بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبيه الكريم وآله وصحبه وورثته من العلماء العاملين
أما بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على نبيه وحبيبه، فلابد من تقديم الشكر والذكر، لجامعة شنقيط العصرية والمركز الموريتاني للترقية الثقافية والديمقراطية والتنمية المحلية، على ما تعاونا عليه من البر والتقوى، وما أتاحا لي من أن يسجل اسمي في سجل من تحدثوا عن هذا الولي الكبير، والعالم النحرير، جدنا محمد والد بن المصطف بن خالنا الديماني الأبهمي رحمه الله فلهما جزيل الشكر والامتنان.
قد ألاقي صعوبة في معالجة هذا الموضوع لسببين اثنين: سبب يرجع إلي شخصيا، وسبب يرجع إلى طبيعة الموضوع. أما السبب الذي يرجع إلي شخصيا؛ هو أني أخشى أن يكون انتمائي إلى هذا الشيخ ، سببا في مجافاتي للحقيقة العلمية في حقه فيحملني طلب الموضوعية ،على أن أغمطه حقه أو تحملني علاقتي به على أن أفرط في جانبه رحمه الله.
والسبب الذي يرجع إلى طبيعة الموضوع ، هو صعوبة الحديث عنه لأنه يتعلق بأمور ذوقية ومشارب غيبية لا تقاس بميزان المنطق والعقل لأنها تجارب روحية تستمد من فيض إلهي لا يدرك كنهه إلا أصحابه محكه الحقيقي هو التجربة والممارسة في عالم ما وراء المحسوس.
وللخروج من هذا المأزق، اعتمدنا مقاربة فينومينولوجية تصف الظواهر كما تبدو ويراها الناس ويتداولونها دون الإيغال في تفسيرها العلمي أو العقلي، لأنها لا تدعي الوصول إلى حقيقة مطلقة مجردة. وسننطلق في هذا العرض من مسلمات هي أن البعد الروحي يعني مدى التحلي بمقام الإحسان الوارد في حديث جبريل الشهير وعبر عنه لاحقا بالتصوف مع شيء من التسامح. وإن شئت وسعت النطاق فقلت في البعد الروحي أنه الفضاء الغيبي من حيث علاقة الإنسان به ويعبر عنه بعض الباحثين بتسيير المغيب.
ولمعالجة هذا الموضوع نقترح على المستمع خطة تتألف من مقدمة وخمسة فصول:
المقدمة في التعريف بالبعد الروحي
فما المقصود بالبعد الروحي؟
هذا التعبير في الأصل مفهوم رياضي يحيل إلى مفهوم هندسي، يعنى بتحديد موقع الكميات المتصلة بواسطة الإحداثيات عكسا لعلم الجبر، الذي يعنى بالكميات المنفصلة أي الأعداد. وقد أصبح هذا التعبير مستعملا في جميع ميادين المعرفة وخصوصا في العلوم الإنسانية وقد يعبر عنه بالعمق.
والبعد الروحي هو جزء الشخصية الذي يعنى بمقام الإحسان، وتقابله أبعاد أخرى تدخل في تكوين الشخصية كالبعد العلمي، والبعد الفقهي والبعد السياسي والبعد القبلي.
ويمكن تحليل البعد الروحي بصفة مجملة إلى العناصر التالية:
ـ التحقق بمقام الإحسان ذوقا وسلوكا تحليا وتخليا.
ـ الدعوة إلى الله بإذنه
ـ التحلي بمقام الفتوة بمعناها المرادف للعبودية المطلقة لله تعالى.
وإذا أسقطنا هذه العناصر على الشخصية التي نتحدث عنها فإنها يمكن أن تصاغ في الفصول الخمسة التي أطلقنا عليها عبارة تجليات البعد الروحي عند والد بن خالنا وهي:
ـ الولاية
ـ الانتماء إلى الطريقة الشاذلية
ـ الوعظ والإرشاد
ـ الجذب
ـ الاعتناء بالتبرك
فلنقل كلمة عن كل واحد من هذه الفصول.
1 الولاية:
هذه العبارة تعبر عن مفهوم مطاط، يختلف حسب مراد الناطق به، وفهم المتلقي له وحسب الوسط التي تقال فيه فهي عند العامة تعني الاشتهار بكثرة الكرامات الخارقة للعادة ولاسيما المكاشفات والإخبار بالمغيبات وهذا الجانب عند المحققين ليس هو العنصر الحاسم في تحديد مفهوم الولاية مع أنه قد يكون من مؤشراتها الظاهرة.
