حين جلس علماء اللسان جلستهم المتأنية لوضع حدّ جامع مانع لماهية اللغة كان شغلهم الشاغل البحث في الظاهرة الصوتية وشكل اللغة الفيزيائي أكثر من البحث في قيمة النطق والتعبير وما يؤديه التلفظ بكلمات اللغة وإخراجها لغوا من محو لهموم الانسان وما ينعكس من ذلك على حالته النفسية، فليست اللغة وسيلة للتواصل فحسب كما أنها ليست أصواتا يعبر بها كل قوم عن أغراضهم فقط بل هي إلى جانب ذلك اضطرار فطري يؤديه اللسان لتحقق إنسانيته، فالانسان إنسان لأنه ناطق وناطق لأنه إنسان.
ولما كان العقل يسع جملة المقاصد التي يمكن أن تصدر من الانسان في حال وعيه أصبحت للغة عدة أنماط من التعبير توازي اللفظ وتقصر عنه في الأداء والقيمة، أضحى مدار المقصود في هذا الباب يدور حول استعداد الحواس لترجمة ما يصلها من العالم، وهنا نقتصر على مقارنة بسيطة بين مستويين من التعبير لإبراز قيمة التلفظ والكلام باللغة .
الكتابة والكلام
وهما صفتان من تجسد اللغة يحمل كلاهما قيمة تعبيرية تصل إلى الانسان عبر حاسة واسعة وعميقة، فالكلام يحمل أبلغ وأكبر كتلة من المعنى يمكن أن تصل الذهن، ويكتسب الانسان أثناء إخراجه للألفاظ راحة ذهنية وفراغا يشعره بعد حين من الصمت، إنه لا يشعرك فقط أنك إنسان متميز عن باقي ذرات العالم بل تمسك ذاتك وكأنها تتحرك في كون فسيح أنت من يضع مساحته ومحيطه النهائي، وتلمس الآخر حين تستخدم الكلام بالتلفظ بينكما وكأنه متصل بدمك وجسمك وفكرك لا فرق بينكما سوى مساحة صغيرة تختزلها الحواس في الشكل والعلم.
إن الانسان حيوان ناطق بالفعل فما يتحقق من إنسانيته ووجوده وتفاعله مع محيطه وبني جنسه خلال كلامه وتلفظه بالأصوات اللغوية أكثر وأبلغ معنى مما يحيل إليه “علمه” بفتح العين وشكله الماثل، وكما للانسان جهاز هضمي يخلصه من فضلات الغذاء فكذلك للدماغ جهاز نطقي يزيح عن صفحة النفس ما يرين عليها من كدر الحياة ويعيد إليها صفاءها وبريقها الفطري.
أما الكتابة فهي صورة حسية للغة يتم التفاعل معها بعد عملية انتقالية تقارن بين الكلمة في حيزها المحسوس مع الصورة التي يحتفظ بها الذهن في بنيته التصورية عن المدلولات، وهنا يتضح تأخر الكتابة عن الكلام في التأثير والأداء، فإذا كانت المعاني تأخذ مكانها مباشرة في الذهن في حال الكلام فإنها تقطع شوطين داخل دائرة الحواس حتى تصل إلى البنية التصورية في الدماغ، رغم أن المكتوب يشغل أكثر من حاسة بل يشغل الدماغ كله ويحيلنا هذا لمقارنة بين الحواس فننتقل من المقارنة بين مستويين لغويين إلى المقارنة بين حاسة ووعي، ويبدو الفرق شاسعا وجليا، حيث لا تتجاوز الحاسة حدودها الادراكية المعروفة بينما يختزل الوعي جملة الحس في عملية أسرع مما يدرك تسلسله في وحدات حسية.
وخلاصة القول أن للغة عدة مستويات تعبيرية تتفاوت في عمليتي التعبير والتوصيل بين ناطق ومتلقي، ولا يتوقف ذلك فقط على أداء الحواس وإنما يشمل كل ما توحي به أيقونات المكان ، فالمتلقي أكثر استفادة من المعبّر في مستوى الكتابة لأن الحواس تنقل الكلمات المكتوبة بمسوى دقيق فاللغة شفافة ولا ترحم، و على العكس من ذلك يحقق الكلام نتيجة أكثر من الكتابة للانسان الناطق.
ديدي نجيب