رُزئنا في الجمعة الأخيرة من السنة المنصرمة، بآمنة الصلاح والوقار والورع، وها نحن نفقد في أولى جُمَعِ العام الجديد آمنة الأخلاق والسؤدد والزهد.. لقد غيب الموت ما بين الجمعة والجمعة سيدتين صالحتين قانتتين منفقتين اتفق الجميع على تحليهما بمكارم الأخلاق .. ورغم أن نكأ الجرح بالجرح مؤلم إلا أننا سنصبر صبرًا جميلاً، فما فعل الجليل هو الجميل.. والعظيم لا يعظم عليه، والعبد يجب أن يكون ساكنًا تحت المقادير ينظر، والحمد لله على “اتْفَاوِيتْ”.
حداد ما كسا الجو اسوداده *** أم الدخان أم عام الرماده
بلي فالــــــمجد أعلنه حدادًا *** ونكـس كل أعلام السياده
في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، رزقت أسرة فتى الفتيان محمد بن العالم محمد محمود (امُّو) بن العلامة أحمذُ (بَدِّ) بن الشيخ زيَّاد (ايَّا)، جارية أطلقت عليها والدتها أمُّ الخير بنت محمد عالي بن زياد، اسم آمنة تيمنًا باسم جدتها من الأم آمنة بنت الشيخ محمدن بن الشيخ أحمد الفاضل، وتبركا بجدتها من الأب آمنة بنت الشيخ أحمد الفالل، فكان لها حظ من اسمها، ووافق الاسم عين المسمى، فتقبلها ربها بقبول حسن، وأنبتها نباتا حسنا، فتشبعت بعصارة ما اتفق عليه الشيوخ الخمسة، وما توارثته عقائل بني ديمان من مكارم الأخلاق، والسكينة، والتقوى، والصبر وحسن المعاشرة، وكيف لا يكون من ربته بنات عالي مميزا، وهن معدودات ضمن أمثل الثلاثيات “تِنْدَوْكَرَظْ” في إيكيد. ثم شبت “امباها” وترعرعت في حي عرندس ذي طلال، يتنقل بين انيفرار ولعبونات وآشكركط وغيرها من الأمواه الأعمرية…
مجد قديم من آباء وأجداد *** أضحى تليدا لأحمذ بن زياد
سرى سرُّ الآباء العظام والأمهات المنجبات إلى “امباها”، فجدها الأكبر زياد كان حافر الآبار وحامي الذمار والمُجَلِّي في حلبة العلماء الأخيار، وقد ورثت منه الصبر على مكارم الأخلاق والسؤدد والهمة العالية، كما أكسبتها جينات جدها أحمذُ الصدق والعلم والعمل، فقد دارت عليه رحى الفتوى ردحًا طويلاً ولم يتعقب له حكم، وكان يلقب ب”كَلاَّع الشَّكْ”، ولم تتنح عن الفقيدة الصبغة الوراثية للوالد محمد محمود فقد كان عزيزا في قومه، محافظا على الطبع الإيكيدي، سخيا مبذالا، ومن شدة كرمه أنه كان يأتي إلى نجد البئر متلقيا للركبان والضيوف ويحرص على إكرامهم وسقي قطعانهم، وكأنما كانت طباعه مركوزة في حفيدته، فقد عاشت معززة مكرمة محببة في عشيرها، حريصة على استقبال ضيوف الحي، ومساعدة الفئات الهشة، ورغم أنها ثقة ضابطة إلا أنها تنسى سريعا ما يندى به بطن راحتها من الخير. كما نقلت إليها “لكروموزومات” جميع الصفات الحميدة لوالدها محمد لمُّ، ويمكن تتبع ذلك من خلال استعراض بعض مقاطع المرثية الجميلة التي خلده بها الأديب الراحل أحمدُّ بن الولاية، حيث تتماهى أوصاف الأب وابنته، فلولا تكرار اسم محمد والتذكير في الخطاب لظن القارئ أن ول الولاي اليوم جالس مع “مَامَّاه” ينشدها مرثيته في الفقيدة فيقول:
مُحَمَّدْ مِثْلُ مَالُ لَعْدْ *** مَا كَطْ افْعَلْ فِعْلْ إِذِمُّ
آلاَ كَطْ امّللِّ سَمْعُ حَدْ *** سَادِرْ شِ خَاسِرْ مِنْ فُمًّ
خِصَالُ مَا تِكْدِرْ تِنْعَدْ ***مُحَمَّدْ لُمُّ مُخْلُمُّ
أُمُخْلِمْ ذَيْلْ أَخِتْ مُحَمَّدْ *** أُمُخْلِمْ بُو مُحَمَّدْ لُمُّ
مُحَمَّدْ لَتَيْنَ نِرْثُوهْ *** نَجِبْرُ شِ فِيهْ انْكُولُوهْ
يَاسِرْ مَا كَدَّيْنَ نِحْصُوهْ ***مَخَللَّ مُحَمَّلْ لُمُّ
يَعْطِيهْ الرَّحْمَ وَارِثْ بُوهْ *** وَأخْوَالُ وَأعْمَامُ وُأمُّ
لَخْلاَقْ أُلُمْرُوَّ والدِّينْ ***وِالفُتُوَ وِالطَّبْعْ الزَّيْنْ
هَذُو عَنْدْ الكَيْمَ فِلْحِينْ*** حَصَّلْهُمْ مُحَمَّدْ لُمُّ
وَالاَّ تَمُّ عَنْدُ زَادْ إِلَيْن*** فِالضَّرِيحْ امْعَاهْ التَمُّ
