أجريت بالأمس اتصالا هاتفيا مصورا مع أحد الإخوة المقيمين في باريس، حدثني خلاله عن نقاش دار بينه مع بعض الشباب الذين ينكرون كرامات الصالحين، ويتندرون بها، فقلت له هل تعلم أن كلامي معك مباشرة، ورؤيتك لي كفاحًا، ونحن تفصلنا قارات ومحيطات، حقيقة لا ينكرها أي مثقف مادي في سنة 2020 ،ولكني أحيطك علما أن نفس الاتصال المرئي جرى سنة 1985 بين امرأة لم تجتز حدود إكيد، وشاب يدرس في فرنسا، ولم ينكره أهل انيفرار آنذاك! فقال لي متعجبا بالله عليك كيف حدث ذلك؟
كانت عقارب الساعة تشير إلى قرب موعد النشرة المسائية، عندما طلبت “لِمْرَابْطَ” من إحدى بناتها أن تشغل الراديو، لأنه وسيلة الإخبار والترفيه الوحيدة الموجودة في القرى النائية، قامت البنت متثاقلة بسبب التعب الناتج عن صوم يوم من الشعرى، قد سال لعابه، و لم يقها من حره إلا رداء خفيف كانت ترشه بالماء – بين الفينة و الأخرى- وتغطي بها وجهها فيخفف عنها من لفح السموم، فتحت البنت الجهاز، وحاولت التقاط بث الإذاعة الوطنية عبر الموجة الطويلة، وفجأة أذاع المذيع بلاغا -قبل النشرة – يحمل نعي أحد الطلاب الموريتانيين المقيمين في فرنسا. والذي توفي بعد تعرضه لحادث سير مؤلم، وحددت وزارة التعليم لذويه تاريخ قدوم الرحلة التي تحمل جثمانه، وطلبت منهم الحضور إلى المطار لاستلامه ودفنه، ضربت البنت يدها على صدرها وفغرت فاها في ذهول ، فالرجل الذي نعى الناعي يحمل اسم أحد خيرة شباب الحي يتابع آنذاك دراساته في الجامعات الفرنسية. قالت البنت لوالدتها: وعيناها تذرفان الدموع أماه أسمعت ما سمعت؟ فأجابتها بصوت تخنقه الحسرة “أَيَّوْ” – وتعني أجل بالصنهاجية- ولكن تكتمي يا بنيتي على هذا الخبر- الذي أرجو من الله أن يكون “اسْمْ إعْلَ اسْمْ”- لا تنث الخبر لصويحباتك، حتى لا يتسرب إلى ذويه الذين أسأل الله العلي القدير أن يربط على قلوبهم. ساد الخيمة صمت رهيب، تقطعه أدعية وابتهالات العجوز التي يبدو أنها لا تزال تحت تأثير الصدمة، رغم محاولتها إخفاء ذلك عن بنيتها.
مع بزوغ أشعة الشمس بدا الحي وكأنه قد صبحه نعي، فسريان الخبر جعل الألسنة عاجزة عن النطق، فبدت الوجوه شاحبة حزينة، والحقيقة أن معظم الساكنة تلقو الخبر إما من المذياع مباشرة أو عن طريق بعض الشباب الذين تعودوا على متابعة برامج الإذاعة خلال سهرهم الرمضاني، لقد نكأ الخبر الصادم جرحا غائرا، فقد فقد الحي – في نفس الفترة من السنة المنصرمة-، فتى من فتيان أهل أعمر إيديقب البارزين علما ودينا ومروءة، هو السيد أحمدُّ السالم بن محمذباب بن داداه رحمه الله و أبدل له شبابه بالجنة، لذلك فهم لا يريدون تكرار الفاجعة و الألم، ويتشبثون بالتفاؤل و الأمل، رجاء أن تكون آذان المستمعين قد خانتهم، و لكن تطابق الاسماء أيضا يدعو إلى القلق، والشفيق مولع بسوء الظن كما يقولون.. ولكن لا هواتف ولا مراسلات يمكن أن تكذب مرجمات الظنون، ولا ملجأ من الله إلا إليه، وكان من عادة السلف الصالح التوكل على الله والالتجاء إليه فالدعاء مخ العبادة كما جاء في الأثر، ثم يقومون بإخراج الصدقة سرا، فالصدقة تدفع البلاء وتزيد في العمر، كما يلتمسون صالح الدعاء من الشيوخ والعلماء وعباد الله الصالحين، فضلا عن قراءة المدائح النبوية المجربة في كشف الغم وطرد الهم وتفريج الكرب.
