الرئيسية / الاخبار / السيدة أم الخير بنت محمد عالي بن زياد في ذمة الله

السيدة أم الخير بنت محمد عالي بن زياد في ذمة الله

تناقل نعاة وسائل التواصل الاجتماعي خبر صعود روح السيدة أم الخير بنت محمد عالي بن زياد إلى بارئها، وذلك بعد مرور يوم واحد على فقد السيدة خدي بنت الداهي، فلبست قرية “انيفرار” ثوب الحداد، ونكست الأعلام وذرفت العيون، ولهجت الألسن بمحاسن السيدتين الفاضلتين حلت بقبريهما شآبيب الرحمة والمغفرة، فإن لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله اعل اتفاويت.

ولو أن النساء كمن عرفنا * لفضلت النساء على الرجال

يعتبر عصر “أولاد جرَّار” أحد أعصار أهل انيفرار المتميزين، فقد ضم العلماء والأدباء والمؤلفين ومن أشهر أعضائه الشيخ العالم أحمدُّ السّالم بن عمِّ، و العلامة المختار الملقب التاه بن ابَّبَابَ، والشيخ النسابة السيري محمد عالي بن زياد، وقد أنعم الله على هؤلاء النفر بالعلم المرفود المقرون بالعمل، والمهارة في كتاب الله، وجودة الشعر، والكرم وحسن الخط وعلو المكانة في القبيلة، والغريب أن كل واحد منهم كان مئناثاً، ولكن البركة حلت في بناتهم، فقد تميزن في الحي، وصرن مضرب المثل في العلم والصلاح والعبادة وحسن الأخلاق، وزاحمن الرجال في التدريس والفتوة والعقل وقوة الشخصية.

وفي هذا السياق، فقد تميزت بنات التاه بن ابَّبَاب خديجة وبنت وهب وعيشة بحفظ القرآن وفهم المنطق والبيان، والمهارة في الطب التقليدي، إضافة إلى اتصافهن برجاحة العقل وحسن الخلق والعبادة والاستقامة والصلاح، كما مثلت بنات محمد عالي بن زياد ثلاثية من الثلاثيات النادرة (تِنْدَوْكَرَظْ)، فكانت الشيخة حبيبَ رئيسة كريمة من اللائي يعاش في أكنافهن، تسعى في أمور الناس وتقدم لهم النصح والتوجيه والإرشاد، كما كانت على دراية واسعة بعلوم السيرة وأنساب العرب، إضافة إلى تخصصها في الطب التقليدي؛ فكانت يدها شافية، فاهمة للعلة، قادرة على تشخيص الداء موفقة في وصف الدواء، أما شقيقتها الشيخة امبيريك الملقبة “بيكَ” فكانت أم السادة الأولياء الأتقياء وقعيدة بيت شيخنا احمادَ بن ابَّا، وعرفت بالسيادة وحسن الخلق وسعة الاطلاع والذكاء الحاد، بله الصلاح والولاية والتقى والعبادة الدائمة التي أريد بها وجه الله،إضافة إلى علو القدم في معرفة الله تعالى والصبر عند الشدائد، أما شقيقتهن أم الخير فسيحاول هذا التأبين استعراض الخطوط العريضة لسيرتها الذاتية.

من ناحية أخرى، فقد اشتهرت الشيخة العالمة الحافظة أيَّم بنت أحمدُّ السالم بن عمِّ بالعبادة والاستقامة والصلابة في الحق وقوة الشخصية، كما كانت ماهرة في كتاب الله متقنة لتجويده ورسمه، إضافة إلى إتقانها لأنساب قحطان وعدنان وبني ديمان، وكان بيتها جامعة يدرس فيها الطلبة المتون المحظرية المعروفة كأنظام الشيخ البدوي المجلسي في المغازي وأنساب العرب وقرة الأبصار للمطي، وإضاءة الدجنة للمقّري ونظم ابن عاشر والأخضري، إضافة إلى دواوين الهذليين والمراقسة وشعر الشعراء الستة …

