الرئيسية / قراءات أدبية / بلوغ الأمل من زيارة فرنسا وابركسل (الجزء الثاني)

بلوغ الأمل من زيارة فرنسا وابركسل (الجزء الثاني)

فصل: ومما زرناه تمثال عظيم من الحديد على هيئة ذرة الحديد مكبرة مائتي مليار مرة يسمى في اللغة الفرنسية بالأتميو، وهو لفظ مشتق من اسم الذرة، ومما زرناه أيضا تمثال لأحد قادة الحروب الصليبية البلجيكيين وعندما زرناه اخذ مطوفنا يشرح لنا بطولاته وبلائه هذه الحروب
تسائلني بديلة عن أبيها****ولم تعلم بديلة ما ضميري فصل: ومما زرناه تمثال عظيم من الحديد على هيئة ذرة الحديد مكبرة مائتي مليار مرة يسمى في اللغة الفرنسية بالأتميو Atomium ، وهو لفظ مشتق من اسم الذرة، ومما زرناه أيضا تمثال لأحد قادة الحروب الصليبية البلجيكيين وعندما زرناه اخذ مطوفنا يشرح لنا بطولاته وبلائه هذه الحروب
[| [( تسائلني بديلة عن أبيها****ولم تعلم بديلة ما ضميري )] |]

فصل: ومما زرناه فيها أيضا متحف الخمسين وسمي بذالك لأنه انشأ بمناسبة مرور خميسين سنة علي تكون المملكة البلجيكية، ولم نزر هذا المتحف كله وإنما زرنا منه الجناح المصري وشاهدنا به من الآثار القديمة الشيء العجيب وأكثرها يرجع إلي ما قبل المسيح بل منها ما يرجع إلي عهد الأسر الأولى.

ومن ابرز هذه الآثار عدد كثير من الموميا وهي عبارة عن أجساد محنطة على الطريقة المصرية القديمة ولم تتغير منذ تحنيطها قبل المسيح إلى يومنا هذا، وسر هذا التحنيط العجيب ما زال غامضا على العلماء إلى الآن، والجسد المحنط جاف شاحب اللون صلب الجلد، وقد شاهدنا منه نحو العشرين في هذا المتحف وبعضها في توابيت مكتوب عليها بالهيروغليفية حياة أصحابها ومعهم في التوابيت بعض متاعهم في الحياة الدنيا كالقماش ونحوه وما يحتاج إليه إذا عادت إليه روحه يوم النشور.

ومن بين هذه الأجساد جسد امرأة يرجع تاريخها إلى القرن الخامس بعد المسيح فهي معاصرة لامرئ القيس بن حجر مثلا وجسدها لم يتغير إلا قليلا، ومن بين هذه الأجساد جسد أحد النبلاء من عهد الفراعنة الأولين ومعه امرأته، ومن زينة النساء عندهم حلق شعر الرأس.
ومن أبرز هذه الآثار السرير الذي كان يجلس عليه فرعون وهو سرير من خشب مرصع بمادة لا أعرف ما هي، ومن أبرزها أيضا أصنام من الحجر بعضها على هيئة النسر وبعضها على صورة الذئب وبعضها على صورة الجعل وكلها حيوانات مقدسة ولاسيما الجعل، ومن أبرزها أشكال كالأوفاق مكتوبة على ورق البردى بقلم غير معروف، ومن بين هذه الآثار أيضا لوحات وتماثيل تصور الحياة المصرية القديمة.
وكان يرافقنا مطوف يحدثنا عن جميع هذه الأشياء والآثار بإسهاب، وكان رجلا قصير القامة أحدب فارغ الشغل تصحبه عجوز شمطاء لا يفارق سوادها سواده علمنا فيما بعد أنها زوجته، وكان يجيب على أسئلتنا وأول سؤال طرح عليه كان محرجا وقد طرحه عليه أحد الأفارقة الذين كانوا معنا وهو من أين لبلجيكا هذه الآثار وهي آثار مصرية شرقية إفريقية وبلجيكا دولة أوربية غربية؟ فأجابه ببساطة أن بلجيكا كغيرها من الدول الغربية شاركت في نهب هذه الكنوز زمن الاستعمار وأنها لا تزال محافظة عليها إلى أن تكون للدول المعنية متاحف قادرة على حفظ هذه الآثار، هذا ما أجاب به وهو جواب لا يخفي ما فيه.
فصل: ولما كانت عشية السبت رجعنا إلى باريس في القطار ونحن نمشي القهقرى، ومقاعدنا كانت هذه المرة من الدرجة الثانية وتلك حالة لم تدر سببها وإن كان كل منا وجد لها سببا نعوذ بالله من الكور بعد الحور، ولما رجعنا إلى باريس قسمونا إلى ثلاث شعب: شعبة ستتدرب في أورليانس Orléans وأخرى في بلواس Blois وأخرى في طورس Tours ، وهي ثلاث مدن قديمة كان لها دور في التاريخ الفرنسي وتقع على ضفة نهر اللوار Loire الشهير بالروعة والجمال والقصور الشاهقة والعطور الجميلة.

