بين يدي تقريرٌ ووثيقة طريفان جدا: أما التقرير فقد كتبه إداري فرنسي حاول من خلاله أن يضع مقاربة لما يسميه: “المدينة القروية”، ويقترح من خلال مقاربته الذكية تلك ضرورةَ وضع حد للبداوة الموريتانية،
وإنشاء قرى تجمع بين الطابع الحضري للمدينة وبين الطبيعة البدوية للمجتمع الموريتاني.
ويخيل إليَّ أن المهندس السويسري-الفرنسي العالمي لكوربزييه (Le Corbusier) ، نظر في هذا التقرير قبل وضعه لمخطط مدينة نواكشوط المعماري العام نهاية خمسينيات القرن الماضي، ذلك المخطط الجبار الذي يعكس عبقرية لكوربزييه وطموحه الإبداعي والذي لفه النسيان دون أن يرى النور مع الأسف.
ومما استوقفني في هذا التقرير الطريف ما ذكره كاتبه من أن الموريتانيين لا يميلون إلا إلى عنصر واحد من الإدارة الاستعمارية وهو الطبيب البيطري، لسبب بسيط وهو أنه يداوي أنعامهم وهي أعز شيء في حياتهم.
إذا لم تسيطر على الإنسان فسيطر على الحيوان
هذا عن التقرير أما الوثيقة فعبارة عن رسالة موجهة من الإدارة الفرنسية بسينلوي بالسنغال ومكتوبة باللغة العربية إلى جميع ساكنة موريتانيا، وتتعلق بأمراض الحيوان، والتدبير الفرنسي المتعلق بعلاجها.
فقد فهم المستعمر مبكرا، بعد أن واجه إعراضا مستحكما من طرف الموريتانيين، ومقاومة متراصة في وجهه، أهمية التنمية الحيوانية في حياة الناس، وكيف يمكن أن يكون في اعتنائه بحيوانات الساكنة وعلاجها مَعْبَرا لتوطيد قوته، ومَسْلَكا لبسط نفوذه، وتَوَسُّلا لربط صلات ثقة مع المواطنين.
هذه الوثيقة طبعت في سينلوي في العشرية الثانية من القرن العشرين وصاغتها الإدارة الفرنسية باللغة العربية، وقد فهم الفرنسيون أن الاعتناء بالحيوان في موريتانيا وفهم أمراضه وعلاج ما هو شائع من تلك الأمراض ووضع حد لانتشارها يدخل في سياسة السيطرة والتحكم. فإذا كان الموريتانيون ينفرون بطبيعتهم من المستعمر، وتسمح لهم بداوتهم المتأصلة العريقة، وأرضهم المنبسطة المتسعة بالانقطاع عن الإدارة الاستعمارية، فإن هذه الإدارة جعلت من الحيوان وعلاجه وسيلة للتقرب من الساكنة، فإذا تمنعت السيطرة على الإنسان تم التوسل إلى تلك السيطرة بالحيوان.
وهذا نص الوثيقة:
إعلام إلى أهل موريتان
إنا نعلم أنه ليس عندكم من المال إلا الماشية، فإذا حل بها مرض يوشك أن تبقوا بلا مال. إن عمل التنمية يتكفل بحفظ ماشيتكم، ودواءِ ما حل بها من الأمراض، فإنه يجعل تحت يدكم العمال والأدوية بلا ثمن. وعلى كل حال ليس عليكم أن تَقضُوا شيئا ولو العجول التي كانت تطلب منكم لشَرْطة “بودَمْعَه”؛ لأن عمل التنمية عنده فضة بين المال، أي الفضة التي تقضون في العشر.
وأما العمال فإنهم أيضا عندهم رواتب يُقضوْن منها وتُقضى لهم مؤنة السفر من فضة بيت المال. وأقول لكم أيضا: إنكم ليس عليكم أن تدفعوا شيئا من مالكم لا فتيلا ولا نقيرا سوى ما كان من الضيافة العادية. إن العمال سيمرون كل عام على مواشيكم للشَّرْطةِ، وإن كانت عندكم دوابُّ مرضى يمكنكم أن تطلبوا من الشَّرطة أو رؤسائهم أو الحطام الإعانة في دوائها.
إن الأمراض التي يعالجها عمل التنمية هي:
بودَمْعَه، بوگيْمَه، بوجْنيّحْ.
