أطلق العرب اسم شَعُوب على الموت، وهو مشتق من التشعب، لأنه يفرق المرء عمَّن حوله، وقد غدرتني شعوب بالأمس وفرقت بيني مع شيخي ومرشدي وسندي، فأضيف الأحد الأوحد الموافق 21 مارس 2021، لسلسلة تواريخ الحزن المحفورة في ذاكرتي. وقد رضيت بقضاء الله تعالى وسكنت تحت المقادير أنظر.
ألا نزلت بالخمس كبرى الدواهــــــــــم *** فصبرا جموع الخمس صبر الأكارم
كأن المـــنايا بالأكــــابــــــــــر أولـــــعت *** فـــــما بــــــــرحت أخاذة للأكارم
فكرت كثيراً كيف استطاع الأهلون دفن جبل من البركة والمروءة والسؤدد في بضعة أمتار، لقد شكك أهل انيفرار في صحة المسلمة المنطقية القائلة بأن تداخل الأجرام المتكاثفة واجتماعها في حيز واحد مستحيل. وأكدوا أن ذلك الحكم ليس على إطلاقه، بعدما بات الشيخ ليلته الأولى في حضن والدته أمبيريك بنت محمد عالي بن زياد، بين ظهراني شيخ كمل وسروات وبهاليل بمقبرة العود ، وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى مضيفاً إليها أحرف النداء أن يلقيه نضرة وسرورا ويجعل ضريحه الطاهر روضة من رياض الجنة.
رحمة الله حيثما أمَّ أمِّــــي***حامل الكَلِّ ذَا النَّدَى نَجْلَ عَمِّ
وأَلِمِّي بقَــــبْره وبِــــــــقَبْــرٍ***بــــــــــــــــإزا قبره للأم ألمِّي
ازدادت أسرة الشيخ المربي احمادَ (ت 1990) بن سيد القوم محمدُّ (ت 1352 هـ) سنة 1953، بمولود مبارك، أطلق عليه الوالد اسم الشيخ تيمناً بالشيخ البركة مُحمَّدُّ بن حبيب الرحمن، من جهة، ووفاءً للعلاقة الروحية التي ربطت آباءه بالدوحة المتالية من جهة أخرى. شبّ الشيخ وترعرع بين انيفرار ولَعْبُونَ التي حرص على ظهور ها في وثائقه الرسمية، ولا يخفى ما في ذلك من الوفاء لمنطقة شهدت أوج الإزدهار العلمي والاقتصادي لحي أهل أعمر إديقب.
خَوٍّلْ بِلَعْبُونَ أَهْلِي أَهْلَ لَعْبُونَا*** مَا خَوَّلَتْ حَلَبٌ أَبْنَاءَ حَمْدُونَا
لا حظ الشيخ احمادَ أن الشاب اللعبوني محبوبٌ، وقد تجلى ذلك من خلال حرقه للمراحل التي يتطلبها عادة، الانتقال من التخلي فالتحلي وصولا للتجلي، فكلأه برعايته، وسرت إليه أسراره وأنواره وفيوضاته، فترقى من الجمال إلى الجلال وصولا للكمال، فأصبح شيخاً وشرنيخاً يهدي العباد ويعمر البلاد، وولياً صالحاً تنفعل الأشياء بهمته.
ما زال يرقى من لدن عقد الإزا ***ر مراتب الأبــــدال والأقــــطاب
فانسب له المحمود واسلب ضده*** وافعل كذا في السلب والإيجاب
حرصت بنات محمد عالي بن زياد على تربية الشيخ وتأهيله للقيام بالدور الذي يتطلبه مركزه الاجتماعي، فحفظ القرآن يافعا، ودرس المتون المعهودة على جل من أدركهم من علماء الحي، وأخذ من كل فن بطرف، كما ساعدته الثقافة الموسوعية لأمه وخالتيه على الإحاطة بأنساب وأحساب وأخبار بني ديمان ودامان وسواهما من المجموعات الشمشوية. فتصدر قائمة فتيان إكيد البارزين المُبرَّزين.