وِلَجَاوْ البَرَّانِيِّينْ ***أُعَادُوا فِيهِمْ حَدْ ابْيَمُّ
يَسْوَ وَاعِرْ يَسْوَ هِيِّينْ ***ذَاكْ ابْلَدْ مُحَمَّدْ لُمُّ
وفي ذات السياق، فقد لفت انتباهي أن الفقيدة لم تنتقل إليها الطباع الحميدة لوالديها فحسب، بل ورثت منهم أيضا يمن الطالع وحسن الخاتمة حيث صعدت روحها الطاهرة إلى بارئها يوم الجمعة الموافق 17جمادى الأولى سنة 1442 هجرية، ومن المعروف أن جدها لأب محمد محمود توفي يوم الجمعة الأخيرة من صفر سنة 1345 هجرية، كما لقي جدها من الأم محمد عالي ربه يوم الجمعة سنة 1359 هجرية وإلى ذلك يشير القاضي أحمد سالم بن سيد محمد بقوله:
هذا وفي يوم العروبة منك قد *** وقع المسير لمكرم النزال
يمثل مفقد الرئيسة “امْبَاهَ” خسارة كبيرة لبلدة انيفرار، فقد كانت إحدى ركائز البيت الأعمري، كما أصبحت – منذ شدت الإزار منها يد- مضرب المثل في الأخلاق والإنفاق والوفاق، فقد قسمت برنامجها اليومي بين العبادة وإصلاح شؤون بيتها وبر والدتها وخالاتها، فضلا عن عيادة المريض وصلة الرحم، ما رفعت صوتا ولا آذت جارا، ولا غيرت خاطر مسلم، “ولاَ كَطْ انْكْصَرْ الْهَ شِ”، ويتفق السادة والسوقة أنها من أمثل نساء إكيد دينًا ومروءةً وأخلاقًا حتى أن أحدهم طلب مرة من ابنتها “فاطمة” أن تجلب إليها إحدى جوار الحي لكي تتفل في فيها رجاء أن ينالها نصيب من تلك البركة.
كانت “امباه” بمثابة تجسيد لطبع وأخلاق بني ديمان، فهي نموذج لـ “طفلة ازواي” التي ترسخت أوصافها في المخيال الشعبي، وبمفقدها تصاب الأخلاق الشمشوية في مقتل، فقد تنكر رسم شيم الزوايا، وعفت معالم طباع بني ديمان، وصُمَّ صَدَى السَّنَنِ القويم للأبهميات.
صغ ما تشاء من أفعل التفضيل في *** أوصافها الفضلى فلست مقيدا
وجه أغر إذا الـــسنون تتــــــابعت *** وأنامل صيغت على فيض الجدا
وفي الختام، لا يسعني إلا أن أستميح العذر من المتصفحين والمتابعين، فقد خذلتني اللغة، ولم تستطع الألفاظ أن تكون قوالب للمعاني، ولم أجد من الكلمات، والأوصاف، والتشبيهات، والشواهد، ما يساعد في وصف امرأة يابى تفردها لها التمثيلا، بَلْهَ المُعلقات والمُفضليات واتْهَيْدِينَاتْ الصَّوْلَ وتَفْرَغْ زَيْنَ واللَّحْنْ.
ذكر الأنام لنا فكان قصيدة*** كنت البديع الفرد من أبياتها
أنتهز هذه السانحة لأتقدم بأحر التعازي وأصدق المواساة لأسرة أهل أحمد سالم بن ابَا خاصة الدكتور امُّو والمهندس احمادَ، والسيدة المحترمة تَتَّ سائلا المولى عزَّ وجل أن يربط على قلوبهم ويرزقهم أجر الصبر، ويجعلهم خير خلف لخير سلف، كما أوجه تعازي القلبية الصادقة لأهل محمد بن امُّو، فقد منعني ضعف تغطية شبكة الهاتف من التواصل المباشر مع الدكتور محمد فال بن محمد والخالتين المحترمتين توتو ويمي.
أَرْحَمْ يَارَبِّ ذَ السَّلَفْ *** وَأعْطِيهْ النَّعِيمْ إعِمُّ
أبَارِكْ يَارَبِّ فِي الخَلَفْ *** لِمْخَلَّفْ مُحَمَّدْ لُمُّ
لا يمكن أن تكون التأبينات مناسبة للإشادة لأن المحل ليس محل “إعجاب”، ولأنها تحيل إلى الحزن أكثر مما تحيل إلى الابتهاج. غير أن بعض التأبينات تفرضك، بلغتها المنتقاة وبأسلوبها الرنان، على التفكير، ولو للحظات، في غير الموت والعويل وشق الجيوب. وهكذا، فإن “بكائيات” الأخ يعقوب ولد أبن، المتتالية خلال الأسابيع الأخيرة، كانت على رأس التأبينات التي تفرضك على تناسي المأتم والتركيز على ما تحمله الأحرف من جزالة لفظية وسمو بلاغي ومعلومات تاريخية وشعر وقصص وأحاديث وإشارات خاطفة تكفي لمنح الحزن “الأخروي” مسحة من الارتياح “الدنيوي”.
إنها تأبينات تفي بغرضها الرئيسي، لكنها تتجاوزه إلى آفاق رحبة من الأدب والتاريخ، لا شك أنها تشفي غليلا وتسد نقصا وتصادف هوى في نفوس القراء.
محمد فال سيدي ميله