فصل: وكان نصيب مدينة بلواس منا أربعة: ابن الشيخ سيدي وابن محمذن وابن ادياه وكاتب هذه الرحلة سامحه الله، وقد فهمت من أصحابي أنهم كانوا يكرهون اسم بلواس لما فيه من الفال الغير حسن فأحببت أن أزيل عنهم هذه الطيرة فقلت لهم إن البلوى في اللغة الاختبار وأنها تقع للخير والشر قال تعالى: ونبلوكم بالشر والخير فتنة.
فصل: ومدينة بلواس هذه مدينة صغيرة في حجم نواكشوط وهي نظيفة وتقع على ضفة نهر اللوار وأهلها محافظون وفيها قصور تاريخية جميلة وأهلها أهل بشر وإحسان، وتوجد فيها مصانع للحليب والشكولاته وهي مركز سياحي عظيم.
فصل: وكان المشرف على تدريب هذه الشعب الثلاث رجل سمه بلوار وهو يسكن في بلواس وكان قبل موظفا ساميا فيها ثم أحيل إلى التقاعد فكان زمنه فارغا لا شغل له إلا نحن لا يمل الحديث معنا، وكان دمث الأخلاق لين العريكة يعرفه كل أحد وأوصى بنا كل أحد، وكان أحرص الناس على حديث أقصر أحاديثه يستغرق نصف ساعة على الأقل، وقد ينوي رحلة ثم يؤجلها إلى غد لأنه وجد من يتحدث معه، وكان أصحابي يعتبرون هذا منه ثرثرة وضعفا في الشخصية والحق أنه سعة الخلق.
فصل: وزوجة هذا المشرف مثله في حب الكلام والثرثرة تعرفنا عليها أولا من خلال التلفون حيث كنا نبحث عن خبر زوجها ثم تعرفنا عليها بعد ذلك حيث دعتنا مرارا إلى بيتها، وهي مسيحية حقا وقالت إن زوج ابنتها ملحد وأن زواج الملحدين حرام في شرعها ولكنها لا تستطيع شيئا، وهذه المرأة لا ترضى من السلام بما دون العناق والقبل، وقد صنعت لنا الجبن الجيد والأرز واللحم وأخذت منا صورا وإلى الآن مازالت تطالعنا ببعضها في البريد، وخلاصة القول أنها “مضم” كاملة خلقا وخلقا.
فصل: وكان تدريبنا في بلواس مدة شهرين كاملين، وكان جاريا طبقا لبرنامج خططه المشرف على التدريب وكان مريحا للغاية لأن أهل الإدارة التي قمنا به عندهم يعرفون ما يفعلون، وكانوا في غاية الإكرام لنا وقاموا بتهيئة الجو المناسب فأكملنا التدريب على أحسن وجه وحصلنا على جميع المعلومات والإيضاحات التي كنا نريد الحصول عليها.
فصل: وكان سكنانا في بلواس في كفالة للعمال الشباب وأوان قدومنا لم نجد غرفا فردية نسكنها مما أوجب على بعضنا السكنى مع النصارى مدة أسبوع حتى تجهز له غرفة فردية وقد كنت ذلك البعض أسكنت مع شابين فرنسيين كنت ثالثهما فتبركت بهذا الثالوث لأننا في أرض التثليث، ولم تمض ثلاثة أيام حتى أصبح لكل منا غرفة خاصة به فيها سريره ومتاعه وسجادته وصخرة التيمم .
فصل: ومدير كفالتنا رجل طاعن في السن جسيم له شارب عظيم وهو طيب الأخلاق داهية محنك له ملكة عظيمة في حفظ الأسماء، وهو نشيط جدا رغم أنه أعرج يتوكأ على عكازة فتلقانا بكامل البشر وتحدث معنا في مواضع شتى ونحن في مكتبه ثم تركناه ونحن نقول
[| [( والله لولا حنف في رجله**** ما كان في فتيانكم من مثله
وساد أهله وغير أهله
)] |] ويعمل معه في الكفالة نسوة من أهل المدينة، منهن واحدة عرجاء هي الأخرى مكلفة ببيع بطاقات الطعام، ومنهن واحدة بيدها مفاتيح الفندق وقد حمدنا الله تعالى إذ لم يجعل بيديها مفاتيح الخير كله فقد خلقها الله عبوسة الوجه، ويوم قسم تبارك وتعالى مكارم الأخلاق كانت غائبة، وهي تسمى مضم ابردون وقد علمنا فيما بعد أن ابردون هذا لا وجود له، ومنهن واحدة بيدها حساب ما يخرج من الكفالة وما يدخل، ومنهن واحدة طاعنة في السن حسنة الأخلاق تخدم في كل شيء تكنس وتكتب وتغسل وقد حدثتنا عن نفسها وابنتها وزوج ابنتها، ومنهن واحدة هي المقتصدة بيدها خزائن الأرزاق، وثم خادمات أخر لا أهمية لهن، وثم أيضا رجال يقومون ببعض الخدمات من بينهم شاب جزائري ورجل آخر حسبه بعض الإخوان جزائريا لأنه يعرف العربية فكلمه في شأن الأخوة بين الشعبين الجزائري الموريتاني فقال له لا تضيع وقتك إني رومي فضحكنا بها زمنا.
فصل: وأما كيفية الأكل فهي أن يقوم الناس صفا ثم يمرون واحدا بعد واحد ثم يأخذون أرزاقهم في أطباق معروضة أمامهم ثم يعودون إلى المناضد والمقاعد حيث يأكلون، فإذا انتهى بهم الأكل حملوا أطباقهم إلى النسوة اللاتي يتولين غسلها وإعادتها إلى حيث كانت بادئ ذي بدء، وهذا النوع من الخدمة هو المعمول به في مطاعم الجامعات والمراد منه أن يختار الشخص الطعام الذي يشتهي، وقد وجدنا في أنفسنا حرجا من أن يأكل أحدنا منفردا فضلا عن أن يحمل طعامه وأطباقه بيده فضل أن يكون ما يحمل أرنبا أو نحوها ولكنا تعودنا على ذلك مع الزمن وأنشدنا قول ابن الشيخ سيدي:
[| [( وهون في أقاصي الناس هين****وهون في العشيرة غير هين )] |]