أما بُودَمْعَه : فلا بد أن يشرطَ كل بقرة لم يصبها قبلُ، وقد وجدتُ الآن شَرطةً جيدةً تحمي منه عامين أو ثلاثة، وربما حَمَتْ مدى الحياة، فإنها أجود من السابقة ولا بد من الشرطة كل عام، فبسبب ذلك يُنْفَى المرض كما وقع منذ أعوام في بعض المواضع.
وأما بوجْنيّحْ وبوگويْمَه: فإنهما ربما قتلا كثيرا من الماشية في بعض المحالِّ، وربما صدرت إلى الإنسان من لحمها وجلدها أمراض قاتلة.
بومگعار : إن بومگعار يكون أحيانا معضلا، وإن وقع في قطيع فلتُطلب الشَّرطة لذلك الحيوان.
ومن الأمراض التي تعالج في عمل التنمية “التّابُورِيتْ” في الإبل والبقر، وما يقع من أوجاع البطن في البقر والغنم، ومنها أيضا الجرب وغرْجِي.
أما التابوريت فعندها شرطتان تُبْرِئان المصاب، وشرطة واحدة تحمي من المرض مدة ستة أشهر، ففي هذه الأشهر يمكن للإبل أن تذهب إلى موضع يعض فيه الذباب إن احتيج إلى ذلك.
وأما أمراض البطن فعندها أدوية تشفيها وتمنع من رجوع المرض، فإن اجْتهدتم في دواء ماشيتكم تكون أجود مما هي عليه الآن ثمنا وحالا.
الجرب: يمكن أن يداوى في يومين فقط.
غِرْجِي: يمكن حواؤه وحفظ باقي الماشية إن أخبِرَ أوانَ وقوع المرض.
وباختصار جميع أمراض الماشية ممكن دواؤها.
وكل ما احتجتم له من الخبر فاطلبوه من عمال التنمية الذين حولكم، يمكنكم أن تُعِينَوا عمل التنمية في معالجة أمراض الماشية إذا أعلمتم العمال بكل مرض وقع حولكم، وطلبتم الشَّرطة في كل عام عند اجتماع الناس في الآبار.
وأقول لكم أيضا إن هذا العمل بلا ثمن فإذنْ لا تخشوا أن تطلبوا الإعانة في أمراض الحيوان. ويمنع على العمال أن يسألوا الفضة أو الحوائج، وإن وقع ذلك عندكم فابعثوا شكوى إلى الحاكم.
ومع ذلك فلا بأس أن تعينوا عمال التنمية إن احتاجوا إلى ذلك بإعطاء واحد ومراكب تعينهم إلى محل يذهبون إليه من العمل عندكم. انتهت الوثيقة.
وقد ذكرت الوثيقة “الشَّرطة ” وهي عملية التلقيح التقليدية التي كان الموريتانيون يقومون بها، كما ذكرت عدة أمراض وأوبئة شهيرة تصيب الإبل والبقر وغيرها من الأنعام مثل: بودَمْعَه وبوگويْمَه وبوجْنيّحْ وبومگعار والتّابُورِيتْ وغرجي والجرب. وهي أمراض مشهور سأتعرض للتعريف بها أو ببعضها في الفقرة التالية.
الأوبئة الحيوانية والتاريخ الموريتاني
تحدثت الحوليات الموريتانية عن الأوبئة التي تصيب الحيوان وتصيب الإنسان، فقد ذكرت تواريخ تيرس وإينشيري والترارزة أن سنة 1802 كانت تعرف في تلك المناطق بعام “جرب الإبل” وهو مرض مشهور يصيب الإبل وتصحبه حكة فينتج عنها مع طول الوقت اختناق الحيوان المصاب وربما أدى إلى موته.
وقد ذكر محمد عبد الله بن البخاري بن الفلالي بن مسكة الباركي رحمهم الله في كتابه العمران أن عم أبيه الحاج بن مسكة كان أول من عالج جرب الإبل علاجا ناجعا مستعملا “لبن الفرنان” وهو السائل ذو اللون الأبيض. وكان علاجه قبل ذلك بالكبريت وهي حجارة لها معادن مشهورة، أو يعالج بالقطران وهو مكلف لأنه يستجلب من المغرب.
وربما عالجوه ببول الإبل غير المصابة يخلط بالبعر المفتت مع حشيشة تسمى “المخينزة” ويعرف الخليط باسم “العگيدة”، وهي غير مضمونة النتيجة.
وفي اعتقادات الموريتانيين أن الجرب والجراد لا يظهران إلا في سنوات الخصب. ويعتقدون أيضا أن جرب الإبل جالب للبركة فيقولون: “إلى جربتْ كثرت”.