قل ما تشا واستقص في وصفه***من أفعل التفضيل أوزانها
فذا الذي في قطرنا لا تــــــــرى***مــــــحمدة إلا وقد كانها
مع مرور الوقت، أصبح الشيخ شخصية عامة، وشاع صيته في الأنداء وذاع وتوسعت خريطة مريديه وأصدقائه لتشمل العاصمة ومناطق الضفة، وأضحى الخواص والعوام يحرصون على التماس دعائه، ورواية كراماته الخارقة للعادة، خصوصا بعدما حدثَّهم الثقات عن كرامات “سَكَارِيتْ مَكَارِيتْ”، ونقل المحافظ، وإيجاد ضالة منى… ومن الغريب أنه أخبرنا بعد نجاح السناتير محمد سالم بن محمد سيديا في انتخابات مجلس الشيوخ سنة 2007، أن ميماه سيظل شيخا للمذرذرة و أن”حَمْلَةُ لنْتخَابِيَ وَحْدَ”، ولم أفهم تلك الإشارة إلا بعد أن جرفت بناية مجلس الشيوخ.
وهمة قطب سره متصرف *** في الأكوان يجري أمره بالخوارق
من ناحية أخرى، فقد اختار الشيخ الإقامة في العاصمة، وحرص على الابتعاد عن الأضواء والشهرة، وتمكن من إخفاء مقاماته وكتم أحواله حتى عن أقرب الناس إليه، كما كان يحرص على أن تكون نوافله وعباداته مخفية، فغياب الرياء يثقل العمل في ميزان الحسنات، وقد لاحظت أنه أثناء المجلس يكون في ظاهره منصت لحديث جلسائه، بينما يتدبر في باطنه ملكوت الله، أو يدير سبحته من تحت ثوبه. وقد يسر الله له حج بيته الحرام، وظل حريصاً على حضور عُمَرِ رمضان وزيارة الحرم النبوي الشريف حتى أقعده المرض.
كم ركعة بات طول الليل راكعها ***به وكم سجدة قد بات ساجدها
اشتهر الشيخ اللعبوني، بالجود والسخاء واستقبال الضيوف والزوار، فقد كان كعبة يقصدها القانع والمعتر والضيف والضيفن، فيعطي عطاء من لا يخاف الفقر، ويطعم إطعام من لا يخشى نوائب الدهر ، كما كان هجيراه توقير الكبير، و رحمة الصغير، واللطف بالمريض، ومسح رأس اليتيم، ويؤثر الطبقات الهشة ببره وعطفه وتوكيده وبدله، فكأن القاضي أحمد سالم بن سيد محمد يعنيه بقوله:
مأوى الضعاف ومأوى كل مبتذل*** ضل بن ضل وهيان بن بيانا
ويكرم الضيف إكراما ويرجعهم *** عنه بليلة أضياف ابن مَحكانا
وفي ذات السياق، فقد جمع الله في الشيخ مصفوفة مكارم الأخلاق، فضم حسن الخلق إلى التواضع الجم، والحلم والأناة إلى البشاشة ولين العريكة، والزهد والخمول إلى اللباقة وطلاوة الحديث، فبات الزائر يعتقد أنه هو المزُور، والمريد يحسب أنه الشيخ، ولا تراه الدهر متميزاً بهيدورة ولا عمامة ولا مراسيم، بل يقعد حيث انتهى به المجلس ويصلي مأموماً، ويقود سيارته بنفسه، ويوصل من يلقاه في طريقه إلى جهته، أتذكر أنني كنت واقفا إلى جانب سيارته فأتته ثلاث نسوة من الحي وسلمن عليه، فعرض عليهن أن يوصلهن إلى منازلهن المتباعدة، فقبلن على الفور، فحدثت نفسي إن في “التاكسي” مندوحة لهن عن إرهاق الشيخ بهذه الرحلة الطويلة، فكأنما كوشف له عما أجمجم في صدري، وطلب مني الركوب إلى جانبه، وقمنا بجولة أخذتنا إلى عرفات و توجنين ودار النعيم، ثم التفت إلي وقال: ” هَذَا لاَ بُدَّ مِنُّو، وَبَأهْلُو يَاللَّ اتْعَدْلُو وِانْتَ مِنْهُمْ أُتَمْ عَدْلُ”
عن كل وصف ليس يحمد خال *** وبكل وصف كان يحمد حال
ولئن مضيت فقد بنيت مكارما *** يبقيك ذكر جميلها ومعالي
عيَّن كبراء أهل انيفرار الشيخ سفيراً فوق العادة وكامل السلطة، فكان هو المنسق للوفود التي تذهب للتهنئة والتعزية والتمثيل الدبلوماسي، كما كان الفتى المجلي في الدست الأعمري، والمرشح لاستقبال ومجالسة كبار الزوار والشخصيات المرموقة التي تزور انيفرار، وقد ساعدته الثقافة العالمة التي نشأ فيها، وعلاقاته الواسعة، واحتكاكه بمختلف الثقافات، في الحصول على رصيد كبير من أدب الزمان، وفن محاورة الأعيان، حسب أعراف بني ديمان وعادات بني أحمد من دامان، وقد صحبته مرة في إطار حضور وليمة دعتنا إليها مجموعة إيكيدية فاضلة، فلما وصلنا إلى مكان الدعوة قال لي اخلع نعليك واتركهما في السيارة، لكي لا تحتاج إلى البحث عنهما أثناء خروجك، فأهل إكيد يستهجنون بحث الرجل عن نعليه ولو بعينيه، فتذكرت قصة التي شوت لضيفها نعليه.
