فكرت وأنا أطالع نعي طيبة الذكر دَيْدَّ، في الحاجة الماسة إلى نحت أوصاف تناسب عصر التدوين الرقمي، يقابل بها المتصفحون النعاة “لِمْهَوْلِينْ”، فلم يرقب صديق افتراضي في صاحبكم إلا ولا ذمة، ولم يفكر في حجم الحزن والأسى الذي سببته لي عباراته القليلة المتناثرة، فرضى بقضاء الله والصبر أجمل، وأسأله أن يقسم لي من اليقين ما يهون به عليَّ مصائب الدنيا.
إن الرزايا قد تكون صغيرة *** وكبيرة واليوم أعظمها ته
قرر الشيخ محمدفال (بَبَّهَا) بن السيد المختار(وَتَّاهْ) بن الفتى محمد بن الجواد محمذن (ابَّا) بن العلامة سيد الأمين (عَمِّ) بن الفقيه الرئيس حبيب الله (سكم)، أن يمنح اسم والدته فاطيما بنت أشفغ عبد الله ، للجارية التي رزقت بها زوجه الحصان الرزان طفيله بنت الشيخ أحمدُّ زيد مطلع سبعينيات القرن المنصرم.
قد كان فينا ببها متفردا *** في ذلك الميدان دون مدان
متمثل متجنب في سعيه *** لأوامر وزواجر الديان
رضعت فاطيما طيلة حولين كاملين مكارم الأخلاق وطباع مُضَّغِ القَتاد ، ثم كلأتها جدتها أم الفضل بنت أدِّ برعايتها، فسلكت بها لاحب الصراط الديماني المستقيم، وحذرتها من بُنيات الطريق التي تُزري بالفتاة شرعاً وعادةً، وحدثتها عن وصايا والدتها مريم بنت عبد الله نلماح فأوعتها دَيْدَّ أذنا صاغية، فتناهت إليها أخلاق طفيلة وسمتها، وعبادة هَكِّ وصلاحها، وعقل النيَّ وجلدها، كما نالها حظ من اسم جدتها فاطيما، فلا تراها ساعية إلا لكسب درهم معاش أو حسنة معاد، فقد قسمت برنامجها اليومي بين عباداتها، وبر والدتها وتدبير شؤون بيتها، وصلة أرحامها، كما نزعها عرق من جدودها، جعلها تسمو إلى الخيرات، وتسعى في سد الخلات، وشحن ميزان الحسنات.
وتلك في سالف الأجداد شنشنة *** معروفة ثم من دهر الدهارير
جمعتني بالفقيدة – مطلع التسعينيات- دروس الجدة أمنمنين بنت محمذن انَا، – رحمات الله تترى على روحها- فكانت هي تدرس متن الغزوات للشيخ البدوي المجلسي، بينما كان لوحي يشتمل على بعض أشعار الفحول الستة، ثم قوت القرابات المتعددة، ودُور وسُوح “الزر الكبل” أواصر علاقتنا، ورغم غيابي المتكرر بسبب إكراهات الدراسة والعمل، إلا أن احترامي وتقديري لدَيْدَّ ظلَّ يتزايد باستمرار؛ واكْبِرْ وِتْفَاحِشْ وُورَ، حتى آخر لقاء جمع بيننا سنة 2019، في منزلها العامر بالعاصمة.
فقدان أم المعالي جل فقدانا *** يا عين سحًا وتهمامًا وتهتانًا
أشهد لدَيْدَّ بنت بَبَّهَا بالمسالمة، وسلامة الصدر، فقد كان قلبها أنقى من الرق، تحب المسلمين وتحسن الظن في عباد الله الصالحين، وتوقرهم وتحترمهم فكأن الشيخ المختار بن حامد يعنيها بقوله:
هذا إلى قلب سليم من قذى *** لا غلَّ فيه لأي ذي توحيد
أشهد لديد بنت بَبَها بالدوام على تلاوة كتاب الله، حيث يتجافى جنبها الذي أرهقه المرض عن مضجعها، فتستقبل القبلة وتفتح المصحف وتحيى جوف الليل بالذكر والترتيل والتدبر، وقد روى الشيخان من طريق أبي هريرة أن قرآن الفجر تشهد عليه ملائكة الليل والنهار.