يعرب الموريتانيون قديما “الفرنان” باليتوع وهو تعريب غير دقيق، فاليتوع كما في القاموس وفي تاج العروس “كل نباتٍ له لبنٌ مسْهِلٌ محْرِقٌ مقطعٌ” وعد الفيروزآبادي والزبيدي من أنواعه سبعة. وعلى هذا الأساس فالفرنان يتوع و”تورجة” أي العشر يتوع كذلك، و”أم لبينة” يتوع، فهي كلها نباتات محلية ملبنة.
تذكر حوليات تجگجة أن سنة 1816 تعرف في منطقة تگانت باسم عام كعوان وهو مرض يصيب الإبل وتختلف الرعاة في تشخيصه فهو عند البعض مرادف لمرض “اتْگرْگِيرْ” الذي يصيب الإبل عندما تأكل أنواعا من الحشيش فتظل ترغو حتى تموت، واتْگرْگِيرْ مرض معد.
وكعوان عند بعضهم يصيب الإبل عندما تصاب بسوء التغذية ويرادفه في هذه الحالة “اتلغْزِيمْ “. وعند بعض ثالث فإن كعوان سببه انتقال الجمل من مكان ظليل إلى آخر مشمس.
وتذكر تواريخ الحوض في ولاتة والنعمة وحوليات تجگجة وتيشيت وأنظام التاريخ في الگبلة أن سنة 1865 تعرف باسم عام بوريه أو عام “غِرْجِي” وهو مرض يصيب البقر والإبل يسمى ما يصيب البقر منه “غِرْجِي” وهو قريب من السل الرئوي الذي يصيب الإنسان. وقد عم داء البقر جميع المناطق الموريتانية فتحدثت عنه جميع تواريخ البلاد. ويذكر ابن انتهاه الشمسدي في تاريخه أن سنة 1890 تعرف بعام “غرجي” كذلك.
وتذكر حوليات ولاتة وحوليات تجگجه وحوليات الگبلة وغيرها أن سنة 1891 عرفت باس م “عام بومرارة” ، وهو مرض يصيب البقر يشبه اليرقان حيث يصفر البقر ويصاب بالهزال.
وقد كان وباء بومرارة شاملا أغلب مناطق موريتانيا وقد استمر سنتي 1891 و1892 كما في كتاب الأعداد لابن احبيب اليدمسي.
وقد ذكر الشاعر أبو بكر بن محمذن بن أبي بكر الديماني الفاضلي الملقب بكنْ في أبيات له حوادث وقعت سنة 1992 كمرض بومرارة وكمصرع نفر أولاد أحمد بن دمان بخروفة، وكوفاة اثنين من أبناء محمذن بن أحمد بن العاقل وهما سيدي الأمين والمختار امو رحم الله الجميع. يقول أبو بكر (بكنْ):
[| [( شيئان إنْ فقدا لا شيءَ بعدَهما ۞ ولا يشدُّ إلى الدنيا إذنْ خَبَرُأبقاهُما الله ما أبقَى الزمانُ بِنا ۞ أبناءُ أحمدَ بنْ دَمَانَ والبَقَرُ
أودَى الزمانُ بما في الكونِ من بَقرٍ ۞ وآلُ خندُوسَه قدْ أودَى بهم يَمَرُ
والسادَةُ الغُرُّ آلُ العاقِلِ انتقلتْ ۞ إلى جوار العُلَى من ربِّهمْ نَفَرُ )] |]
وفي تاريخ البرابيش أن سنة 1890 عرفت بمنطقة أزواد بعام باروش الخيل، وهو مرض الخيل والغنم وأعراضه كثرة الدموع وحكة ومخاط يسيل من أنف الدابة. وكان أهل الخيل إذا أرادوا تفادي إصابتها بباروش يتركونها دون ركوب خلال شهر أكتوبر.
هذا جانب من تاريخ الأوبئة التي تصيب الحيوانات في موريتانيا وسأتناول إن شاء الله في جزء ثانٍ تاريخ الأوبئة التي أصابت الإنسان الموريتاني أسمائها وتواريخها وتوصيفها وتأثيرها على السكان.
انتهى.
[| [(
الدكتور سيدي أحمد ولد الأمير
باحث موريتاني مقيم بقطر
للاتصال بسيدي أحمد ولد الأمير:
ahmeds@aljazeera.net
ouldlemir63@gmail.com )] |]