ماذا يأكل الموظفَ؟ لو طرحت هذا السؤال مكتوبا لحار المطروح عليهم هل يقرأون كلمة “الموظف” بالرفع على أنها فاعل “يأكل” أو “بالنصب” على أنها مفعول به له.
فعلى قراءة النصب يكون المعنى مجازيا والمقصود أي شيء يضر الموظف حتى لكأنه يأكله بحيث لا يبقى له أثر كما يفعل أكلة اللحوم البشرية في بعض أدغال إفريقيا الاستوائية. والجواب- والحالة هذه- أن الموظف يأكله كل شيء، وينال منه كل أحد فهو كلحم الرقبة مأكول ومذموم. ثم إن الموظفين في ذلك ليسوا سواء فمنهم من يأكله الناس فيتمششون عظامه وكاهله ولا يدعون على عظامه مزغة، ومنهم من يأكلون منه أكل الآبية قبل أن تهيجها الغاشية، كل ذلك حسب درجة المسؤولية التي يتولاها الموظف وحساسيتها.
فلاشك أن حكام الأقاليم وقضاة الكُورِ أكثر تعرضا للأكل من غيرهم وكذلك الوزراء والأمراء، ومسؤلو الأحزاب السياسية الكبرى التي تزيد أثمانها على ثمانية، فكل هؤلاء مأكولون ولو أنهم كانوا من عباد الله الصالحين، على قدم عمر بن عبد العزيز أو يوسف بن تاشفين رحمهما الله.
وهذا أمر معروف من قديم الزمان ولذلك لما استشار بعضهم أحد النصحاء في تولي وظيفة القضاء قال له: إن كنت ترضى أن تكون عدوا لنصف الناس فامضي لذلك، وإن كنت لا تقدر على هذا فاترك من الآن. وما قاله هذا الناصح ينطبق على الوزراء وولاة الأقاليم بل لا يبعد أن يكون هؤلاء أعداء لثلثي الأمة لأنهم قضاة وزيادة إذ لا تنس أنهم ممثلون للدولة والدولة حكم ولو أننا أجزنا لها الإفتاء فيما يرجع للخصام.
وأما على قراءة الرفع، ماذا يأكل الموظفُ؟ فغالب الظن أنا لو طرحنا هذا السؤال على المواطن العادي لكان جوابه كالآتي: أنه يأكل الميزانية والأرض والرشى والكشى… ولعل أكثرهم اعتدالا سيقول: إنه يأكل كل ما رزقه به الله تعالى وفي هذا ما لا يخفى من التعريض والحشو تحت الارتغاء، ففي التعبير “بالرزق” الماح إلى أن ما يأكله الموظف قد لا يكون حلالا بالضرورة لأن مذهب أهل السنة أن الرزق ليس مقصورا على الحلال كما هو معلوم.
ولعل الباحث الاجتماعي وحده هو الذي سيحدثك عما في “مرجن” أهل الموظف من طعام وما على مائدته من مقبلات وخبز وفواكه، وعما تمتاز به تلك المائدة عن موائد المسلمين الآخرين ويستنبط لك علل ذلك وخلفياته الحضارية والنفسية وحتى الاقتصادية.
فسيقول لك حينئذ إن الموظف العمومي من حيث المبدإ حر فيما يأكله شريطة أن يكون مباحا شرعا، وأن لا تلحقه به وصمة في مروءة مثله ففي المثل يبيح الشرع ما تقبله الحنجرة والمراد بالحنجرة هنا حنجرة المجتمع ورقابته.
أجل، الموظف حر فيما يأكله بيد أنه يحسن به أن يرى أثر نعمة الله عليه- كما ورد في الأثر- ولا سيما في مأكله ولا سيما بحضرة أصحابه وأحبابه. ففي ذلك من إدخال السرور عليهم ما لا يخفى، وكذلك الشأن إذا كان له أضياف خصوصيون أما أضياف الدولة فلا يجوز له بحال من الأحوال إلا أن يعاملهم إلا بأحسن ما يمكن ولو أدى به ذلك إلى أن يدان على موارده الخاصة.
وقد كان العامة في الزمن الأول- في أفقنا هذا- يظنون أن موظفي الدولة (عمال المخزن) لا يجوز لهم أن يتغذوا إلا بالطيبات من الرزق حتى ضربوا المثل بكثرة الأرز واللحم والسمن عند الإداريين الفرنسيين فلما عاشروا الموظفين بعد الاستقلال ظهر لهم خطأ ما كانوا يعتقدون فوجدوا أن الموظفين في جميع طبقاتهم لا يختلف طعامهم عن طعام بقية الناس فما هو إلا أرز بالنهار وكسكس بالليل عليهما اللحم واللحيم وخبز بالزبد في الفطور الصباحي وأشياء من هذا القبيل.
وكان الناس يظنون أن طعام الوزير خاصة أحلى من طعام غيره حتى أنهم ياثرون في ذلك نادرة وهي أن أحد المديرين عين وزيرا بمرسوم صباحي فدخل إلى أهله ضحوة ذلك اليوم فقدموا أطاجينا من طواجين البيت: قطعا من البطاطس في قطع من لحم السوق فقال لهم: الم تعلموا أني أصبحت وزيرا؟ اهريقوا هذا واغسلوا الإناء واصنعوا لنا من طعام الوزير..!
قلت: وسواء كان الموظف آكلا أو مأكولا فقد نص أرباب القلوب على أن الشأن في الطعمة فالطيب يأتي بالطيب والخبيث يأتي بالخبيث والله غفور رحيم.
الاستاذ محمد فال بن عبد اللطيف
قال أحد تلاميذ الإداري والولي الصالح محمد فال بن عبد اللطيف:
إداري فقيه أشاعر * متواضع للناس أظريف
هذا بعد إجبار واعر* يكون إفول عبد اللطيف.
الله يحفظك ويمد لنا في عمرك ,,
ظريف كالعادة , أطال الله عمرك وحفظك بعينه التي لا تنام