنتريات الخنازير البرية، أمور تنسيك دار الثقافة وطب الحاج وولد محم وسوق العاصمة وملتمسات التأييد والمصادر الموثوقة ومذبحة النحو في جرائدنا.
قررنا مرة أن نَقيل على ضفة الرافد عسانا نصطاد واحدة من “نعاج البحر”. اخترنا شجرة ظليلة وارفة الأغصان داخل أحد خلجان الرافد. لم يكن حظنا في لحم الطيور كبيرا ذلك اليوم لأن “صاحب الميمنة”، مضيفنا سعيد ولد يَرْكْ، لم يكن بـ”الرامي” الماهر، لذلك أخطأ الهدف مرات. إذن تباشرتْ نعاجُ البحر بطول العمر، فاقترح علينا صياد-مزارع أن يهدينا سمكة طازجة. أوقدنا نارين إحداهما للسمكة المسكينة والأخرى للشاي العبق. هبت نسائم النهر.. كانت رياح الجنوب، على ضفة لعويجه، تذكّر بكل من بكوْا تلك الديار بدمع من الشوق منهمر، مُتَمْتِمين في خلجاتهم:
وقفنا وقد شطّت بأحبابنا النوى * على الدار نبكيها: سقَى رَبْعَها المُزْنُ
وزادت دموعُ الواكفين برسمــها *فلو أرسِلت سُفْنٌ، بها جَرَتِ السّفْــنُ
ولم يبقَ صبرٌ يُستعان على النوى * به بعد تــــوديع الخليـــــط ولا جَــفْنُ
سألنا الصَّبا، لما رأينا غرامـــــــها * يزيد بسكان الحِمــــَى والهوى يدنو،
أفيكِ لحمل الشوق يا ريح موضع * فقد ضعُفت عن حمل أشواقنا البُدْنُ
والحقيقة أن لعويجه ستظل مدعاة لتذكر كل ما قيل من أدب رفيع في ذلك “الأندلس” المنسي، خاصة إنتاج الشاعر المرحوم أحمدّو سالم ولد الداهي: أبرز التائهين في أطلالها. فالمقام هنا مقامه بالدرجة الأولى، فذي لعويجه، وتلك خلجانها وحقولها وأمواهها وبعض من ساكنتها الأولين.. كم مرة ساءلها فلم تجب، وكم مرة عرفها بملامحها ولم تعرفه بملامحه!:
ظَــلّيْتْ اليـــوم انْسَوْلــــكْ * يَلعْوَيْـــجَه ش امْطَــــوْلكْ
فيّ لَيْــدْ؟ ؤ ش امْحَـــوْلكْ * عَنْ عَهْدِ، لا يـــشــقينِ؟
ؤ ذَ الّ نخــتيـرْ انْكَـــــــوْلكْ * ما كلــتِيهْ، ؤ هنْــــــــتِينِ
ؤ وَرّطـّـــــكْ بالسّوْلانْ كَاعْ * وانــتــيّ ما تفْــــــتِيـــــنِ
ؤ شفتكْ واعْرَفْتكْ غيرْ ماعْـــــــــرَفْتــــينِ ؤ لا شفْــــتِينِ
على طريق العودة غربًا نحو المذرذره، اجتزنا جدول أكْدرْ، ومررنا بجدول جَلُّو، فسهل انْكَلَوْ، وتوقفنا نتحسس طريقا بين أشجار غابة “غُورْ” الكثيفة. المشاغب أحمد سالم يعرف كم أنا مولع بـ”غُورْ” لذلك يدعوه “مَسْيَلْ بُدّالْ”. والحقيقة أنه مسيل الشيخ ولد مَكّـيَّنْ أولا وقبل كل شيء: ذلك الشاعر العملاق الذي دوّخ شمامه بأدبه الجزل.. ذات يوم مر من هنا فألهمه شيطان الشعر أن يمتحن “غُورْ”، وما جاوره من ربوع، عن هويته:
احْلالَكْ يَـ علْبْ اثيَـــــارْ **ؤ غُورْ ؤ خَمْلَشْ واْلكَانَ
ؤ يَـ وُرْطَيْلْ ؤ يَـ امّاسّارْ **ؤ يَـ لَغْجَرْ منْ هُــــوّانَ؟
***
قبل أسابيع قليلة، أمضى معي صديق الطفولة البيبون ولد عثمان أياما في تكنت. قررنا مرة أن نذهب ناحية المحيط لحاجة هناك. بين تكنت والمحيط قرابة 15 كلم بدءا بمنطقة انْوَلَلاَنْ حيث توجد تكنت، وانتهاء بمنطقة آفطوط.. بين المنطقتين توجد منطقة لم تعد معروفة. إنها انبُجَانْ: أغوار صغيرة متفرقة كانت بها قرى للزنوج (الولوف).. كانوا يسمونها “بوط لحنوشه” (انبُ جانْ) لكثرة الأفاعي فيها. أما انوللان فكان – حسب كتاب “أخبار الآبار”- يدعى آوْليلْ قدما، شأنه في التحريف شأن آفطوط التي تعني بالبربرية –قبل تحريفها من “آفظظ”- مكان تجمع المياه. المرور بـ”انبجان” يذكّر حتما بالشاعر الكبير سيديّ ولد هدار في رائعته:
يَـ احْمَدْ كمْتْ ألاّ اتْبَجّلْ **للطُّــــلْبَه فـ اْلمَـــــانْ
والطمّاعْ ؤ لا اتْحَــــجّلْ **تليَــــــــــــانْ اْلحَسّانْ
شاعرْ جَاكْ إزُولْ مَحْـلُ **ؤ ينزلْ زادْ اعْليكْ نَحْلُ
وَديبْ ؤ نزيـهْ و احْــــلُ **واكريمْ ؤ سلـــــــــطانْ
غيرْ أهْلْ انْبُجانْ رَحْــلُ** عَنْ بَــــلْ انْـــبُــــــجَانْ
إنه المدح المزركش بشيء من الخروج عن الموضوع ليفهم منه الممدوح أن رحيل الأهل عن انبجان يتطلب مركوبا للسير في أثر الظاعنين بحثا عنهم.
نظرة على أغوار انبجان اليوم لا توحي أبدا أن قرى من الزنوج ومضارب من البيظان قد توطنته يوما من الأيام. إنه الفيفاء بكل معانيها.
***
كل هذه الديار الدوارس، وغيرها من مرابع يعجز عن سردها المقام، تشكل جزءا من تاريخنا الأدبي، كما يشكل صمتها المطلق رنات ونوتات عذبة تستحق مشقة السفر لأن “في الطبيعة موسيقى لمن يستمع جيدا”.
نقلا عن موقع الوطن اينفو http://elwatan.info/node/7872