نادرا ما أحضر المهرجانات التي تقام بزخم إعلامي رفيع ووقع سياسي ساطع، لكنني حضرت بالأمس مهرجانا ثقافيا يقام لأول مرة في مقاطعة المذرذرة تحت عنوان “العلك “. وأردت أن أعلّق بصفة موجزة على بعض ما رأيت وسمعت خلال ذلك، رغم أنني أبعد ما أكون عن الأهلية لذلك. لقد كان المهرجان ناجحا بالفعل وكان مرتعا ثقافيا قمن بالإشادة والتهنئة للجنة المنظمة والمشرفين على هذه النسخة، فقد استطاعت اللجنة المشرفة أن تختار لكل فن من يوثق به في بابه حيث أوكل الامر فيه لمن يعرف من أين تؤكل كتف الثقافة، وأعطيت القوس باريها. فحضر الفن التقليدي الأصيل، والأدب الرفيع بشقيه الفصيح بطويله ووافره، والشعبي بابتيته التام والكبير، كما كانت للتاريخ والثقافة والفقه وقفات وجولات وئيدة الخطى قيمة العطاء في معترك الحفل، حيث تم تقديم بعض المحاضرات من قبل أسماء بارزة في سماء الثقافة والمعرفة، فكانت العروض على مستوى من النخبوية يربؤ بها عن الإسفاف ويرفعها عن الحضيض والابتذال والفضول. كما نال الترفيه وقته حيث شهد ضحى المذرذرة مبارايات شيقة في الرماية التقليدية، وما إن ارتفعت شمس الظهيرة حتى قرع طبل السرور والبهجة، وتلاحمت العصي وبدأت الناس في التوافد من كل حدب وصوب. إن مثل هذه التظاهرات الثقافية التي تطبعها الجغرافيا ليست استعراضا للعضلات ولا محاولة للفت الانتباه إلى جهة ما ؛ بقدر ما هي ثأر للتاريخ ومحاولة لانتشال ما يثبت تلك السمعة الرفعية التي يملك أهل هذه البلاد بلاد الشعر والعلم والحلم، كما أنها فرصة لنفض الغبار عن قيم ثقافية وحقائق معرفية وتراث أمة ينام ويترك لبراثن الضياع لتفعل به فعلها. ومما هو حري بالملاحظة أن إطلاق صفة النجاح على اي تظاهرة هو أمر يحدث وفق اعتبارات ومعطيات قد تكون هامشية أوخارجة عن محيط التظاهرة، حيث يرتبط النجاح عند بعض المتابعين بمستوى الحضور الكمي وعند بعضهم بقيمة الحضور كالسؤال عمن حضر من الاعيان؟ بينما يتم اطلاق النجاح في الغالب وفق اشباع رغبة المتلقي وذلك حسب الوسط الذي ينحدر منه وحسب ثقافته الشخصية، ومن هنا يبدأ التناقض وتبدأ العروض الترفيهية الهامشية والتي هي بمثابة الفضلات مزاحمة الثقافة العالمة والتي هي بمثابة العمد، وهنا يأتي دور المشرفين على مثل هذه التظاهرات الثقافية ليعملوا في عروضهم على الموازاة بين ما يريد المتلقي البسيط من أشياء ترفيهية ومسلية وهو أغلب الحضور ـ وفق بعض المتابعين ـ وبين تمرير المادة الثقافية الكثيفة والتي هي الهدف والوسيلة الفعلية لنجاح المهرجان وعلى أساسها سيتم تقويمه في الوسط الثقافي العالم. وهنا يتجسد النجاح في خلق مساحة لحسم الصراع القائم بين الجمهور المتلقي للثقافة الترفيهية والذي لا يريد إلا ما هو مسلي وترفيهي، وبين تقديم المادة العلمية والمعرفية التي هي أساس التظاهرة وهي المعيار الذي سيتم تقويمه من خلالها في الوسط الثقافي. رغم أن بعض القائمين على مهرجان “العلك” استطاعوا امتصاص ملل الجمهور البسيط ووفقوا في الموازاة بين أفق الانتظار وتحقيق الغاية المتوخاة من العرض.
ثم إن اختيار العلك كنعوان للتظاهرة ليس من باب التخبط أو الاعتباط، فللعلك مكانة رفيعة وقيمة خاصة، أخرجته عن القياس والمقارنة بغيره من الثمار أو أصناف المنتوجات الزراعية المحلية خلال القرون الخمسة الماضية، فكما يعرف من له إلمام بالثقافة الموريتانية وتاريخها أن العلك كان يملك ماهية اعتبارية بارزة في المنطقة، منحته دلالات ثقافية واقتصادية جعلته مثل المعدن الخصب المعدّ للتنقيب عن صفحات من تاريخ وثقافة هذه الربوع لمن يحسن التنقيب وله آلياته المتمكنة، وذلك ما حاولت هذه النسخة من مهرحان المذرذرة الثقافي أن تجعله دليلا لطريقها نحو المساهمة في إثراء الساحة الثقافية، وهو ما تم لها بالفعل، حيث خلقت هذه النسخة وعيا ثقافيا في تصور الحاضرين بمادة العلك ونقلته من ثمرة قتاد أو نبتة تسخدم في خصوصيات محدودة؛ إلى معدن ثقافي بارز ألّفت عنه الكتب وتناولته الفتاوي الفقهية وتم به ابرام صفقات تاريخية موقعة مع بعض القادة الغربيين، فأصبح العلك بفضل الثقافة نقطة انطلاق نحو التراث التليد والماضي الجميل لأهل هذه الربوع.