والأطباق التي تعرض علينا هي طعام الذين أوتوا الكتاب من بقر وجدي وخروف وأرنب وميتة ودم ولحم خنزير مطبوخة بما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، وكنا نجد مشقة في اختيار أطعمتنا ونسأل الطباخين عنها عملا بالقول المأثور المؤمن فتاش ، فما أخبرونا أنه خنزير أو دم أو خمر تركناه وإلا أكلناه. وهنا وقعت لنا مشكلة الذكاة فإن الفقهاء اشترطوا في حلية ذبائح أهل الكتاب أن تقع على الوجه المذكور في المختصر من قطع مميز تنكح وليته تمام الحلقوم والودجين بلا رفع قبل الإتمام، ونحن نعلم أن بعض الجزارين لا يقوم بالذبح على هذه الصفة ولا نعلم هل ما يقدم إلينا من ذلك النوع أم لا؟ مع أن غالب الظن أنه منه، وقد أدانا فقهنا وذوقنا إلى أن نتمسك بظاهر الكتاب، لاسيما والضرورة ماسة والبرد شديد ودين الله يسر. [وقد عرضت قضيتنا في أبيات أرسلتها إلى موريتانيا وهي->http://www.niefrar.org/spip.php?article111]:

[| [(

أيا سادة الفتوى ألا فاسمـــــعوا شكوى *** يقدمها الطلاب من ســـــــــاكنى بلوا

تشكوا بــــــــــــبلوا غربة و مشــــــقة *** و مسألة فيها تـــــــــعم بــها البلوى

هي الأكل مما ذبـــــــحه بـمســـــــدس *** يـــــــــفلق أم الرأس يــتركها رهوا

فإن فروع الـمالــــــــــكية قـــــد رأت *** ذكاة بـــــتلك الحال لــيس لها جدوى

فكل مذكى هكــــــــــــــــــذا فهــو ميتة *** طـــعام خبيث كدَّر الطيب الصــفوا

هم القوم من أهـــل الكـــــتاب و ذا لهم *** طــعام أجازوه على ظاهر الدعـوى

ويأكله القــــسيس والــــحــــــــبر منهمُ *** و يأكله منــــهم أولى البر و التقوى

أيا أيها الصِّــــــــــــــدِّيق أفـــــت مبينا *** لنا من فصـول الأمر أقوالـها الأقوى

و لا تفــــتنا فيها بمشـــــــــهور مذهب *** فما كل مشـــــهور تجوز به الفـتوى

إذا لم يـــــــكن فرع بتحلــــــــيله لـــنا *** يقول فإنا سوف نأكــــــــــــله سهوا

فإن عـــــــــلينا في ســــــــواه مشـــقة *** من اللاء يجــــلبن السهولة والعـفوا

فلم نتبقل أي بـــــــقل ولم نــــــــــكن *** كأصحاب موسى نطعم المن و السلوى

وليس سوى الحلوى طــــعام و أكـــلها *** إذا ما أدمــــــــــــناه فأبداننا تضوى

إذا البرد والجـــوع استمرا على الفتى *** فأزهد شـــــيئ عنده الحلوُ و الحلوا

كذا قد نحـــــا الطلاب فــــــى كل بلدة *** و نحن نحونا مثلـــــهم ذلك النحوا

ونكره أن نستـــــــعبد الدين للـــــهــوى *** فلا خير فى دين إذا اتـــــبع الأهوا )] |]