وهو عند المحققين يعني الاستقامة والعمل بمقتضى العبودية لله والإخلاص له واليقين أنه لا شيء إلا هو وصفاته وأفعاله أما الطيران في الهواء، والمشي على الماء، فليست بشيء عندهم إذا لم تصاحبها الاستقامة والوقوف مع الأمر والنهي.
ولا شك أن والد بن خالنا ينطبق عليه كل مفهوم من هذه المفاهيم فهو ولي ـ بمعناها عند المحققين ـ عالم عامل ورع سني مخلص لله واقف عند أمره ونهيه، حسب ما تواتر لنا عنه، وهو ولي بمعناها عند العامة فهو ذو كرامات فاشية متواترة عند الناس وله كشوفات مأثورة وإخبار بالمغيبات تحقق منها البعض والبعض ما زال
واشتهار والد بالولاية هو من الأمور المتواترة يقول يكو الديماني في منظومته التي يتوسل فيها ببعض الصالحين:
ووالد القطب الولي المالي صحائف الكتب من التوالي..
ويقول العلامة المختار بن حامدن في حقه: حدث عن البحر ولا حرج.
ومما اشتهر من إخباره بالمغيبات ما ذكره العلامة هارون بن الشيخ سيدي في كتاب الأخبار بأنه أخبر بظهور الشيخ سيدي الكبير قبل ظهوره بما يزيد على سبعين سنة.
وذكر الشيخ باكا أنه اشتهر بالعلم والصلاح والكشف الباهر وأنه لم يخبر قط بشيء على طريق الكشف إلا شوهد طال الدهر ما طال.
وقد عنيت وأنا شاب، بجمع ما ينسبه الناس إليه عندنا في ذلك الوسط من كشوفات منها ما روي بالمعنى ومنها ما روي في شعر عربي وصنهاجي حدثني الثقة أن السيد محمد عبد الله ولد الحسن رحمه الله كان قد كتب ثبتا بهذه الكشوفات وكان يعلم على ما تم منها بالفعل.ولولا خوف الإطالة لذكرنا منها نماذج كثيرة.
وقد قيل أن أبناءه من بعده رأوا من المصلحة مصادرة نصوص تحدث فيها عن بعض المغيبات وفي هذا مجال للنظر لأنه من المستبعد أن يبث الشيخ ما لم يؤذن له في بثه أو تكون في بثه مصلحة والله أعلم.
ومن الرشحات التي تؤذن بولاية والد كونه كان يسمي نفسه بعبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم مما جعل مؤلف فتح الشكور رحمه الله يحسب أن ذلك اسمه فترجمه في باب العبادلة، والحق أن ذلك ليس باسمه ووجهه بعض من كتب عن والد بأنه فعل ذلك للتبرك بهذه الأسماء الواردة في البسملة، وهذا متجه ولكن هنالك محمل آخر ، هو أن الأولياء إذا تحققوا باسم أو تعلقوا به وغلب ذلك عليهم صاروا يطلقون على أنفسهم أنهم عبيد ذلك الاسم، فلعل ما فعل والد من هذا الباب ويؤد ذلك أنه سمى نفسه في بدأ كتابه المعين بعبد الرحمن بن عبد الرحيم والله تعالى أعلم.
ولعل ما اشتهر من ولاية محمد والد هو ما جعل الأمراء وأهل الشوكة من أولاد أحمد من دامان وأولاد دامان يبجلونه ويجلونه ويهدون إليه وقد أثنى على إمارة أهل أعمر ولد اعل في نظمه لحوادث السنين وكانت تربطه بمحمد بن هيبه البركني علاقة روحية قوية مبناها الإجلال والتقدير والمؤاساة الكريمة.
والناس أكيس من أن يمدحوا رجلا حتى يروا عنده آثار إحسان
ويرى الأستاذ بدن في نبذة كتبها عن محمد والد أن أسباب اهتمام والد بن خالنا بتاريخ رؤساء المغافرة ليس من باب الترف الفكري ولا لكسب الحظوة عند المتنفذين منهم، ولكن من باب الواجب الوطني وإحقاق الحق والإخلاص والنصح لولي الأمر.