أشهد لدَيْدَّ بنت ببها بالسخاء والإنفاق، فقد جعل الله فيها منافع للمسلمين، لا تستبقي شيئا للغد مهما كانت حاجتها إليه، والصدقة تطفئ غضب الله، وتقي من النار، وتبارك المال، وتدفع البلاء وتزيد في العمر، وقد جاء في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه “أن كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس”
أشهد لفاطيما بنت محمد فال بالصبر، والله يقول في محكم كتابه: (ِإنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، فقد أصيبت الفقيدة – وهي في زهرة شبابها- بداء عضال فصبرت ورضيت، وقديما قال القوم أن الرضاء بأقضية الله يورث حلاوة الإيمان التي تهوِّن من أثر الشوك تحت الأقدام. وقد روى الترمذي وابن ماجه في سننيهما ” أنَّ عِظم الجزاءِ من عِظمِ البلاء”؛ وما رأيت دَيْدَّ – طيلة تلك السنوات- شاكيةً ولا باكيةً بل راضية، صابرة على الابتلاءات المكفرة للذنوب، وغيرها يشاك الشوكة فينشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وقد روى البخاري ومسلم من طريق أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “مثلُ المؤمن كمثلِ الخامة من الزرعِ، من حيث أتَتْها الريح كَفَأَتْها، فإذا اعتدلَتْ تَكَفَّأُ بالبلاء، والفاجرُ كالأرزةِ، صمَّاء معتدلة، حتى يقصمَها الله إذا شاء”.
ولا شك أن المتتبع لبعض خصال الفقيدة يظن أنها المعنية بأبيات الشيخ عبد الرحيم بن أحمد سالم بن ديد الشهيرة :
وترتيل آي الذكر ترتيل عارف *** بآدابه والناس قد نوموا وهنا
وسوف على الإحسان تعطى الجزا غدا *** فإن الذين أحسنوا لهم الحسنى
وقد وعد الرحمان من كان صابرا *** وها نحن من جراء ذاك تصابرنا
أما الصلاح والدعاء المستجاب والكشف الصحيح والمرائي النيرة التي تكون كفلق الصبح، فهذا ما تكتمت عليه الصالحة ديدَّ، ولم تبح به إلا لبعض الخواص، ولا يستطيع تأبين وجيز أن يحصي جميع خصال فقيدة المعالي والمكارم، فكل ساعة من عمرها العريض عامرة بطاعة الله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والسعي في مصالح عباده، وهذا ما يدفعني إلى أن أستعير بيتا من إحدى مراثي عمها الحلاحل محمد سيديا بن المختار ابَّا وأورده مع تصحيف بسيط:
شهدت بما شاهدته من صفاتها*** ومالي غير الحق والناس تشهد
أنتهز هذه السانحة لأقدم تعازي القلبية للفتى النابه ديد وشقيقه سيدمحمد وأسأل الله العلي القدير أن يربط على قلبيهما ويرزقهما حلاوة التسليم، ويلطف بهما كما لطف بأبويهما من قبل وجدهما سيد محمد الستار ويهبهما من لدنه العلم والحفظ والعز والنصر والتعمير. كما أقدم أخلص المواساة لأسرة آل ببها بن وتاه والوالدة النيَّ بنت أحمدُّ زيد وأخص الأخوات المحترمات خدِّ وعيشة واكاك بالتعزية سائلا المولى عز وجل أن يلهمهن الصبر والسلوان، ويتغمد الفقيدة برحمته ويشملها بعفوه، ويجعل قبرها روضة من رياض الجنة، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
قول وجيز لفظه لكنه *** من مخلص لعشير ديد وديد
تأبين جمع فيه الفتى يعقوب فأوعى ..وقد لفت انتباهي أن أغلب الأشعار التي وردت في التأبين لشعراء من أهل انيفرار أو قيلت لهم، كما أن الشعراء ذوي صلة قريبة بالفقيدة وأبنائها فالبيت الأول على سبيل المثل من مرثية بباه ول اميه لعبدالمومن، والبيتين الموالين من مرثية الأديب محمدن ول سيدن لببها بن وتاه، أما الاستشهاد الثالث فهو من قصيدة يمدح بها أدي محمدُّ ول ابا، كما أن البيت الرابع هو مطلع مرثية ديدي لمحمد أيضا مع تحوير بسيط فقدان طود المعالي الخ…
ثم استشهد الكاتب ببيتين من مرثية المختار ول حامد لأحمد سالم ول ديد
كما اورد ابياتا من مرثية دحيم ليحظيه ول ابا ، ولم يفت علي إعراضه الطايب عن ذكر بل ول ديد عندما أورد بيتا من مرثيته ل اجه