كان هذا دأبنا في جميع الأيام ما عدا يوم الأحد فإنه يوم لا عمل فيه ولا يفتح فيه من المطاعم إلا القليل، وكنا نتزود لمثله يوم الجمعة والأيام قبله فندخر له شيئا من اللبن والتمر والعنب والكعك، وربما فضلنا الذهاب إلى أحد المطاعم المفتوحة يوم الأحد بمحطة القطار.
فصل: وأما لهونا فهو دائر بين الأشياء التي تقدح في الشهادة من سماع غناء وإدامة شطرنج والله يعفو عنا إن شاء الله لأنا بمثابة المسافرين والمسافر يندب له العبث كما يقال، وأما الغناء الذي نسمعه فهو أشرطة مما أنتجت ديم بنت آب ومحمد عبد الرحمن بن لعور وبت وأخواتها وسدوم بن أيد ، وقد زارنا هو بنفسه وحدثنا عن موريتانيا وقال عهدي بها وقد انتهى عنها إريف وبدأت ريح الكبلة تداعب الغصون، فقلنا له شوقتنا يا أصيل وكان يوما جميلا استمعنا فيه إلى أحلى الأحاديث، وسائر أوقاتنا نمضيه في النظر إلى التلفزيون ومشاهد الألعاب فيها وشاهدنا فيها تتويج ملكة بلجيكا كما شاهدنا تشييع تيتو إلى مثواه الأخير وشاهدنا الحملة التي قام بها كارتر في صحراء إيران لإنقاذ أسارى طهران وكيف مكر الله بهذه الحملة فصارت كأمس الدابر.
فصل: وقد تلقينا دعوات كثيرة من بعض الموظفين في بلواس أولها دعوة من السيدة ماري افرانسواز وكانت كثيرا ما تدعونا، وقد دعتنا إلى بيت أبيها في الريف وبتنا في ضيافتها إلى الحادية عشر مساء وكان والدها شيخا كبارا من الطراز القديم تحدث معنا في شتى المواضيع وله إلمام بالتاريخ يعرف متى دخل العرب فرنسا ومتى طردهم منها شارل مارتل في مدينة ابواتيي وهي مائة وخمسين كيلومتر من مدينة بلواس، وكانت هذه الليلة مقمرة صاحية فنظرت إلى الشمال فإذا القطب الشمالي قريب من كبد السماء .
فصل: ودعتنا كذلك الآنسة منيك درو وكانت كثيرا ما تدعونا، دعتنا إلى بيت أخيها في حي ريفي يبعد ثلاثين كيلومترا، وكان ذلك في أوائل فصل الربيع قد أخذت الأرض زخرفها وازينت والأزهار تتمايل تجري من تحتها الأنهار فأقمنا ثم سائر يومنا إلى أن أخذت الشمس تميل عن كبد السماء وأخذت أشعتها تداعب نهر اللوار والريح تعبث بالغصون وقد جرى ذهب الأصيل على لجين الماء، ولما رجعنا في السيارة مع منيك أنشد أحد الأصدقاء قول الشاعر:
ثلاثة تجلو عن القلب الحزن**** الماء والخضراء والوجه الحسن
فترجمنا هذا البيت لمنيك وجعلنا مكان الوجه الحسن الوجه البشوش خوف أن تجد في نفسها من ذلك لأن وجهها لم يكن كذلك.
