نحن الآن في أواخر فصل الخريف وهو فصل يكثر فيه اللبن فلا بد من تسجيل بعض الخواطر حول هذه المادة البيضاء الدسمة المباركة المقدسة .
و قبل كل شيء نذكر انه ورد في الصحيح أن اللبن يرمز للفطرة إذ اختاره الرسول عليه الصلاة و السلام ليلة الإسراء و المعراج على الخمر فقيل له اخترت الفطرة ولو اخترت الخمر لغوت أمتك وورد في الصحيح انه عليه الصلاة والسلام كان إذا شرب لبنا حمد الله و طلب الزيادة منه في حين أنه إذا تناول غيره يطلب الرزق مما هو أفضل منه و في هاتين مزية للبن ما فوقها مزية .
أما نحن العرب فان اللبن عندنا يمثل في الجاهلية و الإسلام أحد العناصر الفعالة في المجتمع و في الأفراد و في الثقافة و في الأفكار فمن جال في أشعار العرب ( و الشعر ديوان العرب ) ظهرت له المكانة التي يحتلها اللبن .
و يكفيك أن امرأ القيس وهو من هو في كبريائه و غطرسته لم يرض في حياته قناعته القسرية إلا باللبن و مشتقاته و رضي من الغنى بلبن المعز و سمنها و أقطها .
و بالرغم من المكانة التي يحتلها اللبن في المخيلة العربية فإنهم لم يرتضوه قري للأطياف إلا في حالة الضرورة القصوى وقد عبر عن ذلك شاعرهم بقوله :
إذا نحن لم نقر المضيف ذبيحة *** تمرناه تمرا أو لبناه راغيا
.
و عبر عنها الشاعر الطائي حريث بن عتاب في قطعته التي يصف بها كيف قرى غلاما قريعيا يبحث عن ضوال من الإبل ، لبن ناقة حلوب و أقسم عليه ليستهلكن جميع ما في القعب و القطعة مشهورة و مطلعها :
عوى ثم نادى هل احستم قلائصا *** و سمن على الأفخاذ بالأمس أربعا
بل إنهم حكموا بأن بذل اللبن في زمن الخريف لا يدل على الكرم بل ربما دل على البخل و يومئ إلى ذلك قول الشاعر :
فان لنا شيخين لا ينفعاننا *** غنيين لا يجري علينا غناهما
هما سيدانا يزعمان و إنما *** يسوداننا إن أيسرت غنماهما
ثم انه قد تحدث للبن عوارض تجعله مثارا للذم منها لبن دية المقتول الذي لم يؤخذ بثأره كانوا إذا ذموا قابل الدية قالوا انه فضل اللبن على الدم وهي مذمة لا فلاح معها .
و من هذه العوارض أيضا إكثار الرجال من شرب اللبن حتى يؤدي بهم ذلك إلى السمنة المفرطة .
و قد نعى طرفة بن العبد على بعض مهجويه أن له شربات من اللبن بالليل و النهار حتى صار كالحميت الدسم من شدة السمن فقال :
له شربتان بالنهار و أربع *** من الليل حتى آض سخدا مورما
و يشرب حتى يغمر المحض قبله … الخ .
و لما أكل أمية بن أبي الصلت على مائدة سيف بن ذي يزن الطيبات من الرزق قال من قطعة مشهورة يمدحه فيها :
تلك المكارم لا قعبان من لبن *** شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
و قد كلف هذا البيت عبد الله بن جدعان القرشي مصاريف باهظة تمثلت في توفير جفان البر الملبوك بالشهد لأهل مكة يوميا يدعا إليها الوارد و الصادر بدل اللبن الذي كان يسقيه للناس يرفع به عنها عار هذا التعريض لأنه كان يسقي أهل مكة لبن الإبل في الجفان .
و على هذه القاعدة جرى سنن الناس في هذه البلاد حيث حظروا على الرجال شرب اللبن الحليب و سجل ذلك الفكاهي الشهير ابن آبود في نظم له معروف حيث يقول :
اللبن الحليب لا يستعمل *** و شربه ليس عليه العمل
و يستثنى من ذلك الصبيان *** و الشيوخ و أهل العزبان
و اللبن في بلادنا هذه مادة مباركة لا تعرض على أحد فيرفضها إلا حكم بنحسه و سوء بخته ولهم على ذلك شواهد لا تقف تحت حصر و يستدلون على سعادة الرجل و المرأة و الجمل و السيارة و الطائرة بما إذا أصابها رذاذ من اللبن من غير قصد و قد يتعمدون ذلك ابتغاء تلك البركة و بهذه المناسبة حكموا على اللون الأبيض كله بأنه لون مبارك لأنه هو لون اللبن و اعتمده لذلك أرباب الحملات الانتخابية .
بقي أن نشير إلى أن اللبن في زمن القديم كان يقابل بالماء و يقابله أهل المجون بالنبيذ و الخمر و لما جاء الجفاف و الإسعاف صار يقابل بالقمح و يقال : أعطاه الحاكم طنا من القمح و زكيبة من اللبن .
و بقي كذلك أن نشير إلى أن اللبن إذا أطلق في هذه البلاد فالمراد به لبن الأنعام سواء كان حليبا أو حازرا أو رائبا أو حامضا أو حقينا عكس ما عليه الأمر في البلاد المشرقية فان مفهوم اللبن عندهم لا يشمل اللبن الحليب .
أما لبن غير الأنعام كلبن الآدمي و لبن محرم الأكل و مكروهه فلا تدخل في نطاق هذه الخواطر .
الأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف