لم تطل دراستنا في القرية.. سنتان إلى ثلاث لبعضنا.. هنا بدأت إرسالياتنا إلى ” الخارج”.. إلى المقاطعة.. مقاطعة المذرذره.. هذه المدينة العتيقة التي تحوي مدرسة فولانفنه القديمة..
كان على بعضنا أن يدرس هنا في السنة الرابعة من التعليم الابتدائي … ليفسح المجال للجيل الجديد… هذا الجيل سيكون هذه المرة مختلطا.. أبناء و بنات ..
المذرذره التي تحوي في تلك الفترة مدرسة إبتدائية وحيدة.. و ليس فيها أي قسم للتعليم الثانوي كانت تمثل بالنسبة لنا قمة الحضارة…
يمثل الإداري، حاكم المقاطعة بالنسبة لنا قمة الهرم الإداري.. و التجار هم رجال أعمال من طراز رفيع.. والسكان هم عالم من الرقي والرفاه.. بدأنا نتكيف مع ذلك الجو..
مخبزة علي ولد الصبار، رحمة الله عليه.. و الخبز و المرق لدى المرحومة إميمانه.. و الأرز ذو اللون الأحمر مع امباركه.. و” المزيان عند أحمد ولد شداد… و رائحة البسكويت لدى أهل إباه و أهل حامدينو هذه الرائحة كانت قوية عندنا لا يوازيها إلا قوة عوادم السيارة القادمة مساء من روصو أمام أهل إبراهيم فال.. أو أهل إفكو..
لم نكن لنفوت فرصة عودة هؤلاء الناقلين من روصو أو من نواكشوط في الشارع الكبير.. الذي يبدأ من قبالة دار سيد أحمد ولد أحمدو حتى محطة الوقود التي هي على مشارف حانوت أهل المُهدى..
تارة نجد هنا بعض العائدين من رجال الحي فلا يبخلون علينا بقطع نقدية كانت تمثل بالنسبة لنا ثروة هائلة.. 100 فرنك غرب إفريقي إلى 500 فرنك.. هذا مال كثير.. رغيف الخبز لا يتجاوز 10 فرنكات و قنينة المشروب الغازي 25 فرنكا.. و علبة السجائر كامليا مثله.. بينما تصل كرافينا 50 فرنكا فقط… كانت السجارة الواحدة كافية لتدخين مجموعة منا بواقع نفَسٍ أو نفَسين لكل واحد منهم..
كان زميلي محمدن ولد الصبار ماهرا في صناعة السيارات ذات المقود الطويل من قضبان الحديد.. و كان سعرها لديه يصل أحيانا 250 فرنكا.. و لكنها تكفي الواحد منا ليقطع عدة كيلومترات و هو يجري خلفها مُقلدا سياقة إبيبيه أو عبد الله ولد المكي أو لكهيل ولد إبيليل أو عبد الله بن محمد خيرات…
المستوصف الوحيد في المدينة كان يحوي طاقما هاما من الممرضين مثل سيدي نيانغ و جدو ولد يركِيت و خداجه… بالإضافة إلى بعض العمال اليدويين مثل السائق بوكوم…
كنا في بعض الأماسي نذهب إلى درس الحديث في فضاء المسجد الجامع حيث المرحوم ححام و درس ابن عامر.. فنشم رائحة البنسلين و الفيتامينات و نحن على بعد عشرات الأمتار من هذا المستوصف… لكل شيء هنا رائحة و أثر..
المعلمون الذين يزاولون التدريس هنا هم على صنفين من الأطر.. فهنالك رجال محظريون استفادوا من تكوين تقليدي في مواد التشريع و اللغة.. ثم اجتازوا امتحان الكفاءة ليلتحقوا بمهنة تدريس مواد اللغة العربية و التربية الدينية في المدارس الأساسية.. من هؤلاء الشيخ زيدٌ ولد محمد الأمين.. كان مُدمنَ الذكر.. وجادا في عمله.. أتذكر ذلك اليوم من يناير 1973 عندما وشى له أحد تلامذة القسم أننا ننظم إضرابا عن درسه.. فأرسل في طلبنا.. عندما أردنا التوجه إليه أخذ أحدنا بعض المُغرة { الحميره}.. و طلى بها عينه.. ليوهمه أنه أرمد.. نظر زيدٌ، رحمه الله، في عين التلميذ و قال له: ” و الله لن تسلمَ مني حتى لو جعلت جبلا من المغرة على جبينك.. يا.. كلب.. يا حمار..”.. مع كل هذه الضجة كانت العقوبة في غاية البساطة.. كانت في البداية عبارة عن كناسة القسم لمدة أسبوع.. ثم خُففت إلى كناسة يومٍ واحدٍ… مع وقف التنفيذ..
