تأخر تأبيني لخلي وصديقي، ولاغرابة أن يكون تدفق العبارات وئيداً إذا كان المؤبن من حجم فتى الفتيان إيدَ، .. لا أعرف من أين أبدأ فالفقيد كان حسنة من حسنات الدهر منَّ علينا بها الله واسترجعها لحكمة يعلمها فما لنا إلا الرضى بالقضاء ونسأله تعالى أن يرزقنا الصبر وحلاوة التسليم فهو وحده القادر على ذلك.
ولكنما هذي عجالة راكب *** أقدمها جهد المقل المساهم
ولد سيد محمد الملقب “إِيدَ” سنة 1972م وشبَّ وترعرع في ربوع انيفرار، واعتنى والده الشيخ بدَّ بن ححَّامْ بتربيته قبل أن تختطفه المنون والصبي لم يتجاوز عشراً من سنيه، فنشأ بين أخواله ينهل من معين علم أهل لفظل بن زياد، ومن صلاح وسؤدد أهل عبد اللطيف بن الشيخ أحمد الفاضل، فدرس المتون الفقهية والنحوية المعهودة، كما حفظ العديد من قصائد الشعراء الستة وقطعا مختارة من حماسة أبي تمام ومفضليات الضبي وشعر غيلان، وغزليات ابن أبي ربيعة وكافوريات المتنبي، بالإضافة إلى اطلاعه على قسط وافر من أدب الزمان وجد وهزل بني ديمان.
بد الهمام العالم العلامة النـــحرير والندب التقي الألمعي
الزاهد الورع الكريم الفاضل الــــــمتواضع المهدي إمام الخشع
موازاة مع التعليم المحظري، اهتم إيد بالتعليم النظامي، فحصل على شهادة ختم الدروس الابتدائية من مدرسة انيفرار، كما ختم الدروس الإعدادية في المذرذرة، وقد تعرفت عليه في تلك الفترة، حيث لفت انتباهي ذلك الشاب المتميز الذي يتحلق حوله أصحابه فيروي لهم من حفظه القصص التراثية النادرة، والأشعار الجميلة، ورغم أنه يكبرني بعدة سنوات، إلا أنه كان يحرص على أن أبقى بقربه، فحفظت عنه أبياتا من نظمه للفرق الرياضية التي شاركت في مونديال المكسيك 1986، ولازلت أتذكر قوله يعني فريق المغرب:
وهزموا ضحى فريق البرتغال *** هزيمة تقلقلت لها الجبال
ولو تغلبوا على الألمان *** لدام نصرهم مدى الزمان
وقوله في فريق الأرجنتين الذي فاز بكأس العالم خلال تلك البطولة:
مَرَدُنَا العَالِمُ حَقاً دُونَ مَيْنْ *** وَبُورُ شَاكَ ثُمَّ بَعْدَهُ اكْلُزَيْنْ
وقوله في نظمه الطريف الذي حدد فيه شروط عضوية البيت الذي يسكنه مع أترابه:
وأن يكون زاحم “ابن امين” **** مجادلاً ل “اكنين” مرتين
وأن يكون للأطاجين حضر *** ثلاث مرات مع الندب “الخضر”
وما زلت أتذكر إلقاءه الجميل لقصيدته العصماء بعنوان “إبريل” التي تناول فيها الأزمة التي حدثت بين بلدنا والسنغال سنة 1989م.
تفتقت قريحة العبقري إيد عن شعر جزل جميل، صاحبه مقبول ومنصور، فشاع إيد وذاع أصبح فتى المدينة المدلل، وشاعرها المبجل، وكما كان ينظم الشعر الفصيح كان أيضا بارعا في شعر الحسانية، وله كفان واطلع من السهل الممتنع الذي يحمل بصمة إيد الخاصة، وللعلم فشعر إيد ماركة مسجلة “مَا يُوغِدْ افْلِخْلاَطْ”، وإلقاؤه الجميل يزيده رونقاً وجمالاً، ولا شك أن إيد قد أثر فينا في تلك المرحلة وجعلنا نهتم بحفظ الشعر، وندرك أهمية تحصيل مقومات الفتوة، لإن إيد ببساطة كان “وُلْ ازْوَايَ يَعْرَفْ لُوحُ”.
فلهفي على بدر التمام الذي حوى *** سناه تماماً قبل عقد التمائم
تابع إيد دراسته الثانوية في نواكشوط، كان قليل الحضور للدروس ومع ذلك يحصد أعلى النتائج، كان التلاميذ يتحلقون حوله زرافات ووحدانا فيحاضر لهم في كل الفنون، كان إلقاؤه ساحراً وتنظيره مقنعاً وطرحه منطقياً، يبدأ لك بالمقدمات حتى إذا ما اتفقت معه حولها يفرضك على تقبل النتائج، توسعت علاقاته في تلك الفترة وظهر نجمه كأحد الفتيان اللامعين، ثم تعرض لحادث سير أليم سنة 1993 كاد أن يودي بحياته، ولكنه صبر على الابتلاء، وحول المحنة إلى منحة. وقسم وقته بين دراسته الجامعية وعمله في شركة الاتصالات”موريتل” والمطالعة وصقل موهبته الشعرية، وتعزيز مهاراته العملية، كما حافظ على علاقاته الواسعة مع مختلف أطياف المجتمع.