وهذه قضية معروفة في أولياء الله الصالحين، أنهم حريصون على صلاح الأمة وأئمة المسلمين وعامتهم، وقد روي في هذا الصدد عن الفضيل بن عياض رحمه الله أنه كان يقول: لو كانت لي دعوة مستجابة لجعلتها لولي الأمر.
ومن الجدير بالذكر أن ولاية والد بن خالنا هي ولاية لا تصاحبها طقوس ولا تشريفات فهي ولاية “مطلوبة” لا “طالبة” تبذل للخاصة فيبذلونها للعامة على غرار ما ورد في تسيير جدول الأعمال اليومي للمجلس النبوي من تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء فيرد جزء الخاصة إلى العامة.
ومما يدرج في سجل ولاية والد بن خالنا شدة ورعه وشدة سخائه، أما شدة ورعه ففضلا عن تواترها نجدها مبثوثة في كثرة سؤاله للعلماء في زمانه من أشياخه وغيرهم عن أحكام من الحلال والحرام، واستقصاؤه في ذلك مترجما الحديث المعروف استفت نفسك وإن أفتوك وأفتوك وفي شرحه لخليل من ذلك نماذج.
وأما سخاؤه فمتواتر كذلك، ومعلوم أن السخاء من أكبر أمارات الولاية فهو علامة مطردة منعكسة ، في هذا المجال عكس العلامات. وقد روي أن والدا كان ينفق على الضعفاء والتلاميذ ونحو ذلك حتى ظن البعض أنه إنما لقب والدا لأنه كان للمساكين والتلاميذ بمنزلة الوالد.
2 الانتماء إلى الطريقة الشاذلية:
لا شك أن والد بن خالنا أخذ عن الشيخ محمد اليدالي، ووالد إذ ذاك ما زال في سن الشباب إذ قد عاش بعد محمد اليدالي ستا وأربعين سنة، وصرح بعض من كتب عن والد أنه أخذ الطريقة الشاذلية عن الشيخ محمد اليدالي، ويذكرون في ذلك قصة رواها الثقات أن والد قد استبطأ تسريحه من قبل شيخه اليدالي ولِما علم من صفاء شيخه ورقة مزاجه أقام منه ليلة بحيث يسمعه فأنشأ يترنم بقول المتنبي:
ومن الخير بطؤ سيبك عني أسرع السحب في المسير الجهام
ولما كان الصباح لم يكن من الشيخ إلا أن قال: إن ابن خالنا هذا يستعجل مني أن أسرحه ويقول الأستاذ الداه ولد محمد عالي محقق كرامات كرامات أولياء تشمشه لوالد، أنه من المعلوم أن كلمة التسريح أي “اطليص” بالحسانية في قاموس أهل التصوف معناه الفراغ من كل العلوم الظاهرة على الأقل.
ومقتضى هذا أن والد بن خالنا قد ترشح للتقديم من قبل اليدالي، وليس نصا على أنه قدمه بالفعل ومن الراجح أن يكون قد فعل ومن الغريب أن الدكتور أحمدُّ ولد آكاه صاحب كتاب الطريقة الشاذلية في بلاد شنقيط لم يورد اسم والد بن خالنا في الثبت الشامل، الذي أعده لأسماء مشاهير الشاذلية في هذه البلاد مع أنه ذكر في ترجمة اليدالي أن والدا أخذ عنه.
علما بأن العلاقة بين والد واليدالي وطيدة كما تدل عليه الأخبار المتواترة، ومن أوثقها ما رواه النابغة الغلاوي في شرحه لقصيدة اليدالي ” إن همي” قال: أخبرني غير واحد من الثقات أن سبب إنشاء القصيدة هو أن الناظم رحمه الله تعالى بينما هو ليلة في جوف الليل وأحد أولاده في عرس والفتيان في خيمة العروس يتناشدون بينهم الأشعار بنغمات مطربات موافقات لأنواع من الأوتار إذ سمعهم الناظم فلم يمكنه النوم في تلك الليلة لما اعتراه من الطرب لكمال إيمانه بالمولى…فجاء إلى المراح بإزاء تلك الخيمة ثم جلس مستمعا لإنشادهم وكان فيهم تلميذه محمد والد رحمه الله فناداه الشيخ فجاء فقال له: أهذا والد؟ فقال: نعم. فقال دعتني إليك داعية فقال: وما هي؟ فقال: أريد أن تحفظ عني هذه القصيدة لتعيها أذن واعية فأنشأ يقول:
إن همي كتابك المستبين….الخ.
وقد رجع النابغة الغلاوي إلى أحمذ بن والد في التعريف بالشيخ محمد اليدالي فقال: وصفه لي توصيف المدرك الواعي بأنه أبيض حسن جدا طويل.
وقد يكون محمد والد أخذ الورد الشاذلي عن عبد الله بن أحمذ بن يحي النجمري أخي شيخه الأمين بن أحمذ بن يحي الذي ذكر أنه اعتمد عليه في شرحه لخليل المسمى شفاء الغليل والمعروف عند الناس بالمعين وعبد الله بن أحمذبن يحي هذا أخذ عن محمد بن أعمر امحمدالرمظاني عن سيدي أحمد عن أبيه محمد بن ناصر الدرعي حسب ما ذكر عنه تلميذه عبيدي بن محمذن بن ألفغ عبد الله وله طرق أخرى إلى ابن ناصر الدرعي(وثيقة بخط أحمذ بن زياد).
كل هذا يؤكد احتمال أن يكون والد بن خالنا قد أخذ الطريقة الشاذلية وعلى كل حال فقد تجسدت فيه خصائص هذه الطريقة وهي:
ـ الجمع بين الفقه والتصوف
ـ الملاءمة بين الزهد في الدنيا والتكسب
ـ الملاءمة بين التواضع والقوة في الحق
ـ الجمع بين النخبوية وعدم التعصب
ـ التمسك بأعمدة الفكر الديني السني في هذه البلادوهي فقه مالك وعقيدة الأشعري وطريقة الجنيد السالك.
ولقد خلف محمد والد ابنه محمد فال ولاسيما في بعده الروحي فاشتهر بالعلم والصلاح والولاية والظرافة والتمسك بالطبع الديماني.
ولعل تمسكه بالطبع الديماني الذي لا يحبذ الظهور بالإضافة إلى ما اشتهر عن السادة الشاذلية في هذه البلاد من البعد عن الأضواء، لعل هذا هو السبب في كون الفرع الوالدي من الطريقة الشاذلية لم يشتهر اشتهار غيره من الفروع.
3 الوعظ والإرشاد
كان والد رحمه الله ، على وعي تام بأن الوعظ والإرشاد هما وظيفة الأنبياء، لأن الله بعثهم مبشرين ومنذرين فعلى العلماء وهم ورثتهم وهو منهم أن يضطلع بهذه المهمة، فكانت هاجسه الذي لا يفارقه نستشفها في جميع مؤلفاته النثرية والشعرية والعربية والصنهاجية وما روي عنه من قصص تدعو إلى التحلي بعلو الهمة وسنتعرض لذلك من خلال ثلاثة نماذج من إنتاجه الفكري.
أ كتابه المعين:
ويفترض فيه أن يكون من الفقه الجاف لأنه يتحدث عن ما به الفتوى من مشهور المذهب عند المالكية على حد قول محمد العاقل رحمه الله:
فلسنا عليها إننا مالكية ندور مع المشهور في السهل والوعر
ومع ذلك نجد محمد والد يطغى به القلم ويرشح رشحات خارجة عن الفقه عليها مسحة روحية، قال الدكتور يحي ولد البراء في تقديمه للمعين في طبعته التمهيدية: ” ويبدو من صنيعه في هذا الشرح أنه يتوقف عند الأماكن التي تتسع فيها الفروع وخاصة منها ما يتعلق بالتبرك وفقه القلوب ويوليها اهتماما خاصا في النقاش والتعليق انظر إلى قوله في صلاة الجماعة عند قول خليل: “..ولا تتفاضل..” فقد شرحها بفقرة طويلة نحا فيها منحى تصوفيا. وكذلك فعل عند قول خليل:“…وتنفله بمحرابه..” فقد زاد فيها فقرة طويلة ترشح هي الأخرى بأحكام من فقه الإحسان جديرة بالاهتمام وقوية العلاقة بالفقه. انتهى الاستشهاد.
والذي أشار إليه الدكتور هو أن المؤلف عزا في الفرع الأول للقرافي في الذخيرة أنه لا نزاع أن الصلاة مع الصلحاء والفضلاء وكثير من أهل الخير أفضل من الصلاة مع غيرهم لشمول الدعوة وسرعة الإجابة وكثرة الرحمة وقبول الشفاعة ولخبر أن من الأئمة أئمة لا يرفعون رؤوسهم إلا وقد غفر لهم ولمن خلفهم ولخبر أئمتكم شفعاؤكم فاختاروا من يشفع لكم…الخ.