لا أنسى تلك الثياب البيضاء الناصعة من عمامة و فضفاضة و قميص و سراويل… افتقدته لفترة غيابي عن الربوع.. بيد أنني كنتُ أسمعه في حديث صباحي في الإذاعة الوطنية يعلق فيه على “مطهرة القلوب” للشيخ آده..
عندما زرتُ مقبرة ترتلاس سنة 2001 وقفتُ على ضريحه إلى الجانب الغربي من ضريح الإمام ناصر الدين.. و كانت أغصان من الفرنان الغض تتشابك فوق ذلك الضريح … ثم نمتْ فيما بعدُ لتصير شجراتٍ من هذا النبات الأخضر المُلبن…
و هناك مجموعة من الشباب استفادوا من التعليم العصري و حصلوا على مستوى تربوي يوازي الشهادة الإعدادية.. و لكنهم يتقنون اللغة الفرنسية و المواد المدرسة بها بكل كفاءة… من هؤلاء موريتانيون و منهم أجانب.. أتذكر منهم السنغالي سيلا هالي.. كان ماهرا في قواعد اللغة الفرنسية .. و يتكلم بحسانية مكسرة.. عندما يعاقب البنات من أمثال لُمْ بنت أحمد ولد عبد الله أو لبابه بنت الميداح أو ماتموت بنت بلال.. يخاطبهن بضمير المذكر.. يضحك ملء فيه عندما تتذرع لُمْ بأن بطنها يؤلمها.. أو عندما تصرخ لبابه عند رؤية عصاه البيضاء التي يُلوح بها في وجه التلاميذ… كان من المعلمين المُتعاقدين.. بيد أنني التقيته بعد ذلك في إحدى مصالح وزارة التعليم وهو يستقبل ملفات الناجحين في دخول السنة الأولى من التعليم الإعدادي… لم أكد أقرع الباب حتى خاطبني باسمي الذي كان يناديني به في القسم قائلا: ” بوتالي .. كيف حالك؟”..
عُمِر سيلا ما شاء الله … و في سنة 2012 و أنا أحضر ملتقى للشفافية في المعهد العالي للتعليم التكنولوجي بروصو.. قال لي أحد المهندسين إنه عائد للتو من تعزية ذويه في وفاته منذ أقل من أسبوع واحد في مدينة سانلويس السنغالية…
كما أتذكر مُعلم القسم المتوسط 2 .. فال عاليون.. ذلك الزنجي الهادئ.. الذي يقولون هنا إنه يحمل شهادة البكالوريا شعبة الرياضيات.. كانوا يتعاطفون معه نظرا لميوله الاشتراكية.. تم إيقافه مرة لدى فرقة الدرك حديثة العهد في المدينة.. فزاد ذلك من شعبيته لدى التلاميذ.. لدى فال تعاطف خاص مع بعض تلامذته من القسم المتوسط الثاني مثل الصحفي الراحل المرحوم حبيب ولد محفوظ و ولد عمير و أم الكرام بنت العالم التي كان يُخاطبها ب” أم الكيران”..
لم يزد افال عليون على تلك السنة في المدرسة.. قيل إنه حُول إلى نواكشوط للتدريس في مدرسة المُعلمين..
الشاب عبد الله ولد لكِرع، معلم السنة الرابعة, شاب في مقتبل العُمر..من تكِانت.. لا شك أن له ميولا اشتراكية… لم يطل به العهد معنا.. حُول إلى مدرسة تكِرمن.. و تم تعويضه بالمعلم نياص حُسيينو… كانت نظاراته السوداء التي لا تفارق عينيه توحي بأن له مشاكل في الرؤية.. و تحدث المشاغبون من أمثال محمد ولد أحمد شداد و شيبوبه، شقيقته و البو ولد أحمد، رحمه الله، و أحمد ولد إبراهيم إخليل{ لفطح}… منذ اليوم الأول أنه فاقد إحدى عينيه… لم يكن نياص شرسا… بل كان هادئا.. في الغالب… عندما يُعاقب يقوم بقرصٍ في الأذن.. قلما يزيد على ذلك.. درس لعدة سنوات في المذرذره ثم التحق بالتعليم الثانوي بوصفه معلما مكلفا بتدريس اللغة الفرنسية… في سنة 2003 كان يدرس البنت مريم في إعدادية روصو و سرعان مما عرفها من خلال ملامحها ليسألها إن كانت من هذه الأسرة…
التقيته مرة أمام شباك البنك الموريتاني للتجارة الدولية في روصو… فتعانقنا بحرارة… و أخبرني أنه أحيل إلى المعاش …و صار يقيم في قريته القريبة من مدينة كرمسين..