في معهد ذم له الجامع الْــ ـأزهر لا عطلت يامعهد

ترعرعت الشيخة أم الخير بنت آلاَّ في عز دولة أهل زياد، فوالدها الشيخ محمد عالي (المتوفى 1359) كان عالماً بالمنقول والمعقول ومؤلفاً متخصصا في السيرة النبوية الشريفة وأنساب عدنان وقحطان وبني ديمان، وقد ترك عدة مؤلفات في أنساب بني مهنض أمغر أهمها: تأليف في أنساب أهل أعمر الصغير اليزيكذي، وهو الذي اعتمد عليه القاضي أحمد سالم بن سيد محمد في نظمه لأنساب أهل انيفرار، كما ترك كتاباً حافلاً في أنساب أهل المختار أكد عثمان وأهل محنض وعبدالله ابني اعديج، إضافة إلى تكنيش في أنساب أهل أحمد جب، أما جدها من الأب فهو العلامة النوازلي أحمذُ بن زياد (المتوفى 1322)، الذي لم يشغله التدريس والقيام بخطة الفتوى والقضاء، واستقبال الضيوف، عن التأليف حيث أثرى المكتبة الشنقيطية بكتب قيمة من أشهرها تفسيره الموسوم بذي الفاتحتين الذي أبرز من خلاله جودة فهمه وخبرته في مجال التدقيق والتحرير إضافة إلى إتقانه لعلوم البلاغة والبيان، كما ألف الشيخ أحمذُ أيضا كتابا حافلا في القراءات السبع، وعمل على اختصار كتاب الشعراني المعروف بالعهود المحمدية، وله تعليق نفيس على ما اختصره ابن أبي جمرة من صحيح البخاري، إضافة إلى مصنف حول آبار المدينة وشواهدها من الحديث الشريف، فضلا عن الكثير من الأنقال والتقييدات والأنظام، أما والدتها فهي الشيخة العابدة الصالحة آمنة بنت الشيخ المربي محمدن بن الشيخ أحمد الفاضل وتلك أمها السيدة مريم بنت الداهي الملقبة النية.

مجد قديم من آباء وأجداد * أضحى تليداً لأحمذ بن زياد
سهل الخليقة والندى سجيته * نحو المكارم والعلياء منقاد
نال الحقيقة بعد الشريعة لمــ ـما يعد عشرين عاماً بعد ميلاد

تمثلت أم الخير شيم الزوايا، واللؤلؤ والمرجان في مناقب بني ديمان، وذات ألواح ودسر، وعضت بالنواجذ على بنود الحلف الشمشوي وطباع بني ديمان، فكانت مضرب المثل في الظرافة والكياسة والهدوء والصبر وزين اطبيعة وتلباك لمور، كما كانت كريمة خلقوة بشوشة متواضعة، وقد أشار إلى ذلك الدكتور محمد المختار بن اباه رحمه الله، بين ثنايا مذكراته، فقد تعرف عليها في مدينة لعيون أثناء فترة إقامته بها، حيث أكرم زوجها الإداري الشيخ سيد محمد بن عبدالرحيم وفادته – رغم حساسية الموقف آنذاك- كما استقبلوا في بيتهم حرمه المصون رحمة الله عليها فكان ما كان مما لست أذكره …

يبدأ البرنامج اليومي لأم الخير بأداء وردها من القرآن الكريم، والذكر والصلاة على الحبيب صلى الله عليه وسلم، وبعد قيامها بشؤون البيت، تستقبل القبلة وهي تطالع “مجمعها” ممسكة سبحتها بيمينها، وعادة تقوم في المساء بصلة رحم أو عيادة مريض أو التطوع بعمل ينفع الناس ويمكث في الأرض، ويختتم البرنامج اليومي بالإكثار من الصلاة في جوف الليل والاستغفار في الأسحار.