فصل: ودعانا المفتش كولين إلا أنها دعوة كدرها بني له صغير مدلل من نوع أبناء مضمات الاستعمار، فظل طول نهاره يلطمنا ويضربنا وأبوه ينهاه ولكنه لم ينته، فلا أبوه كفه عنا ولا نحن استحسنا أن نكفه عن أنفسنا فلاقينا منه الأمرين. وتذكرت يوم ذاك نادرة وقعت لأحد الظرفاء مع صبي من هذا النوع ركب معه في قطار في سينغال فلم يزل ذلك الصبي يلطمه ويثقل عليه حتى إذا وجد غرة من أم الصبي كشر له عن أسنانه فارتاع الصبي وذهب إلى أمه باكيا ونجا الرجل من شره سائر ذلك اليوم، وقد أعملت هذه الحيلة فحسبني هذا الصبي ممازحا له فازداد جرأة علي وعلى أصحابي .
فصل في ذكر دعوة حاكم بلوى لنا: دعانا يوما إلى أرغفة وشراب ليتحدث معنا، وكان رجلا طوالا حسن السمت لطيف الحديث يستمع أكثر مما يتحدث، تلقانا عند بهو داره هو وزوجته وبعض الموظفين معه وتحدثنا معه ساعة كاملة في جميع الميادين، وهو يوم لبست فيه اكرافت ولم ألبسها قبله ولا بعده، وقد عرض علينا أشربة نعرف بعضها وننكر بعضا فشربنا ما نعرف وتركنا ما لا نعرف، وتلك عادتنا إذا عرضت أشربة كثيرة يأخذ بعضنا عصير التفاح والبعض عصير الليمون والبعض يأخذ الماء والبعض الكوكا والماء أطيب وأطهر وأحب إلى العلماء، خصوصا والخمر ألوان منها الأبيض والأحمر وبعضها يشبه العصير شبه الغراب بالغراب حدثنا بذلك بعض من يوثق به في هذا الشأن.
فصل: وزوجة الحاكم مهذبة الأخلاق ترتدي أثوابا نظيفة وهي تقوم بمهنة البيت، لا فرق بينها وبين غيرها من نساء المدينة بعكس الحاكم فإنه رجل مهاب الطلعة محترم كل الاحترام يعتبرون لقيانة منه شرفا وإشارة منه حظوة لا ينالها إلا المقربون.
فصل: وكلب أهل الحاكم وديع لطيف ذو شعر ناعم وهو يلحس أرجل الحاضرين برفق ولا ينبح ولا يعض وهو من خيار الكلاب، فقد حدثني مدير التدريب أن كلب الحاكم السابق كان عقورا، وأن من أغرب ما فيه أنه كان كلما تكلم الحاكم نبح وإذا سكت سكت، قال: وإن من كلاب الحكام ما يطرد الزائرين ويوسعهم عضا ونهشا.
فصل: وممن دعانا كذلك مدير الزراعة في بلواس وقد كان مسئولا عن الزراعة في روصو زمن الاستعمار فأرانا صورا ساكتة وصورا فوتوغرافية التقطها من موريتانيا سنوات الأربعينات والخمسينات، من هذه الصور ما يمثل اندر ومنها ما يمثل المجرى وأطار وسدود ألاك وصورا كثيرة غيرها، وامرأة المدير ما زالت تحن إلى ذلك العهد السابق وتأسف كثيرا لتغيير الأسماء الاستعمارية لبعض مدننا، وقد صارحتنا بذلك مما يدل على رعونتها، ولكن هذه الدعوة كانت ممتعة جدا وكان المدير على جانب عظيم من الذكاء واللباقة.
فصل: وأنت ترى كيف تلقانا أهل بلواس بكامل البشر والسرور وهذا ما جعل بعض الأصدقاء من أهل المدن الأخرى يقول على سبيل المزاح أننا قد عملنا لهم حكمة كما يقال، ولذلك طلب مني أحد الأصدقاء أن أمدح له أهل بلوا فقلت على ما أعانيه من قريحة ناضبة وهموم ناصبة:
[| [(