ب كرامات أولياء تشمشه
هذا الكتاب قمة أدبية ونثر راق ولكنه مع ذلك يكاد أن يكون مجموعة من الخطب الرنانة التي تزهد في الدنيا وتدعوا إلى الآخرة وتجمع العبد إلى ربه تعالى فلا يفتأ المؤلف يسدي فيها النصائح بالامتثال والاجتناب والتجافي عن دار الغرور كأنه يثبت بهذه الكرامات أنها نتيجة مجاهدة النفس ومغالبة الهوى والاعتماد على الله مستنهضا همم المريدين المقصودين بهذه التوجيهات فالكرامة إذا ثمرة ووجدان الثمرة مغر للسعي في سبيلها ثانية.
فاسمع إليه وهو يقول على سبيل المثال:”…ومن شمائلهم مخالفة النفس والهوى وإماتتها بالظمأ والطوى والصبر الجميل على البلوى والتعاون على البر والتقوى وحسن الجوار والعشرة في ساعة اليسر وساعة العسرة ومن التضافر والتظافر والتعاضد والتناصر…والمساعدة للعقل والشرع والعادة وعدم المحاسدة والمنافسة والمعاندة ومن أخلاقهم اجتناب الكبائر وترك الصغائر وتوقير الأكابر ورحمة الأصاغر وترك الخسائس وفعل النفائس والأدب في المجالس والدرس في المدارس والقيام بحقوق الشرع وتحقيق الأصل والفرع وإنفاق الضرع والزرع والتصدق بالوتر والشفع…
ومنه:…ومنهم قيم الطريقة حامي الحقيقة سهل الخليقة هين لين شفيق رفيق ذو ديانة وصيانة ونزاهة وأمانة على سلامة الصدر مع الصلابة والصبر ومن شعاره الدوام على الذكر وتلاوة الذكر والفكر والحمد والشكر والنهي عن النكر وكثرة البكاء والحزن وعيناه أبدا كالمزن والإعراض عن الترفه والجمع والخزن خوفا من الحساب والعرض والوزن والإشفاق على الضعيف في الجهر والسر بالإنفاق والإضافة وصيام أيام الحر وقيام ليال القر وجميع أعمال البر في الحضر والسفر والبحر والبر والخشية في الخلوة والإخلاص في الجلوة وقمع النفس عن الشهوة وردها وردعها عن الحظوة.
ج أشعاره
كل أشعار والد بن خالنا طافحة بالدعوة إلى الله والتزهيد في الدنيا والتذكير باليوم الآخر والدعوة إلى التوبة والاستعتاب والتذلل لرب العزة يبدو ذلك في قصيدته النونية التي زادت على ألف بيت وقصيدته الميميةالخفيفية كما أن قصيدتيه المعروفتين لدى العموم بالمكزوزةوالمزروفة خصصهما للتوحيد والتوسل والوعظ والإرشاد وفيهما أيضا ومضات من الإخبار بالغيبيات وتزيد أبيات كل واحدة منهما على خمسمائة بيت فالمكزوزة من خالص اكلام ازناكه قل من يعرف معناها وأخشى أن يكون ذهب من يعرف معناها كلها وأما المزروفة ففيها مزيج من اكلام ازناكه والعربية الفصحى والحسانية يبدأها بقوله:
اترك نك أر السبحان ** فلا أبغي به بديل
أنت الديان المستعان ** على ما نقول وكيل…
- الجذب
يشتهر عن محمد والد أنه ولي مجذوب وأنها كلمة تركها باقية في عقبه فما المقصود بالجذب في حق والد؟
عرف الجذب عند أهل التصوف عدة تعريفات منها أنه: تقريب العبد بمقتضى العناية الإلهية المهيئة له كل ما يحتاج إليه في طيّ المنازل إلى حضرة الحق بلا كلفة وسعي منه.
وقيل: الجَذْبٌ : حالٌ من أَحْوالِ النفسِ يَغيبُ فيها القَلْبُ عن عِلْمِ ما يَجْرِى من أَحْوالِ الخلقِ ويتصل فِيْهَا بِالعَالَمِ العُلْوِىّ.