كان اعتماد الحي في تواصله مع العالم الخارجي، يقوم على سيارة نقل تربطه بانواكشوط، ونظرا لندرة المسافرين، و قلة التبادلات التجارية، فقد يفصل أسبوعان بين رحلتي الذهاب والعودة. وهو ما ينتج عنه شح في المؤونة والأخبار، ظل القوم سحابة يومهم في هم وغم، وبلغت القلوب الحناجر، فالسيد محمدن بن محمد محمود بن زياد أعز فتى في القبيلة، و قد عرف بالذكاء و المثابرة والتفوق، فضلا عن ورعه وعلمه وعبادته و إخباته، ومنذ سنتين وهو يتابع دراسته للرياضيات المعمقة في فرنسا، بعدما نجح متفوقا في الباكالوريا شعبة الرياضيات من ثانوية اكزافيى كبولاني في روصو.
علمت الولية الصالحة عيش فال بنت عبد الله بن سيد بن أبُنْ، بالنبإ وذهبت ليلاً -صحبة نساء الحي- لمواساة أسرة أهل محمد محمود بن زياد، فالإخوان يعرفون عند الشدائد، ثم رجعت إلى البيت، وبعدما أنهت واجباتها المنزلية، وصلت نوافلها، و أكملت أورادها، و قامت ليلها، نامت واستيقظت وأطلعت أهل بيتها على خبر عجيب – وكل أخبار عيش فال عجيبة- قالت: ” لقد تأثرت جدا من حزن بنات عبد ربه، وسألت الله أن يرد إليهن شقيقهن سالما غانما، ثم ساحت روحي البارحة في عوالم الله ورأيت محمدن وهو يتوضأ واقفا في آنية ناصعة البياض، ولفت انتباهي ذلك المشهد، حيث أني لم أر في حياتي من يتوضأ واقفا”
استبشرت أسرة أهل عبد ربه وتيامنت بما أخبرت به “منت أبٌ”، ولا غرابة إذا صدقت بنات الشيخ محمد لفظل ذلك – فلا يعرف الولي إلا الولي- ثم تناقله أهل الحي كل حزب بما لديهم فرحون، فقد جربوا صدق كشوفات تلك الصالحة، فكم أخبرت بقدوم غائب طال انتظاره، وكم حدثت عن شفاء مريض أعجزت علته الأساة، وكم أنبأت من قنطوا من الإنجاب بقرة العين، حدث عن البحر ولا حرج… لقد وهب الله –عيش فال- قلبا سليما أنقى من الرق، فلم ترد علوا في الأرض ولا فسادا، تحب المسلمين جميعا سادة وسوقة، و تعتني بهم، كانت مقبلة على شأنها، عفيفة، قانعة، لا تأكل الغيبة ولا تسعى بالنميمة، من اللائي يأمن جارهن بوائقهن، وليست من السود أعقابا إذا انقلبت، لسانها رطب بذكر الله ووقتها مشحون بالطاعات.
جاءت السيارة بعد طول انتظار، فاستقبلتها الساكنة زرافات ووحدانا، متلهفين لسماع حديث ركابها، فأثلج البشير صدور أهل انيفرار عامة و أسرة أهل ابهي خاصة، لقد تأكد أن الموضوع مجرد تشابه في الأسماء، فهنأ الناس الأسرة على سلامة ابنها، و دعوا للفقيد بالرحمة والمغفرة.
بعد مرور أشهر عاد الطالب إلى القرية، و أكد لذويه أنه يتوضأ في تلك الآنية البيضاء خاصة للصلوات التي تحضر أثناء متابعة المحاضرات في الجامعة، والغريب أن عيش فال لم تزر مدينة انواكشوط ولا روصو طيلة عمرها، ولا رأت المراحيض الرخامية المعروفة في المدن.
توفيت المرأة الصالحة عيش فال سنة 1999 ودفنت في مقبرة “أغودس” قرب انيفرار ، وتركت فينا ذرية صالحة لله الحمد ، حلت على جدثها شآبيب الرحمة والرضوان.
ومن المؤكد أن الاكتشافات التكنولوجيا الحديثة، والتطور الهائل في وسائل التواصل، ساهم في تقبل العقل البشري القاصر للكثير من الأمور الغيبية التي كان يطلع الله عليها بعض عباده المصطفين الأخيار .. وقدرة الله لا يعجزها شيء . وقد روى البخاري في صحيحه من طريق أبي هريرة -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى قال: “مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقْد آذَنْتهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ”.