أتذكر البنيني بازيل.. إنه شاب قصير القامة أفطس الأنف.. صاحب تلك البذلة القاتمة.. الذي لم يكن يغير منها خلال تلك السنة الدراسية التي قضاها معنا و هو يُدرس السنة التحضيرية الثانية.. كان بارعا في الأناشيد باللغة الفرنسية و المحفوظات من شعر فيكتور هيغو و لامارتين.. و القصص الشعري عند لافونتين…
و أتذكر ماما ديارا، زوجة مسؤول البيطرة المرحوم جيكِي ديالو… كانت الوحيدة التي تأتي المدرسة على متن سيارة من نوع لاندروفير رُسم عليها رأس بقرة بلون أبيض…كان تلامذتها من أمثال إمين ولد حامد و محمد فال ولد هنضيه و المرحوم شماد ولد ياتمه و لمهاب ولد انويصري… يفتخرون بأدائها في تدريس مادتي الحساب و اللغة الفرنسية…
التقيتُ المرحوم جيكِي ديالو في روصو في نهاية التسعينات.. و كان نجله خاليدو من أبرز معلمي مدارس روصو.. فصارت الأسرة تقيم هنالك…
سيد أحمد ولد عبد الرحمان… مُعلم السنة السادسة.. يُحسن تدريس القواعد النحوية و الإملائية.. له معرفة بالعلوم الشرعية… لم يكن يزيد في عقابه للتلاميذ على تلك القرعة على الرأس بمجمع سبابته و وسطاه… التي يردفها بقوله:” تبا.. تبا…”…
بعد إحالته إلى المعاش.. صار يُدرس في بعض المحاظر.. و كانت له قدرة فائقة على التبليغ.. و ترسيخ المعلومات..
عندما كنا في السنة الأولى من القسم المتوسط.. السنة الخامسة.. قرر مدير المدرسة أن يرشحنا للمسابقة… فصرنا نحضر الدروس المسائية مع السنة السادسة، المتوسط الثاني.. فصار المرحوم سيد أحمد يُقدم لنا تلك الدروس في التصريف… خاصة تصريف الفعل المعتل… و اللفيف المفروق منه بالأخص… كانت في كلامه سُرعة مع إبانة.. تبيناها عندما يقول لنا: ” نِ، نيا، نوا ، نينَ…”..
كنا تلامذة الأستاذ بباه ولد إميه، رحمه الله، كان فائقا في تدريس الإملاء و النحو.. كأنه راهن على ألا يرتكب أيٌ منا أي خطإ إملائي و لا نحوي… كان من هؤلاء الذين يؤمنون بقدُسية اللغة.. و يعتبرون الخطأ فيها جريمة نكراء.. لا أنسى مساء ذلك اليوم عندما كان يُملي لنا نصا حول الرجل و النملات الثلاث التي صعدت على أنفه.. و صرن يتبادلن الحوار.. حتى قالت القصة: ” … و حك الرجل أنفه فسحق النملاتِ الثلاثَ…” فقال أحد التلاميذ: ” النملاتِ؟” مُستنكرا… فردد بباه عدة مرات قوله: ” يا فٌلان النملاتِ الثلاثَ النملاتِ الثلاثَ…”..
كان رحمة الله عليه في غاية المنطقية في كلامه و تصرفاته.. يُخاطب لبابه بنت الميداح قائلا: ” يا لبابه.. أقسم بالله أن أوجعك ضربا دون أن أكسر لك سنا أو أفقأ لك عينا.. و لكنك ستتألمين…” كان من القلائل الذين يدرسون طُرة العالمة غديجه بنت العاقل على سُلم الأخضري في المنطق.. في منتصف الثمانينات تم تفريغه مراقبا عاما في ثانوية المذرذره… فكان يجلس قريبا من القسم الذي أدرِس فيه.. و ذات يوم سمعني أدرس نصا للبيد بن ربيعة العامري.. و كنت أتكلم عن قوله:
و جلا السيول عن الطلول كأنها ~~ زُبُرٌ تُجدُ متونها أقلامها..
فتركني حتى أنهيت الدرس فأخذ بيدي و قال لي:” و جلا السيول { شيئا} عن الطلول..” و بدأ يشرح ليَ البيتَ…
بعد إحالته إلى المعاش تفرغ للتدريس في محظرة المبروك… و التقيته مرة في روصو فسألته عن الطيبية في المنطق.. فقال لي هذه لا توجد إلا عند سيدي ولد النجيب في انيفرار.. و هو أحسن من يدرِسها…
لقد حل بباه في مدرسة المذرذره محل المرحوم بده ولد ححام.. ذلك الفتى الذي توفي في سن الشباب و هو يدرس اللغتين العربية و الفرنسية في المدرسة..
يتواصل..
سيدي محمد ولد متالي
نقلا عن موقع المذرذه اليوم