كان صديقي إيد مبتعداً عن الأضواء، لا يحب الظهور وقد أجرى مقابلة يتيمة مع التلفزيون الموريتاني سنة 2000، وأتذكر أني تابعتها مباشرة وأنا في مدينة ازويرات، ومن طرافة ومُفششات إيد جوابه للصحفي عندما سأله قائلاً: هل تناولتم غرض البكاء على الأطلال؟، فأجابه إيد بالتأكيد، وروى له قطعته الشهيرة التي مطلعها:
طول يومي فتشت في ربع ليسا *** عن أنيس فما وجدت أنيسا
زادت روابط الصداقة بيننا بعد تخرجنا من الجامعة، كنا نتواصل عبر الهاتف لأني مقيم في الولايات الداخلية، كان دائما يطلعني على جديده الشعري، ولا شك أن القضية الفلسطينية حاضرة في وجدانه، حيث رثى محمد الدرة، وتضامن مع سكان غزة بعد العدوان، كما تنوعت الأغراض الشعرية التي يتناولها، حيث أطلعني على نماذج من لون شعري لديه سماه “تقصيد الشعر” وظف فيه إيد خلفيته الاقتصادية فتحدث عن مفهوم توازن العرض والطلب والتضخم والبطالة في أجود غزلياته.
أما إبداع إيد الشعري فيتجلى في مراثيه الجميلة، الي أبن بها أعيان عشيره، كما رثى العديد من علماء وأعيان البلد، ودائماً تكون مرثية إيد ختاماً مسكاً للمراثي، تماماً مثل العداء الماهر الذي يتأخر عمداً عن المتنافسين حتى إذا اقتربت نهاية السباق زاد من سرعته فحاز قصب السبق، وفيما يلي أبيات من آخر قصيدة رثى بها إيد الشيخ محمدفال ببها بن اميي رحمه الله، حيث يقول:
جل خطب فيه يعز العزاء*** جل رزء ما مثله الأرزاء
ما بكاء الخنساء صخراً يؤسي *** أو يعزي ما تقرض الخنساء
ذاك رزء بير المساجد حقاً *** مع بير السبيل فيه سواء
و سواء فيه الوجود جميعاً *** فعظيم أن يرحل العظماء
و رحيل الأجسام ليس رحيلاً *** و بقاء المجد الأثيل بقاء
عرفت إيد خلوقاً بشوشاً مُحباً للمسلمين لا يسيء إلى جليسه، كريماً عطوفاً مؤثرًا لصدقة السر، كتوماً لعباداته وخلواته وأوراده وحجه، مجتهداً على الطهارة وله قصص طريفة في ذلك لا يتسع المقال لبسطها، عرفته راضياً بقضاء الله وقدره متصوفاً زاهداً في الدنيا وزخرفها، عرفته مستقيماً يقف عند حدود الله، عرفته حلو المفاكهة لا يتكلم عن الغائب بما يكره، ينعش المجلس بشعره وقصصه الطريفة الشيقة. كما عرفته عصامياً معتمداً على نفسه.
نفس عصام سودت عصاما *** وعلمته الكر والإقداما
وجعلته ملكا هماما
من ناحية أخرى، فالفقيد رغم شهرته الواسعة، كان زاهداً في الدنيا ولم يغتر بزرجونها، ولا أدل على ذلك من أنه لم يفتح حساباً على وسائل التواصل الاجتماعي، ودائماً يفسر لنا ذلك بأنه لا خبرة لديه البتة في استخدام التطبيقات البرمجية، حتى أنه لا يعرف كيف يرسل رسالة نصية، وما تلك إلا بعض الحجج التي يخفي فيها إيد زهده وكرهه للأضواء، وكأنه كان يعرف أنه راحل عن الدنيا ولا يريد أن يترك فيها دليلاً على مروره بها.
كان آخر اتصال بيني مع خليلي إيد ليلة الأحد الماضية، لم أكن على علم بالوعكة الصحية التي ألمت به، تحدثنا حول آخر المقالات التي نشرت عبر هذه الصفحة، كان دائما يحرص على قراءة ما أرسله له عبر تطبيق الواتساب ويعطيني تغذية راجعة ويثني على المحتوى، طلبت منه أن يتحفني بقطعته الجميلة “طول يومي فتشت في ربع ليسا” فوعدني بذلك ولكن الموت اختطفه ساعات بعد ذلك اللقاء، حيث قرأت خبر نعيه عبر صفحات الفيسبوك، رحمه الله تعالى وجعل قبره روضة من رياض الجنة.
كأن المنايا بالأكابر أولعت **** فما برحت أخاذة للأكارم
أنتهز هذه السانحة لأقدم تعازي القلبية الصادقة إلى أسرتي أهل أحمد سالم بن بيباه، وأهل محمد محمود بن لفظل، كما أعزي أسرة أهل بدَّ بن ححام وأهنئ الوالدة سيلومه على تربيتها المتميزة – تبارك الله- فالمرء يلد عمله، وأسأل الله العلي القدير أن يربط على قلبها ويثيبها أجر الصبر وحلاوة التسليم، كما أتقدم بالتعزية إلى الأديب الأريب محمد فال بن محمد محمود وأخي العزيز أحمد سالم بن بد وأرجو من الله أن يطيل أعمارهما في أمن وعافية وفي بلوغ منى، وأطلب منهما من هذا المنبر أن يعتنوا بشعر إيد ويجمعوه من مظانه فلا نريد أن نفقد الديوان بعدما فقدنا الشاعر الفذ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.