لدى بلوا أناس كالأناسـي **** لقونا بالمسرة والحمــــــاس

وإن أك ناسيا يوما لشيء **** فلست لذكرهم أبدا بناســــي

وإني قد عرفت بها دماسا **** قد أنساني دماسي عند ماسي

)] |] فصل: وأما ركوبنا وتنقلنا فهو في الحافلة المسماة بالباص، وقد حصلنا على تذكرة شهرية خاصة بالطلاب ثمنها خمسمائة وخمسون أوقية لا يسأل صاحبها عن شيء مدة شهر يركب في أي حافلة شاء إلى أي بلد من المدينة شاء، وهذه الحوافل جميلة وديعة محرم على الكلاب أن يدخلنها وعلى المدخنين أن يدخنوا فيها ويجوز فيها حمل القطط، وربما يوجد فيها الزحام ولكن ذلك نادر جدا بالنسبة لما يقع في المترو في باريس، وقد زاحمتنا يوما عجوز في الحافلة فقلت لأحد الأصدقاء: أين نحن من قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
[| [(
يا حبذا المشعر من موقف**** وحبذا مكة من مشهـــــــد
وحبذا اللائي يزاحمننــــــا **** عند استلام الحجر الأسود
)] |] فصل: ومستوى الثقافة العامة في سكان بلوا منخفض جدا، وهو شيء ناتج عن ظروف المعيشة عندهم فإن الحياة عندهم لهو وعمل، أما اللهو فيخصصونه للألعاب وما أشبهها بحيث أنهم لا يعرفون عن العالم إلا ما في محيطهم وما يمت إليه،

يبتع بحول الله

[الجزء الأول->http://www.niefrar.org/spip.php?article234]

تعليق واحد

  1. en lisant un texte pareil, tu apprends, tu rigoles, tu voyages un grand merci à notre professeur Med vall abdellatif

اترك رد