لئن أقفر الدَّسْتُ الذِي كَانَ عامرًا ***فقد عمرت منه طروس المكارم
لا شك أن غياب الشيخ، سيترك فراغاً كبيراً في الكثير من محددات ومرتكزات السياسة الخارجية والداخلية للحيِّ، فعلى المستوى الخارجي كان ذكر عبارة “الشيخ ول احماد” يحيل المتلقي إلى العديد من الدلالات المتميزة كالولاية والصلاح والقبول والسخاء والعفاف ومعرفة أيام العرب وشيم الزوايا و تقدير الناس وإنزالهم منازلهم، كما يعتبر الشيخ شخصية إيكيدية وازنة، يتفق عليها الجميع ويقدرونها حق قدرها، من ناحية أخرى فسيترك رحيل الشيخ فراغا روحياً، لدى مريديه ومقربيه فقد كان السند المنيع والحصن الحصين الذي يلجؤون إليه في الخطوب والدواهي وما جائحة كورونا منا ببعيد.
كان قد ساد مثل ما كان جد*** وأبٌ أنجباه قادا وسادا
أنتهز هذه السانحة لأعبر عن شكري لكل السادة والأصدقاء الذين اتصلوا بي وقدموا لي التعزية في شيخي ووالدي ومرشدي وصديقي، وأسأل الله العلي القدير أن يتقبل منهم تلك المواساة، ومن الطريف أنني تباطأت في التواصل مع الأهل ظنا مني أنني الأولى بالتعزية دون غيري، ولكني اكتشفت بعد المحادثات التي قمت بها في اليومين الماضين أن كل من عرف الشيخ عن قرب لديه نفس الإحساس، فالشيخ خير ونفع مشاع، وتلك لعمري صفة الولي المربي كما جاء في كتب القوم. وفي ذات السياق أرجو من الأهل الاحتفاظ بالصوتيات والمحادثات الهاتفية، التي كان يجريها معهم، حتى نتمكن من جمعها وتفريغها ورقنها في كتاب، فمن حق الأجيال القادمة الاستفادة من علمه وتوجيهه ونصحه.
لهفي على فقد فتى لم تنم*** عين تمام العقل من بعده
لهفي وما لهفي ترد الذي*** قـــــــــدره الله على فقده
أقدم تعازي القلبية الخالصة لشيخي عبد الله بن احمادَ وخليلي محمدفال ووالدتي اوَّا، سائلا المولى عز وجل أن يطيل أعمارهم ويبقيهم لنا ذخراً وفخراً، كما أقدم تعازي أيضا إلى مريدات الشيخ الفاضلات: امَّ بنت بيبَّاه، وصل بنت الشاه، وتوتو ويمِّ بنات محمد بن امو، وأمَّات بنت اسنيد، وعيش هاذِ، دون أن أنسى أسر أهل الميداح، كما أقدم تعزيتي الخالصة لجميع أقارب الشيخ ومريديه ومحبيه في انيفرار وابير التورس والمذرذرة وروصو والعاصمة نواكشوط، ولن أختم هذه الكلمة دون تقديم تحية خاصة لصاحب السواد الشاب الموفق حامد بن امين حفظه الله ورعاه.
ولكنما هذي عجالة راكب أقدمها جهد المقل المساهم