وقال الشيخ عبد الكريم الجيلي رحمه الله تعالى : الجذب : هو الاصطلام
وقال الحكيم الترمذي رضى الله عنه : المجذوب هو من أعتقه الله تعالى من رق النفس ، فجذبه إليه ، فصار حراً ، وألزم المرتبة حتى هذب وأدب وطهر وزكى.
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضى الله عنه : المجذوب هو من جذبه الله إليه ، ولذلك كان سيره من أول خطوة في الطريق بالله لا بنفسه.
وقال الشيخ الإمام عبد الوهاب الشعراني رضى الله عنه: المجاذيب هم قوم سلب الله قلوبهم عن التعشق بشيء من الأكوان، وجعلها عاكفة في حضرته ، لا يشهدون إلا إياه ، فإن شاء الله تعالى ردهم إلى عقل التكليف ، وان شاء خبأ عقولهم عنده.
والذي نراه أنه لا يمكننا أن نحكم على الشيخ محمد والد نفيا أو إثباتا أنه متصف بأي من هذه التعريفات لأننا لسنا مؤهلين لذلك إلا إذا أطلقناها من باب التجوز وبناء على المقاربة الفنمينلوجية التي اعتمدناها في هذا العرض.
وللجذب معنى آخر في الاصطلاح العرفي يقصد به الخروج عن الكود الاجتماعي إما عن طريق الشذوذ عن القواعد وإما عن طريق رفضها أصلا.
ويقابل المعنى الأول السلوك ويقابل المعنى الثاني الاعتدال ولا شك أن والد بن خالنا لم يتصف قط بشيء من المعنى الثاني لأنه كان من رجال الحل والعقد وعليه تدور الفتوى والتدريس ومن هذا مركزه لا يمكن أن يتصور منه شذوذ عن نواميس المروءة المتعارف عليها إلا في نطاق إصلاح اجتماعي يدعوا إليه ويعطي فيه القدوة الحسنة أو في حالة غلبة حال عابرة.
5 الاعتناء بالتبرك
ثبت عندنا بالروايات المنقولة شدة عناية محمد والد بالتبرك بالصالحين وآثارهم فهل نمى إليه شيء مما كان في ذلك العصر يجري في الجزيرة العربية من دعوات متطرفة تدعوا إلى ترك التبرك وتعتبره نوعا من الشرك؟ أم هي قناعة مستمدة مما كان عليه السلف الصالح في هذا المجال.
وقد ذكرنا سابقا كلامه في تفاضل الجماعات ونورد هنا مثالين تأكيدا لما ذكرنا من شدة اعتناء محمد والد بالتبرك المثال الأول ما لم نزل نسمعه عن المشايخ والمسنين أن محمد والد كان يذهب إلى محل مضارب خيم أولاد باركل بن يعقبنل بن ديمان يتتبع ما قد يعثر عليه من خرق وأشياء متروكة يلتمس بركتها، والذي نعتقده أنه ما فعل ذلك ضربا في عماية ولكن لسر اطلع عليه فيما هنالك.
والمثال الثاني قصة بحثه عن المكان الذي ولد فيه شيخه محمد اليدالي وهي كما ذكرها العلامة محمد سالم بن المحبوبي في بعض كنانيشه:أنه قال محمد والد بن خالنا يوما لابنه محمد فال سر بنا نزر محل مولد هذا الولي يعني محمد اليدالي فسارا معا فلما بلغ المحل المذكور قال لابنه أنخ هنا وانظر لعلك ترى رمادا قديما فنظر بدقة فلم ير شيئا فأخذ بيد ابنه إلى بقعة أخرى قريبة وقال له احفر هنا وحفر حتى بلغ قرب مرفقه فإذا برماد قديم فقال له الأب هذه ضالتنا المنشودة هذا والله رماد النار التي أوقدتها القوابل لمحمد اليدالي ليلة ميلاده فمسحا عليهما من ذلك الرماد تبركا به وأديا حق زيارة تلك البقعة ورجعا إلى أهلهما والنفع كله في حسن الظن.
وبعدُ فهذا ما سمح به الجهد جهد المقل ولا شك أن فيه صوابا كثيرا وقد لا يخلو من خطأ وهو على كل حال مساهمة على قدر المساهم ويرد عنها نقد الناقد قوله تعالى: ((والذين لا يجدون إلا جهدهم))..وأشكركم والسلام عليكم ورحمة الله.
بقلم الشيخ: محمد فال بن عبد اللطيف
أفاد وأجاد حفظه الله ورعاه . نفعتا الله ببركتهما