كانت أم الخير موسوعة متنقلة، زرتها منذ سنتين في بيت أهل محمد بن امُّو العامر بانيفرار، فوجدتها تطالع كتابها، فانتهزت الفرصة وطرحت عليها بعض الأسئلة البحثية التي استوقفتني، كانت أجوبتها دقيقة وغنية رغم أنها حاولت في البداية الإعراض عن الإجابة، إلا أنني كنت أرجع إلى الموضوع كلما حاولت تغييره حتى ظفرت منها بمادة هامة ومعلومات ثرة، ولا شك أن وفاتها تعني احتراق مكتبة، فقد كانت على دراية تامة بالتاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي لأهل اكيد عموما وأهل انيفرار على وجه الخصوص، ومحيطة بالسياقات المتعلقة بالأحداث والأشعار، كما كانت تروي عن الثقات بسند متصل فقد أدركت شخصيات مرجعية، وقد استفدت من إتقانها لكلام ازناك في تفسير العديد من العبارات التي وردت في الأشعار إضافة إلى تعريب العديد من الأماكن المعروفة.

ما حق للعين البكاء على فتى * ما حق يوم مضى محمد عال
الفاضل النبه النبيه المرتضى * العالم العلامة المفضال
الفائق النظراء في الآداب والــــــ أخلاق والأقوال والأفعال

كانت أم الخير أما مثالية ومدرسة أخلاق متميزة تخرج منها فتيان مثقفون وسيدات فاضلات رحم الله من قضى نحبه منهم وأطال أعمار الأحياء وحقق مرادهم، فقد عرف بيت آل محمد محمود بن زياد بالفتوة والقبول والذكاء والعلم والسخاء، فجدهم محمد محمود كان أعز فتى في قومه، ووالدهم الفتى محمد بن امو هو الذي يصفه الشاعر الأديب أحمدُّ ول الولاية برائعته المطربة

امش مودع للصمد * محمد وأخلعن بعد
مصيب فامة محمد * غير الله اتبرد سمُّ
محمد مثل مال لعد * مكط افعل فعل إذمُّ
ولا كط املِّ سمع حد * سادر ش خاسر من فم
حافظ سراتو معلومين * والموزون امنين اهمُّ
والله ينواع لثنين * ما فيهم ش كاع إخمُّ

يعجز ذهن شارد، ونثر بارد، عن وصف سيدة استثنائية، ضن الزمان بمثلها ديناً ومروءة وأخلاقاً وكرماً وتواضعاً، سيدة آثرت الخمول والزهد على الظهور، فكانت تغض البصر والصوت، ولا تبرح منزلها، وتجلس إذا مر حولها الأجانب، سيدة مقبلة على شأنها، صابرة للامتحانات ساكنة تحت المقادير تنظر، وبمفقدها يفقد الحي رمزاً من رموز كيانه، ومرجعا لأخلاق وأنساق أهل إكيد، وقعيدة لبيت يألفه بنو غبراء وكعبة للمعتر والمعتفي وعابر السبيل.

أصيبت الفقيدة بوعكة صحية، وأسلمت الروح إلى بارئها يوم الأحد الماضي، وأمَّ المصلين على الجنازة العالم الورع النوازلي شيخنا سيد محمد بن عبد الرزاق أطال الله عمره ومتعنا به، وووري جثمانها الثرى مع شقيقاتها في مقبرة أغودس، حلت بأضرحتهنَّ غوادي الرحمة وسواري المغفرة.

أنتهز هذه السانحة لأقدم تعازي القلبية الصادقة إلى عموم أهل انيفرار، وأخص بالتعزية أسر أهل محمد بن امُّو ، وأهل أحمد سالم بن ابّا، وأهل احمادّ بن اباَّ، وأهل الشَّاه بن محمد سيديا بن الشيخ أحمد الفالِّ، كما أخص بالتعزية مدير المعلوماتية بجامعة نواكشوط الدكتور محمد فال بن محمد، ووالدتي توت بنت امُّو، سائلا المولى عز وجل أن يرزقهم أجر الصبر وحلاوة التسليم وإنا لله وإنا إليه راجعون.

يعقوب بن اليدالي

اترك رد